كما كان متوقعاً، لمعظم المهتمين بالشأن اللبناني، ما أن تهدأ (العاصفة العسكرية الإسرائيلية) التي ضربت لبنان على مدى نحو شهر واجتاحت نيرانها الحارقة معظم بلداته ومدنه، حتى يجد (لبنان) نفسه في مواجهة عواصف من نوع آخر(سياسية)، تحركها التناقضات اللبنانية- اللبنانية ومن خلفها التناقضات العربية ndash; العربية والتناقضات الإقليمية والدولية التي أضحى لبنان ساحة مفتوحة لها.وبالفعل ما أن وضعت الحرب أوزارها حتى انفجرت الخلافات بين الأطراف اللبنانية(بين قوى 14 آذار و8 آذار ومن يقع على يمين أو يسار هذا الفريق أو ذاك) حول قرار مجلس الأمن 1701 وآليات تطبيقه وما يجب فعله لمنع تكرار ما حدث في الثاني عشر من تموز الماضي.بلا ريب هذه الخلافات تعكس انقسام اللبنانيين، طوائف وأحزاب ومذاهب، واختلافهم على معنى الاستقلال والاستقرار والسيادة والحرية.

حيال هذه الأوضاع السياسية والأمنية الجديدة، التي وضعت لبنان أمام استحقاقات داخلية وخارجية كثيرة، وبمواجهة تحديات صعبة وربما مصيرية بالنسبة لمستقبله السياسي، يرى الكثير من المراقبين والمحللين: بأن على (الدولة اللبنانية) أن تستفيد من (الفرصة التاريخية) التي وفرها لها المجتمع الدولي بوقوفه الى جانبها ومساعدته لها في فرض سلطتها وسيادتها على كامل الأرض اللبنانية عبر تطبيق كامل قرار 1701 الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية بالإجماع وبموجبه توقفت الحرب وينص على تطبيق كامل لبنود اتفاق الطائف والقرارين 1559 (2004) و1680 (2006) اللذين يطالبان بنزع اسلحة كل المجموعات المسلحة في لبنان، لتصبح الدولة اللبنانية وحدها وطبقا لقرار الحكومة اللبنانية في 27 تموز/يوليو 2006، تملك اسلحة وتمارس سلطتها في لبنان وعلى كامل حدوده، فمن شأن تطبيق هذه القرارات الدولية أن تضمن للبنان أمنه واستقراره وحمايته من أي اعتداء إسرائيلي جديد.بالطبع إنجاز كل هذا لن يتم من دون ثمن سياسي تدفعه الدولة اللبنانية ومن غير أن تتحرك وتتحمل مسؤولياتها الوطنية و اتخاذ خطوات ومواقف جريئة وحاسمة على صعيد الداخل اللبناني من شانها أن تعيد الهيبة والمكانة للدولة اللبنانية التي فقدتها في العقود الأخيرة وتسحب كل الذرائع التي تبحث عنها اسرائيل لشن حروب عدوانية جديدة على لبنان وعدم تركه ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية.

إذ أن تأجيل البحث في الأزمات وترحيل قضايا الخلاف، خاصة الحساسة منها، كالسلاح الخارج عن سلطة الدولة، لا يمكن أن يشكل حلاً لها وإنما يزيدها تعقيداً و تأزماً، ولبنان دفع وما زال يدفع ثمن مضاعفات التطبيق المشوه لـ(اتفاق الطائف).ويجتاح الشارع اللبناني اليوم قلق عام من أن ينقلب السجال الحامي بين اللبنانيين، حول مرحلة ما بعد الحرب وحول تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، الى (فوضى سياسية) وبالتالي ينحرف هذا السجال عن مساره الديمقراطي وينحو باتجاهات خطيرة. خشية اللبنانيين من أن تعاد، مع سلاح حزب الله، تجربتهم المرة مع السلاح الفلسطيني على الأرض اللبنانية بعد أن تمرد (القرار الفلسطيني) عن شرعية وسلطة الدولة اللبنانية، ومعلوم لكل مهتم الدور الذي لعبه السلاح الفلسطيني في تفجير (الحرب الأهلية اللبنانية 1975) وفي اطالة أمدها، وكيف اصطدام هذا السلاح مع معظم الفئات اللبنانية.بالطبع لا يقارن السلاح الفلسطيني مع سلاح حزب الله، فمهما تعاطفت بعض الأطراف اللبنانية مع الموضوع الفلسطيني يبقى وجوده على الأرض اللبنانية وافداً وغريباً، أما حزب الله فهو نتاج البيئة السياسية والاجتماعية اللبنانية وهو جزء أساسي منها وقد كان لسلاحه الدور البارز في تحرير الجنوب عام 2000.لكن مهما كانت، نبيلة ووطنية، دوافع وغايات امتلاك فئة بعينها من المجتمع للسلاح لا بد من أن يثير تحفظات ومخاوف الفئات الأخرى، خاصة في دولة مثل لبنان القائم على توازنات حساسة ويعاني من (المعضلة الطائفية) المنتجة لجميع حروبه الداخلية، حتى أن الكثير من اللبنانيين باتوا يشعرون بأن لبنان(الدولة والمجتمع) بات أسير تنامي القوة العسكرية والسياسية والامتدادات الإقليمية لحزب الله، خاصة بعد المواجهة الأخيرة مع اسرائيل، فهي كانت حرباً إقليمية ودولية على أرض لبنانية، وتجاوزت بتأثيراتها ومضاعفاتها السياسية لبنان وطالت محيطه العربي والإقليمي.وقد تشكل هذه الحرب، التي أظهر كل طرف نفسه منتصراً فيها، بنتائجها العسكرية والسياسية، مرحلة انعطاف تاريخية ومهمة ليس بالنسبة لمستقبل لبنان فحسب وإنما للمنطقة عامة.فمن جهة أعطت الحرب زخماً جديداً لـ(سياسة المحاور أو الأحلاف) التي عادت الى المنطقة.

وبقوة بعد الأحداث والتطورات التي شهدتها في السنوات الأخيرة، ومن جهة أخرى عمقت من أزمة (النظام العربي) وصعدت من وتيرة الخلافات والتناقضات العربية- العربية، قد تصل الى درجة القطيعة، خاصة بالنسبة لسوريا التي غابت عن اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة يوم الأحد (20- 8 -2006) لبحث تداعيات العدوان الإسرائيلي على لبنان. هذا الغياب السوري جاء بعد (خطاب التحدي) للرئيس (بشار الأسد) أمام مؤتمر اتحاد الصحفيين بدمشق ( 16- 8-2006)، بعد ثلاثة أيام من وقف الحرب، الذي أشاد فيه بالمقاومة الوطنية اللبنانية وبتضحياتها وتهجم بقوة على قوى الرابع عشر من آذار ووصفها بـ(المنتج الإسرائيلي) وبالعمل لخدمة المصالح الإسرائيلية وبسعيها لتوقيع (اتفاق 17 أيار) جديد معها وبالوقوف خلف الضغوط الأمريكية والغربية على سوريا والمقاومة، وأيضاً انتقد الرئيس الأسد في خطابه وبشدة العديد من (الأنظمة العربية) على موقفها من(المقاومة) ومن طريقة تعاطيها وتعاملها مع قضية النزاع العربي الإسرائيلي، وقد أوضح الأسد: على أن تمسك بلاده بخيار السلام لا يعني تخليها عن خيار (المقاومة)إذا ما فشل خيار (السلام) في استرداد الحقوق الوطنية لسوريا واعتبر الأسد اتهام سوريا من قبل البعض بوقوفها مع المقاومة هو شرف وافتخار لشعب سوريا.وإيران، أقوى حلفاء حزب الله وسوريا، من جهتها لم تتأخر في التأكيد على وقوفها الى جانب حلفائها في المنطقة وفي توظيف هذه الحرب في دعم التنظيرات السياسية لإيديولوجيتها الإسلامية وتقوية مواقفها في أزمتها مع القوى العظمى حول ملفها النووي، فقد سارع الرئيس الإيراني (محمود محمد نجاتي) للقول: ((ستقف إيران الى جانب سوريا إذا ما تعرضت لهجوم إسرائيلي))، ووصف الحرب بأنها: (( كانت انتصاراً للإيديولوجية الإسلامية)).بدا واضحاً أن إيران أرادت، من خلال تصريحات رئيسها وتصريحات أخرى مشابهة لمسئولين إيرانيين كبار، القول: بأن الحرب ألأخيرة بين حزب الله واسرائيل هي حرب دينية- وهي بالفعل كانت كذلك، بأدواتها وشعاراتها، وقد وصفها السيد حسن نصر الله بأنها (حرب الأمة)- كما أرادت التأكيد على زخم (البعد الإسلامي) للنزاع العربي الإسرائيلي، وسحب هذا(البعد الإسلامي)، الذي عززته(المقاومة الإسلامية) في كل من لبنان وفلسطين، على النزاع أو بالأحرى على (الحرب الباردة) بين إيران والغرب الأمريكي الأوربي على خلفية ملفها النووي.

كاتب سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات...
[email protected]