مقدمة المقدمات

قال الفيلسوف الألماني الإنساني الجميل (هابرس ماس) في أحدى لحظات يقظته الشرسة (أن المسألة الأساسية في ا لفلسفة هي العقل)، وما زال وسوف يبقى!
نتحدث عن العقل الإنساني بطبيعة الحال، أي عقلي وعقلك وعقله وعقلها، العقل الذي نتوسل به لحل مشاكلنا، ونتوسل به لحل معضلات الكون، ونتوسل به لتحليل النصوص، ونتوسل به على الاستنتاج والاستقراء، نتوسل به لاكتشاف التناقضات، ونتوسل به لوضع النظريات الرياضية والمنطقية والفلسفية، ذلك أن الملائكة عقل خالص كما تقول الأديان، والله عقل كما يقول اللاهوت، وكل مجرد هو عقل كما تقول الفلسفة العقلية القديمة وربما الحديثة أيضا.
إنه عقل الإنسان سواء كان مكتشف النظرية النسبية أو ذاك المشغول بهمه اليومي، يكافح من أجل قطعة خبز بائسة يسكت بها صرخة جوع ظالم، أو خرقة قماش يستر به عورة مستهلكة.
ذلك هو العقل!
ولكن لماذا؟
لماذا كان العقل ــ الإنساني ـ وما زال وسيبقى هو المسألة الأساسية في الفلسفة؟
هل هو كلام عن طبيعة التفكير؟
هل هو كلام عن طرق التفكير؟
هل هو كلام عن مراحل الانتقال من المعلوم إلى المجهول؟
هل هو كلام عن المجرد وغير المجرد؟
هل هو كلام عن العلاقة بين المعقول الذهني والموجود الخارجي؟
هل هو كلام عن معايير الصحة والخطأ؟
هل هو كلام عن تلك المعلومات الفطرية التي يدعيها بعض الفلاسفة؟
الأسئلة تطول... تتعقَّد... تتناسل... تتفرع... يحاسب بعضها بعضا، يدحض بعضها بعضا، أنها أشبه بغابات وعشائر ومدن وقرى وتقاليد وأسرار ومحرمات (كارسيل) في روا يته الشهيرة الساحرة المذهلة (مائة عام من العزلة)!
أين هو محل الكلام؟
أين هي المعضلة؟
الحديث عن العقل ــ الإنساني ــ مغامرة مجنونة، مغامرة مخيفة ، مسألة شاذة، لأنها تنطوي على وضع شاذ، عصي على التصور والمعقولية ، عصي على التحليل الذي يؤدي بك إلى نتيجة دافئة، تتعامل معها باطمئنان، ترتاح إليها، تؤمن بها بشجاعة وأنت تمارسها في أعمالك الفكرية والفلسفية الأخرى.
هي مسألة العقل، ولكنها عصية على العقل ذاته...
أليس ذلك شيء غريب؟
فنحن بالعقل نجري عمليات التحليل والتركيب، وبالعقل نستنج ونقيِّم ونحكم، وبالعقل نختصم و نتخاصم، وبالعقل نحل المسائل الرياضية، وبالعقل نشيد ا لمعمار الفلسفي..
أليس كذلك؟
فكيف يعطبُ العقل هنا؟
بل كيف يعطب من الولوج إلى أقرب الأشياء إليه؟
إن أقرب شي إلى العقل هو العقل ذاته، أقرب الإشياء إلى العقل هو العقل نفسه ، ولكن في نفس الوقت أبعد شي عن منال العقل هو العقل ذاته!
هل ذاك إلا سر الله؟
فالله أقرب إلينا من حبل الوريد، ولكنه سبحانه وتعالى هو أبعد ما يكون البعد من أن نعرف كنهه ... كيفية عمله... ذاته...علمه... بل كل صفاته...
ألم تحر فيه العقول؟
كذلك حارت العقول في العقل.
الحديث عن العقل بالعقل، هنا مكمن السر، هنا ينبثق السؤال بعد السؤال، ترى أين هي الذات وأين هو الموضوع؟
أين هو العقل وأين هو المعقول؟
أين المنعكس والمنعكس عليه إذا كانت عملية التفكير هي مجرد انعكاس الواقع على لوحة الذهن كما تقول المادية في المعرفة ؟
بل كيف يعرف العقل تاريخه وهو لم يمثل أمامه في هذه اللحظة؟
لا نريد الحديث بداية عن التفكير بالعقل، بل التفكير في العقل، وفارق كبير بين الأفقين، هناك نتحدث عن العقل كحركة، عن نشاط العقل، عن جولاته وصولاته في الكون والحياة والمادة واللغة ، فيما هنا، نتحدث عن العقل بالذات، في بنيته، في تضاعيفه، في هويته، في عالمه الخاص، في ملكوته، في جبروته، في صفحاته ومكوناته ـ والكلام هنا مجاز ــ نتكلم أسراره.
يغيب الحديث عن التفكير (في) العقل كما هو، فيما يسيطر الحديث عن التفكير (بـ) العقل، هناك ذات، وهنا حركة، هناك بنية، وهنا نشاط، وفارق ضخم وعميق وجوهري بين الموضوعين.