لطالما حارب الكرديّ تحت راياتٍ غير رايته، بإرادته أو برغمها، على حدّ سواء. إن إسم صلاح الدين، محرر بيت المقدس، غنيّ عن التعريف؛ هذا القائد الكرديّ، الفذ، الذي تجمع مصادر التاريخ مشرقاً ومغرباً، أنه لولا مآثره الحربية والسياسية، لما قدّر للإسلام المقام الراسخ على هذه الأرض. وإذ هيمن الجنس التركيّ على مسكبة الهلال الخصيب، وجدَ العرب والكرد أنفسهم في ظل خلافته الهمايونية؛ فإستماتوا في الدفاع عنها وتحت رايتها، أيضاً. إلا أنّ قدَرَ تلك الخلافة، السماوية، شاء لها أن تأفلَ في مغيب قرنها الخامس وعلى يد مللها ونحلها، بالذات؛ هؤلاء الذين تغلغلت في مراتبهم الإجتماعية الراقية فكرُ التنوير والحرية والمساواة، الغربيّ، المتأثر بالثورة الفرنسية بشكل خاص، والذين تحالفوا مع معسكر الحلفاء خلال الحرب العظمى. وإذاً، تضع تلك الحرب عن العربيّ أوزارَ الإستبداد التركيّ، الثقيلة، ولكنها تنقلها مباشرة إلى كاهل جاره الكرديّ. وبحسب إتفاقية سايكس بيكو، كان لا بدّ أن تتشكل الدول الحديثة، في هلالنا الخصيب، على مقاس العربيّ، المناسب، وبدون أن يكلف أحد نفسه سؤالَ جاره الكرديّ عن مقاسه. وكان لصاحب الدولة، السعيد، حظ الفخر بالعلم الوطنيّ، المستحدث، دونما حاجة لسؤال quot; مواطنه quot; الكرديّ عن حقه في مفخرة كهذه.

لطالما خدع هذا الجبليّ، المتعطش للحرية، بسراب العهود والمواثيق والأعراف؛ هوَ البسيط في شخصيته، الساذج في تدينه. صفتان إنسانيتان، كانا مناسبيْن، على ما يبدو، لكي يستمرّ الجيرانُ في quot;إستكرادهمquot; له؛ حدّ أنهم إستطاعوا تجييشه من جديد، وبإرادته أيضاً، في معاركهم ضد الوصيّ الغربيّ، الذي كان quot; عرّاب quot; دولهم المستحدثة. وبصفة دهائهم نفسها، إستطاع أولئك الجيران، اللدودين، أن يدخلوا في روع الكرديّ فصلاً تعسفياً لمفهوم quot; القومية quot;، يزعم تنافيه مع مفهوم quot; الوطنية quot;؛ فأضحى الأول، حقا شرعياً لهم وحدهم، فيما الثاني واجباً للكرديّ، وحده. ولتكرّ، هكذا، سبْحَة المهزلة الوطنية : كرديّ من quot; سيواس quot;، سيحمل علم أتاتورك، جامعاً بني قومه تحت لواءه، تحدياً للمتدخلين الفرنسيين والإنكليز واليونان، الذين كانت قواتهم تسرح وتمرح في المدن التركية، الكبرى..؛ كرديّ من quot; جبل الزاوية quot;، سيطلق أول رصاصة ضد المنتدبين الفرنسيين، ولا يلبث أن يلم ضدهم سوريي الساحل والداخل، معاً..؛ كرديّ من quot; السليمانية quot;، سيرفض مصافحة المندوب السامي البريطاني، الساعي إلى صداقته، فيما أن ملك العراق، الهاشميّ، كان يُهْمَل في ديوان ذلك المندوب نفسه لساعات طويلة، مذلة، قبل أن تتاح له فرصة مقابلة، منشودة..؛ كرديّ بيروتيّ، كان أول من رفع العلم اللبنانيّ..؛ وكردي دمشقيّ، صار أيضاً في مراتب الفعل نفسه، بسقوطه مضرجاً بدمه وهوَ يدافع عن العلم السوري، المرفوع على قبة البرلمان..

مسموحٌ للكرديّ، في هذه الدولة الفلانية، إعلانَ quot; وطنية quot; الآخرين، حسبُ؛ بيْدَ أنه من الممنوع عليه، قطعاً، إعلانه الولاء لقوميته. ومسموحٌ للكرديّ، في تلك الدولة العلانية، التغني بـ quot; حلم quot; الدولة القومية؛ إلا أنه يرتكب المحرمات حينما يجسّد حلمه على أرض الواقع مؤسساتٍ وقوانيناً وهوية وعلماً : عندئذٍ، يصيرُ إنفصالياً وجيباً عميلاً وطابوراً خامساً. هذه المفردة الأخيرة، أطنبَ بذكرها مراراً محامو الشيطان، البعثيّ، أثناء جلسات محكمة الأنفال. كان تشدقهم بذلك النعت، الموصوف، ترجيعاً لمأثرة quot; قادسية صدام quot;، بزعم تعاون البشمركة مع القوات الإيرانية، الغازية. مأثرة / مهزلة، تفترضُ أنه كان على كرد العراق، آنذاك، الممسوحة قراهم بالجرافات والمتراكمة جثثهم في المقابر الجماعية، الوقوف في صف quot; وطنهم quot; والمحاربة تحت رايته الخفاقة. مأثرة / مهزلة، ما فتئت مستمرة بعض فصولها، حتى مع إندحار الطاغية البعثيّ وقبوعه مع أقرب معاونيه في قفص الإتهام : فالحزب الحاكم، أضحى محظوراً بقانون رسميّ، تحت مسمى quot; إجتثاث البعث quot;. والدستور تغيّر، أيضاً، وأدخلت فيه نظم لم تكن معروفة قبلاً حتى في أكثر دول الشرق الأوسط، مدنية وتحضراً؛ كالفيدرالية، مثلاً. ولكنّ العلم البعثيّ، وبعد أكثر من ثلاثة أعوام على سقوط الطاغية، لم يُمسّ وبقيَ في وسط وجنوب العراق كما لو أنه رمز مقدس.

العلم البعثيّ، يُشبه صانعيه الإنقلابيين، من عدة أوجه : ألوانه المثلثة، كانت ترميزاً لشوفينية القومية الواحدة، التي لا تريد رؤية غيرها من مكونات الشعب العراقيّ؛ نجومه الثلاثة، كانت ترميزاً لدوغمائية الطغمة الحاكمة، المتاجرة بالمشاريع الوحدوية مع مصر وسورية؛ عبارة quot; الله أكبر quot;، كانت ترميزاً، أيضاً وأيضاً، لبراغماتية الطاغية، في تلاعبه بالعاطفة الدينية للجماهير داخل وخارج العراق. فما هيَ إذاً المفخرة الوطنية، المزعومة، التي يحمل هذا العلم البائس، دلالتها ؟؟ يقيناً، إنّ المرء ليتفهم إستهتار جماهيرنا العربية بحجة كرد العراق، المساقة تبريراً لتنكيس علم البعث، أبداً، من سماء وأرض كردستان؛ وهيَ أنّ quot; الأنفال quot; وغيرها من جرائم الإبادة الجماعية، قد أرتكبت تحت ظلال ذلك العلم : فلم العجب، وفضائياتنا العربية جميعا، بإستثناء العراقية، قد إمتنعت عن عرض فيلم وثائقيّ، واحد، عن تلك الجرائم ؟؟ ولم العجب، وفضائياتنا نفسها أوقفت بثها جميعاً حينما بدأ شهود محكمة الأنفال يتكلمون بلسان كرديّ، أعجميّ؛ ما داموا لا يجيدون التكلم باللسان العربيّ المبين، القويم ؟؟ لم العجبَ، و لسان أولئك الكرد، الذي يقيمون به صلواتهم ويتمتمون به ذكرهم، ربما كان أقل قدراً، لدى أهل الفضائيات، من اللسان العبريّ الذي يسرح وبمرح على أثير برامجها السياسية المباشرة وغير المباشرة ؟؟ وإذ ننحي، جانباً، الحملة المغرضة المثارة في الإعلام العربيّ بخصوص العلم الكرديّ؛ فلا محيد عن طرح هذه المساءلة، برسم القوى السياسية العراقية، الجديدة : كيف من الممكن لنا تصور صورة ألمانيا، بعيد تحريرها من هتلر، لو أنّ العلم النازيّ ما زال مرفرفاً على أبنيتها الرسمية ومدارسها وجامعاتها ووو.. ؟؟

[email protected]