-1-
مات نجيب محفوظ كما يموت كل الناس.
ولكن نجيب محفوظ عاش كما لم يعش كل الناس.
كان محفوظ انساناً مجتهداً ومخلصاً وأميناً في الأدب، والوظيفة الإدارية والسياسة، والصداقة.

رحيل نجيب محفوظ
لم تكن مهنته كروائي صادق وأمين، تنفصل عن شخصيته الاجتماعية كصديق وفي، وأمين.
ولم تكن مهنته كروائي صادق وأمين ، تنفصل عن مواقفه السياسية الصادقة والأمينة، وخاصة بعد ثورة 1952.
ولم تكن شخصيات رواياته تحاول تزوير الحياة والواقع بكل مواقفها، وآرائها، ومسالكها. فكانت شخصيات رواياته هي جوانب حياة نجيب محفوظ المختلفة.
وكما كان محفوظ محافظاً في اتجاهاته الأدبية، فقد كان كذلك محافظاً في حياته الاجتماعية، وفي أسرته وصداقاته وعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين. ولكنه في الوقت ذاته لم يكن محافظاً في مواقفه السياسية، ولم يكن متطرفاً كذلك، بقدر ما كان سياسياً أديباً.

-2-
يقال أن نجيب محفوظ كان كاتب كل العصور، وكان أديب كل الأزمنة. فرغم أنه أديب له مواقف سياسية واضحة إلا أنه لم يكن معارضاً منبوذاً في العصر الملكي، أو في العصر الناصري، أو في العصر الساداتي، أو في العصر المباركي.
كان أديب وكاتب وروائي كل العصور التي عاشها.
ونال جوائز تقديرية من كل هذه العصور، رغم أنه كان معارضاً للعصر الملكي، وللعصر الناصري بصفة خاصة. وهو الذي كان يجهر بآرائه، في انتقاد الديكتاتورية الناصرية انتقاداً مريراً. وكانت رواياته بعد 1952 وبعد هزيمة 1967 تعبر عن هذه الآراء تعبيراً واضحاً. ورغم هذا فقد غفر له عبد الناصر هذه الآراء وتلك المواقف.
لقد سجن عبد الناصر معظم المفكرين والكتاب والروائيين المصريين من اليسار واليمين والوسط، وعذبهم وشنق بعضهم، ولكن نجيب محفوظ لم يُعتقل ولم يُسجن، ولم يُحاسب عن آرائه ومواقفه.
ورغم نقد محفوظ المرير لديكتاتورية عبد الناصر وللتجربة الناصرية في عدة روايات أبرزها quot;اللص والكلابquot;، وquot;ميرامارquot;، وquot;ثرثرة فوق النيلquot;، وquot;الكرنكquot; ، إلا أن عبد الناصر اعتبر محفوظ أكبر من المحاسبة، وأكبر من العقاب، وأكبر من السجن. وأن من يستطيع أن يسجن رمسيس الثاني، ويحاسبه، ويعاقبه، يستطيع أن يسجن رمسيس الثالث عشر متمثلاً بنجيب محفوظ، الذي جلب لمصر مجداً ثقافياً أكبر بكثير مما جلبه ملوك مصر القديمة من انتصارات عسكرية وسياسية، بدءاً من رمسيس الأول وانتهاءً برمسيس الثاني عشر. وغطى كثيراً على خيبات وفشل وانكسارات عهود ما بعد 1952، وما أصاب المجتمع المصري والشعب المصري بعد ذلك من فقر وجوع وحرمان واضطهاد، نتيجة لهذه العهود.

-3-
نجيب محفوظ قدم لمصر وللعرب أعمالاً مجيدة نادرة. ليس في الرواية فحسب، وليس في القصة القصيرة فحسب، وليس في كتابة المقال، وليس في أحاديثه ولقاءاته، ولكن في المواقف السياسية أيضاً، كمثقف عضوي ملتصق بمجتمعه وبقضاياه ومشاكله.
فوقف ضد الديكتاتورية، وضد نظام الحزب الواحد، وسخط على العهود التي تحارب الديمقراطية والتعددية في مصر وفي العالم العربي، ودعا في كل رواياته للحرية والعدالة، واعتبر الديكتاتورية هي أسوأ ما في النظام السياسي، حتى ولو كان هذا النظام وطنياً ومخلصاً ويعمل لصالح المعذبين في الأرض. فالديكتاتورية سيئة، تمحي وتمحق باقي الحسنات التي يمكن أن يحققها النظام الديكتاتوري.
كذلك تجلّت شجاعة محفوظ الليبرالية في وقوفه وتأييده لمبادرة السلام المصرية، ومعاهدة كامب ديفيد 1979، رغم النقد المرير والهجوم الغوغائي الذي وجه اليه وقتها. بل إن كل من كان يكتب عن فن نجيب محفوظ بعد هذا التاريخ، كان يعتبر من عملاء الاستعمار والصهيونية، وبأنه من مؤيدي quot;سلام الاستسلامquot;. وعندما كتبت كتابي ( مذهب للسيف ومذهب للحب) عن فن نجيب محفوظ الروائي عام 1985 ، اتهمتُ بالتهم نفسها. وما زالت هذه التهم تلاحقني حتى يومنا هذا.
وهكذا عاش نجيب محفوظ ومات في الجاهلية العربية.

-4-
وكما لم يقدم مثقف مصري أو عربي لأمته من عطاءات ثقافية قيمة كما قدم نجيب محفوظ لمصر وللعالم العربي، فإنه لم يُسيء مجتمعٌ، ولم تُسيء ثقافةٌ وأمةٌ كما أساء المجتمع العربي والثقافة العربية لنجيب محفوظ في حياته.
ففي بداية حياته الأدبية وحتى ما بعد الخمسينات بقليل، لم يلتفت اليه النقد الأدبي العربي، بل إن quot;المثقفين الاشتراكيينquot; والنقاد الاشتراكيين المصريين كمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض وغيرهم والنقاد الإسلامويين كسيد فرج وغيره احتقروا محفوظ ورواياته وعدوها من بقايا الأدب البرجوازي النتن، ولم يقف إلى جانبه في هذه الفترة غير ناقدين: الأول يميني، وهو سيد قطب الذي بدأ حياته ناقداً أدبياً وكتب كتاباً في (النقد الأدبي) وانتهى مفكراً متطرفاً دينياً سياسياً إلى حبل مشنقة عبد الناصر. وكان قطب قد أوصى بأن تكون رواية محفوظ (خان الخليلي) في كل بيت لما فيها من فضائل الأخلاق. وكان الثاني أنور المعداوي، الناقد من المدرسة الواقعية، الذي كان يكتب مقالات عن (الواقعية في أدب نجيب محفوظ) وعاشق الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، وحبيبها الذي لم يحظ بحبها والاقتران بها، ومات بحسرته وماتت هي بحسرتها كذلك. وكان المعداوي، هو الناقد المصري الوحيد الذي أنصف محفوظ منذ بداياته، وحتى رحيل المعداوي عام 1965.
ولم يفطن النقد العربي المعاصر لعظمة فن نجيب محفوظ إلا بعد نيله جائزة نوبل عام 1988، وبعد أن تمت ترجمة بعض رواياته إلى مختلف اللغات العالمية، وبدأ التعريف به في الغرب. فبدأ سيل من كتب النقد الأدبي العربي يتدفق على المكتبة العربية. وبدأ طوفان ضخم من الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه يجتاح سوق الكتاب العربي.
وهكذا عاش نجيب محفوظ ومات في الجاهلية العربية.

-5-
ولقد هاجمنا محفوظ وشتمناه، ومسحنا به الأرض، عندما وقف محفوظ ذاك الموقف العقلاني الليبرالي الجريء والنادر من معاهدة السلام المصرية ndash; الإسرائيلية، وأعرب عن وجهة نظره الإنسانية والحضارية الشاملة تجاه هذه المعاهدة، والتي ملخصها أن التفوق على اسرائيل لن يكون بالحرب التي لا نملك من أسلحتها ومن عدتها شيئاً ، ولكن تفوقنا على اسرائيل يكون بالعلم والتقدم وتبني الحداثة والحرية والعدالة والديمقراطية.
لقد أدرك المثقف العقلاني الواقعي، وصاحب المدرسة العقلانية ليس في الرواية فحسب ولكن في السياسة أيضاً، أن الطريق العربي المسدود لن تشقه الفتوحات العسكرية الخيالية والمغامرات الدينكوشوتيه، ولكن تمهده العلوم العربية والحداثة العربية.
لقد كان نجيب محفوظ يؤكد في رواياته وفي أحاديثه وفي مقالاته، إن النصر العربي العسكري على أية جبهة من الجبهات لن يتأتى إلا بالنصر العلمي والنصر الثقافي أولاً، وبانتصار التقدم على الجهل والتخلف، وبالديمقراطية على الديكتاتورية، والعدالة على الظلم، والواقعية على التهورية، والنقد الذاتي على التبجيل والتقديس للذات.
وكان محفوظ بذلك بشيراً من بشراء الليبرالية العربية، ونذيراً من نذرائها، ورسولاً مبكراً من رسلها. ولقد خسرت حركة الليبرالية العربية برحيله نوراً من أنوارها الباهرة، وأباً من آبائها المؤسسين.
وهكذا عاش نجيب محفوظ ومات في الجاهلية العربية.

-6-
لقد كافأت مصر وكافأ العالم العربي نجيب محفوظ بمنع بعض رواياته. بل إن مدارس في بعض البلدان العربية حرّمت قراءة رواياته، وسحبتها من مكتباتها. وأصبحت كل رواية من روايات نجيب محفوظ بمثابة (تربة حشيش) في بعض الدول العربية. واعتبرته دول عربية أخرى عميلاً اسرائيلياً، وضابطاً ثقافياً في الموساد. ومنعت دول عربية أخرى دخول وعرض الأفلام التي تصوّر رواياته، والكتب النقدية التي تتحدث عن أعماله الروائية.
وعندما كان نجيب محفوظ قبل جائزة نوبل فقيراً، لم تتقدم حكومة مصرية أو دولة عربية باهدائه بيتاً حديثاً، أو فرشاً عصرياً. ولم تخصص له راتباً اضافياً مريحاً، رغم ما أضاف من ثقافة رفيعة لمصر وللأمة العربية. ولم يمُدَّ أحد من الأثرياء والأمراء يدَ العون له. وعندما طعنته الجماعات الإسلاموية في رقبته عام 1994 ، وكادت أن تذبحه بالسكين، وتجزَّ رأسه جزَّ الخراف، كما تفعل الآن في العراق، وتوقف على إثر ذلك محفوظ عن الكتابة،لم يتقدم أمير أو ثري للوقوف إلى جانبه في محنته. لم تُهدَ له سيارة (كشخة)، ولم يُعيّن له سائق، ولم يُمنح اجازة في إحدى المنتجعات الأوروبية، ولم يُحسن اليه أي نوع من الإحسان، بينما كانت المجوهرات الثمينة والسيارات (الكشخة)، والفلل الجميلة في منتجعات العالم، والهدايا القيّمة تُقدَّم وتنهمر دون حساب، على الممثلين والممثلات، والمغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات من التافهين والتافهات.
وهكذا عاش نجيب محفوظ ومات في الجاهلية العربية.

-7-
لقد حاولنا أن نقتل نجيب محفوظ عام 1994، وصادرنا كتبه، ومنعنا الأفلام التي صوّرت رواياته وشخصياته، واضطهدنا نقّاده ومقيّميه، وأهلمناه في صحافتنا وإعلامنا بعد عام 1980، بل واتهمه بعض الروائيين المصريين من زملائه كيوسف ادريس، بأنه نال جائزة نوبل لمهادنته لإسرائيل، وليس لقيمة أدبه وفنه الروائي، كما قال رجاء النقاش في كتابه (في حب نجيب محفوظ).
فلا تقولوا لي أنه أصاب من الدرس والنقد والتكريم ما لم يصبه أي مثقف عربي. فأنا أقول لكم بأن لا مثقف عربياً قدم بجد واجتهاد ومسؤولية وتواضع كبير ما قدمه نجيب محفوظ للأدب وللثقافة العربية. والدليل هو اعتراف الغرب به أكثر من اعترافنا به، ومعرفة الغرب به أكثر من معرفتنا به، حين قدم له عام 1988 أكبر وأثمن جائزة في العالم.
فنجيب محفوظ عند كثير من عامة العرب حتى الآن، هو نوع من الخضار يُطبخ بالصلصة مع اللحم والرز، وذو طعم طيب، ويفضّل أكله في العشاء في رمضان، بعد افطار خفيف. وهو في بعض البلدان العربية ولدى عامة بعض الناس نوع من الفاكهة المصرية كالمنجة والجوّافة والبلح الزغلول.
وطلبة المدارس في معظم أنحاء العالم العربي لا يعرفون من هو نجيب محفوظ، لأنه لم يكن ممثلاً أو مطرباً، ولأن لا مكتبات في المدارس، وإن وجدت مكتبات، فروايات نجيب محفوظ ممنوعة في هذه المكتبات كما هي ممنوعة كتب طه حسين وبنت الشاطئ ونوال السعداوي وغيرها.
ولو كان نجيب محفوظ نجماً من نجوم الغناء أو نجماً من نجوم السينما أو نجماً من نجوم السياسة في الفضائيات العربية لخرج بالأمس في جنازته مئات الآلاف من البشر في حي الحسين. أما وأنه كاتب روائي ودرويش متواضع من دراويش الثقافة، فلم يخرج بجنازاته من مسجد الحسين بالقاهرة غير عشرات من (غلابة) الحي وفقرائه الذين عاش بينهم محفوظ، وكتب عنهم رواياته الخالدة. في حين خرجت الملايين في جنازة المطربين والمطربات والممثلين والممثلات.
ولكن لا تحزنوا، فالتاريخ الثقافي والسياسي العربي والانساني سيكرّس صفحات مضيئة وكثيرة لرمسيس الثالث عشر، الفاتح الكبير والعظيم في الثقافة العربية المعاصرة.
وهكذا عاش ومات محفوظ الفاتح الروائي الليبرالي الداعي إلى الحرية والعدالة في الجاهلية العربية.
السلام عليكم.