مرت قبل أيام الذكرى الخامسة لكارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي استهدفت نيويورك بالدرجة الأولى. وهذه الكارثة كانت قد أُشبعت بحثاً وتحليلاً سياسياً/دينياً بالدرجة الأولى، فلا جديد كثيراً فيها يقال. في حين أن التحاليل الاجتماعية والتربوية والتعليمية والاقتصادية لم تحظَ إلا بالاهتمام القليل جداً. وانتفت التحليلات التي تردُّ بعض

دراسة: 11 سبتمبر في عيون شعراء عرب
أسباب هذه الكارثة إلى وجود عناصرها التدميرية والشعور بالعداء والحقد والكراهية لمدن الغرب وقيمها وخاصة مدينة نيويورك quot;عين الكارثةquot; في اللاوعي الثقافي العربي، وفي لاوعي الشعراء العرب الحداثيين المهمين في الشعر العربي المعاصر خاصة، وليس فقط في لاوعي الإرهابيين وقادتهم الذين قاموا بهذه الكارثة.
فمشهد تدمير نيويورك لم يكن غائباً عن ذاكرة شعراء الحداثة، كما لم يكن غائباً عن ذاكرة الجماعات الدينية الارهابية، التي سبق واستهدفتها عام 1993، قبل نكبتها في 2001.
فلماذا نيويورك بالذات كانت الهدف الأول، وتلتها مدن عريقة أخرى كمدريد ولندن، فيما بعد؟
نيويورك بوابة العالم الجديد، مدينة الغرباء، غريمة الشعراء، صندوق مال العالم، المدينة التي تتفجر ذهباً وعِلماً وفناً، المدينة اللامعة المبرقة المبهرة، عاصمة نشر الكتاب في العالم، عاصمة الصحافة العالمية، عاصمة المسرح في العالم، عاصمة الأزياء، عاصمة الفقراء والأغنياء، المدينة الزجاجية، مدينة الجامعات العريقة، حاضنة الأمم المتحدة، المدينة التي ترى فيها الحياة في سرعتها القصوى.
ولكن نيويورك هذه لم تكن هكذا في مخيال الشعراء العرب المحدثين قبل الكارثة. بل هي كانت المدينة الفاجرة، ذات القلوب المحشوة اسفنجاً كما وصفها الشاعر أدونيس، الذي قال عنها في 1971 قولاً ربما قرأه اسامة بن لادن أيام كان شاباً يافعاً مندفعاً (ولد 1958حسب مجلة تايم)، وربما لم يقرأه. ولكن شاعراً كأدونيس وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، كانوا قد فجّروا نيويورك ودمروها في مخيلتهم وشعرهم، قبل أن يفجرها ابن لادن على الواقع، ويحدث فيها تلك الكارثة الإنسانية الفظيعة.

فهل حَقَدَ الشعراء الحداثيون على نيويورك وما ترمز اليه من قيم بشعة باعتقادهم، قبل أن يحقد عليها الارهابيون ويفجروها؟
في عام 1971، دعا أدونيس في قصيدته الجنائزية الطويلة (26 صفحة) quot;قبر من أجل نيويوركquot; إلى تدمير نيويورك شعراً من خلال هذه الصور السوداء، قائلاً:
حضارةٌ بأربعة أرجل؛ كل جهة قتل وطريق إلى القتل
تمثال امرأة ترفعُ خرقةً يسمّيها الحرية، ورق نُسمّيه
التاريخ، وفي يدٍ تخنق طفلة أسمها الأرض
جسد بلون الإسلفت. حول خاصرتها زنار رطب، وجهها شباك مغلق
نيويورك
سوق العبيد من كل جنس.
بشر يحيون كالنباتات في الحدائق الزجاجية.
بائسون غير منظورين يتغلغلون كالغبار في نسيج الفضاء
ضحايا لولبية، الشمس مأتم ، والنهار طبل أسود.
نيويورك
كل جدار فيك مقبرة. كل نهار حفّارٌ أسود،
يحمل رغيفاً أسود، صحناً أسود، ويخطط بهما تاريخ البيت الأبيض.

وفي عام 1977كتب الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي قصيدته quot;قداس جنائزي الى نيويوركquot;، دعا فيها هو الآخر إلى تدمير نيويورك شعراً ، من خلال أمنيته في أن تصبح نيويورك، كما غدت صباح 11 سبتمبر، كمدينتي سادوم وعامورة، الفاجرتين اللتين أُمطرتا بالكبريت والنار في زمن لوط:

موسيقى تعلن عن quot; عامورة quot; في القرن العشرين
وquot;سادومquot; المجهول المعلوم .

وفي عام 1991، قال الشاعر العراقي سعدي يوسف، مخاطباً أمريكا ناقماً عليها، حسيراً وأسيفاً في قصيدته America, America بعد حرب الخليج 1991، متأثرا بحجم الدمار الذي أصاب العراق ومدينته البصرة بشكل خاص في عملية ( عاصفة الصحراء (:

خذي مسدس جيمس بوند الذهبي وأعطينا كركرة مارلين مونرو
خذي اللحية الأفغانية وأعطينا لحية والت ويتمان الملأى بالفراشات
خذي صدام حسين وأعطينا لينكولن !

ووالت وايتمان هو الشاعر والفيلسوف الأمريكي الليبرالي الأشهر، صاحب (أوراق العشب).
وهكذا بدت نيويورك في الماضي في عيون الشعراء العرب الحداثيين، وكأنهم يصفونها بعد أن وقعت الكارثة الكبرى فيها في 2001. وبالتأكيد، فإن ابن لادن لم يقرأ هؤلاء الشعراء في صباه وفي شبابه، وربما لم يسمع بهم. فقد كان غارقاً في قراءة كتب سيّد قطب وكراهيته للقيم الغربية، وحفظ دروس quot;الولاء والبراءquot;، وصفحات من quot;الحاكمية للهquot; التي نقلها قطب عن أبي الأعلى المودودي، وأحاديث ووسوسات محمد قطب أيام كان أستاذاً في جامعة الملك عبد العزيز بجده 1975، وكان ابن لادن طالباً فيها.
ولكن مشهد دمار نيويورك في 11 سبتمبر 2001 كان قائماً في اللاوعي الجمعي العربي، وفي لاوعي الشارع العربي، وفي مخيال الشعراء العرب، وهو ما لم يُدرس حتى الآن من قبل نقاد الأدب وباحثي التاريخ (السيوأدبي)، الذين عليهم أن يلتفتوا إلى هذه الظاهرة المهمة، وهي ظاهرة أننا أوقعنا كارثة 11 سبتمبر في الشعر العربي (ديوان العرب)، قبل أن نوقع هذه الكارثة على الأرض في 11 سبتمبر 2001. لقد كان مشهد هذه الكارثة في لاوعينا، كتاباً ومثقفين وارهابيين، من خلال هذه الكراهية، ومن خلال هذه الثقافة، ومن خلال هذا العداء، الذي نكنّه للغرب منذ مطلع القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى، وصدور وعد بلفور عام 1917، وما تلا ذلك من استعمار بريطاني وفرنسي وايطالي للعالم العربي، وما تلا ذلك من هيمنة أمريكية وسوفياتية، بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكننا لم نكن نحن الأمة الوحيدة التي لديها هذه الكراهية للغرب في لاوعيها، ولم يكن شعراؤنا هم وحدهم الذين نقموا على أمريكا هذه النقمة وكرهوها هذه الكراهية. فقد سبق لشاعر اسبانيا العظيم غارسيا لوركا صاحب ديون (شاعر في نيويورك) أن كره أمريكا، وكره نيويورك كرهاً شديداً. وسبق لشاعر ألمانيا وكاتبها المسرحي برتولد بريخت أن كره أمريكا، وكره نيويورك وغادرها احتجاجاً على غياب العدالة منها. بل إن الممثل الشهير شارلي شابلن - وهو المواطن الأمريكي من أصل انجليزي ndash; هاجر منها إلى سويسرا، وتنازل عن جنسيته الأمريكية، وأوصى أن يُدفن بسويسراً احتجاجاً على القيم الأمريكية الزائفة. وهزئ من تمثال الحرية في نيويورك، كما لم يهزأ به فنان من قبل. ولكن هؤلاء جميعاً لم يكونوا سبباً في كارثة فظيعة ككارثة 11 سبتمبر 2001.
فهل كانت هذه الكارثة أبعد من أن تكون بتأثير مواقف الشعراء والمثقفين والفنانين من أمريكا ومن قيمها التي يعتبرها البعض زائفة؟

لا شك في ذلك.
فالشعر لا يُدمر مثل هذا الدمار، والفن لا يفعل هذا كذلك. وما حدث صباح 11 سبتمبر 2001 ، هو بالتأكيد ما قاله الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه غلوكسمان من أن quot;قذارة القرن العشرين بأسره سقطت على منهاتهن كي تفتح القرن الحادي والعشرينquot;. السلام عليكم.

[email protected]