صحيح quot;إللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوتهquot;، كان هذا المثل الشعبي أول ما تبادر إلى ذهني حين تابعت على شاشة التلفزيون الليبي الحكومي مظاهر البذخ والسفه وحفلات الزار والنفاق، في الاحتفالية الصاخبة بذكرى مرور 37 عاما على الانقلاب العسكري الذي اعتلى على إثره العقيد الليبي معمر القذافي سدة الحكم، وحديثه الأخير الذي حسم فيه موقفه بلغة لا تحتمل أي لبس، إزاء دعاوى الإصلاح في بلاده، إذ حرض مؤيديه وأنصاره على quot;سحقquot; من وصفهم بالأعداء، quot;إذا طالبوا بأي تغيير سياسيquot;، قال ذلك بفجاجة لا تضيع الوقت في ألاعيب السلطة الشائعة لدى مؤسسات الحكم المستبدة بمنطقة الشرق الأوسط.
تذكرت أيضاً القصة الحزينة لمقتل المرحوم الصحفي الليبي ضيف الغزال الشهيبي، الذي اغتالته أجهزة الغدر، لا لشئ إلا لأنه قرر أن يتسق مع نفسه، وألا يبيع الخرافات والأكاذيب وألا يسقط في وحل النفاق فيتحدث ـ كغيره من الكتبة ـ عن quot;أول جماهيريةquot; وبقية المصطلحات العجيبة التي ينفرد بها النظام الليبي الذي يسجل له أنه صاحب أول quot;براءة اختراعquot; إذابة البشر في الأحماض المعدنية، وهاهو أيضاً يسجل اختراعاً جديداً هو قطع أصابع الصحفيين التي يكتبون بها ما لا يروق النظام، ليكون عبرة لغيره.
مات ضيف الغزال الشهيبي شر ميتة بعد تعذيب واضح في جثته المشوهة، ولا يزعم مخلوق ما كان يشعر به الفتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو ما نطق به حين كان المنشار الكهربائي يقطع أصابعه، أو ما صرخ به وهو يكتوي بالأحماض المعدنية، لا أحد يعرف، وأخشى أن أحداً لا يكترث، فقد مر الأمر في تواطؤ مثير للغضب، رغم التنكيل الوحشي، والأسوأ من هذا أن موته فرض عليه تعتيم لم يجرؤ معه صحفي ليبي واحد أن يسأل: من قتل ضيف الغزال؟
مات الفتي الواقف على عتبات العمر، وكل جريمته أنه نشر بضع مقالات في موقع على الإنترنت، لم ينتقد فيها أحداً بعينه، وإن كان يحق له هذا، بل انتقد أوضاعاً يعرفها القاصي والداني في ليبيا، ناقش فساداً استشرى في كل مفاصل الدولة هناك، ولم يتعرض لثروات الشعب الليبي التي بددتها الأحلام الحمقاء في التسلح النووي، الذي انتهى إلى خاتمة كوميدية، كاللص الذي يقتل أهل المنزل وكل من يصادفه، ثم يحمل المسروقات إلى مركز الشرطة ليسلمها ويعترف بجريمته، مع وعد بألا يكررها، مبدياً استعداده للإرشاد عن كل اللصوص الذين عرفهم، وهذه quot;التوبةquot; بالطبع لا ينبغي أن تعفيه من العقاب على الجرائم التي ارتكبها، لكن يبدو أن الأمور لن تمضي على هذا النحو، وأن السادة في واشنطن لهم رأي آخر، إذ تردد عدد من المسؤولين الأميركيين على طرابلس منذ دخولها quot;بيت الطاعةquot;، وهنا يحق لنا أن نتساءل عما حال دون أن تستفسر (مجرد استفسار) الخارجية الأميركية عما جرى لضيف الغزال، أو للآلاف غيره ممن سمعنا بنهاياتهم المأساوية، أو لم نسمع، خاصة في ظل نظام شمولي يسيطر على الإعلام ويصادر الحياة السياسية بالكامل تحت غطاء مثير للسخرية اسمه quot;اللجانquot; التي هي في كل مكان، ولماذا تخرس منظمات حقوق الإنسان الدولية، ولا تطالب بإجراء تحقيق في واقعة تعذيب ضيف الغزال وقتله برصاصة في رأسه؟، ولماذا لم تلوح واشنطن ـ مجرد تلويح ـ بفرض العقوبات مجدداً على quot;أول وآخر جماهيريةquot; في العالم، أم أن الأمور ستمضي بسلاسة، مقابل ما عرضته ليبيا من خدمات وتنازلات، بينما لا يزال مسؤولو ليبيا هم الأعلى صوتاً في الحديث الخرافي عن الوطنية والإمبريالية والاستعمار والملوخية بالأرانب.
نعود لمصر، ونتساءل: هل صحيح حقاً أن quot;من يرى بلاوي الناس تهون عليه بلواهquot;، ففي مصر يحدث الشئ نفسه، وإن كان وفق سيناريوهات أكثر احترافاً وإحكاماً، إذ جرت مصادرة صحيفة quot;الشعبquot;، وقبلها quot;الدستورquot;، على الرغم من أن هناك أحكاماً قضائية لكنها لا تنفذ إلا ما يروق لها ويوافق أجندتها، وهذا في تقديري أبشع من السلوك الفج الذي تمارسه حكومات بلشفية صريحة، إذ يحدث في مصر المحروسة أن يختفي صحفي مرموق مثل رضا هلال، الذي quot;أكله الذئبquot;، ويبقى اختفاؤه لغزاً، فلا يعرف أحد إن كان مات، أو سجن أو أي شئ عن مصيره، وهو الذي لم يكن نكرة ولا من quot;سقط المتاعquot;، بل كان ناراً على علم، ومع ذلك فقد تبخر، وهو مصير لا يبدو أفضل كثيراً من مصير المرحوم ضيف الغزال، ويبدو ـ والله أعلم ـ أن الصحفيين هم أول من سيدفع فاتورة التحولات التي اجتاحت العالم كله إلا شرقنا الأتعس، آخر بؤر الاستبداد في الكون، وهي quot;أم المعاركquot; التي تخوضها الإنسانية لاقتلاع تراث طويل من الطغيان، الذي صنع طبقة سميكة من المستفيدين والانتهازيين وquot;المبرراتيةquot; المستعدين دائما للي عنق الحقيقة، والعثور على quot;تخريجةquot; ما لحفظ ماء وجه الأنظمة التي نأمل أنها تعيش أيامها الأخيرة، والرهان على الشعوب، فما حك جلدك مثل ظفرك، وغاية ما يأمله الناس من المجتمع الدولي، ألا يدعم تلك الأنظمة.