العقل الخالي

تبقى السياسة ميداناً واسعاً للغيلان، ويبقى غيلان السياسة مشروعاً مفتوحاً على الدمار والمجهول. عندما افتتح نجادي رئاسته بالشعارات الرنانة الموجهة لإسرائيل، اعتقد الكثيرون، أن إيران وقعت بمأزق القائد الـ(بوّاق) على شاكلة (صدام). القليلون فقط احتملوا أن تكون تهديدات نجادي أكثر من مجرد ضجيج سياسي، القليلون احتملوا أن بجعبته مشروعاً يتحول بإيران من كونها فريسة لكونها مفترس، بل ومفترس بشع. يتحول بها لـ(غول) شرق أوسطي يُحاوِل معادلة الكفّة التي تُثْقِلُها أمريكا لوحدها.
إنَّ أيَّ مسح بسيط لإستراتيجية أمريكا، تكشف عن أنها في صراعها مع الآخر لا تتوقف عند مطلب أو مكسب، بل إنها وكلما حقق لها عدو مطلب ما، طالبته وبسرعة فائقة بغيره، حتى دون أن تُمْهِلَه فرصة يترقب فيها شكرها له. هكذا تعاملت أمريكا مع صدّام ومع سوريا، وهكذا فعلت وتفعل مع السعودية اليوم ومع الجميع. أمريكا لا تشكر لغريم تنازلاً ما، بل هي فوق ذلك تتقدم باتجاهه خطوة كلما انسحب هو نصف خطوة إلى الوراء.
سياسة خاتمي لم تنجح مع أمريكا؛ فخاتمي كان يقاتل من داخل إيران، يدافع عن مواقف إيران، يريد أن يثبت لأمريكا حسن نوايا إيران، يعدها بإسلام إيراني معتدل.. الخ. وكلما نجح برفع تهمة كالت لإيران تهمة غيرها. وكان خطأها فادحا عندما فعلت ذلك. لأنها حمَّلته أكثر مما استطاع أن يتحمَّل وتتحمَّل معه إيران، كان خطأ أمريكا فادحاً عندما جعلت إيران تشعر بأن وجودها مهدد، ما دفعها لاستدعاء نموذج نجادي. نموذج القائد (الشعاراتي) المتهور. هذا النموذج من القادة خطير (هتلر، موسوليني، صدّام، شارون... الخ) كل هؤلاء عرَّضوا العالم لتجارب تدميرية، والمشكلة أن الشعب إذا خاف على وجوده طلب منقذا من هذا القبيل، وخطورة هذا النموذج لا تطاق عندما يصبح وجوده مطلباً شعبياًً.
أمريكا أعطت لنموذج نجادي فرصة للظهور بمحاصرتها نموذج خاتمي. وها هي الآن تغصُّ (باللقمة الشرق أوسطية) بعد أن أصبحت غير قابلة (للبلع) بسبب الغول لإيراني الكبير.
هذا الخطأ لم تقع به أمريكا وحدها، بل وجميع من يحمل عقلاً بطولياً، جميع من يعتقد أن البطولة حكرٌ عليه، وأن الشجاعة مخلوقة له وحسب. الفلسطينيون ساعدوا على إعادة شارون، بسبب بطولاتهم، كانوا يحسبون أن اليهود سَيُلْقُون بأنفسهم في البحر هرباً من أبطال حماس وأجسادهم المفخخة. لكنَّ اليهود بدلاً من ذلك صوتوا لشارون، أي استدعوا نموذجهم البطولي المتهور. شارون الذي يحمل عقلاً كالذي تحمله حماس، أيضاً وقع بنفس الخطأ عندما أفشل ياسر عرفات، أيضاً ببطولاته. فقدم بذلك السلطة، لحماس على طبق من ذهب...
يا لله ويا للمغفلين! لماذا يفكرون بهذه السطحية دائماً؟ فهكذا فكر مغفلوا العراق، عندما فتحو بوابة العنف، ضناً منهم أن محاصرة مكون ما، بنار التفجير من شأنها أن تلقي به خارج الحدود، لكن نار التفجير خلقت نار الخطف والقتل.. مستدعية نموذجاً بطولياً جديداً.
لكن.. هل أخطأت أمريكا عندما ضربت إيران ثقافياً، وحاصرتها سياسياً، وهددتها عسكرياً؟
هل تعاملت معها ببطولة مفرطة؟
إزاء تلك الضغوط لم تنهزم إيران، بل أفرزت نجاد، الذي فتح الملف الإسرائيلي، مباغتاً أمريكا، وفي الوقت الذي حاولت فيه أن تُعِدَّ العدة لرد صفعة، فتح هو من جهته الملف النووي، وبينما راحت أمريكا تجمع بين ورقة البرادعي (البالية) وبين الضغوط السياسية والتهديدات العسكرية، لتحجيم الخطر النوي. لعب معها بورقة حماس، ثم بورقة حزب الله، وكان في كل هذه التحركات، يغطي على سير عملياته (التغلغلية) في العراق بدأ من التغلغل في الواقع الشعبي الجماهيري وانتهاء بالاستحواذ على مقاعد البرلمان. إيران نجحت بالخروج من عقدت الخوف التي سببها (مصير صدام)، العقدة التي هدمت القذافي وأرعبت الأسد، وهي بنجاحها هذا فتحت الباب أمام الجميع للتفكير بليّّ الذراع الأمريكي. إن الأذرع الإيرانية التي تمتدُّ الآن في المنطقة تهدِّد شعوباً بالإبادة، وتنذر بالويل والثبور، فصراع أبطال السياسية ليس كأي صراع؛ صراع العقل البطولي صراع مريض؛ فهو خالي من الحكمة ومليء بالعجرفة. ونحن العراقيين نعرف الآن أكثر من أي وقت مضى جنون هذا العقل وعنجهيته، ومقدار الخسائر التي يتسبب بها. لدى إيران مصالحها في المنطقة، وهي تريد أن تحمي وجودها، وقد انتدبت لذلك أحد أبطال التاريخ، الذين يحسنون (سحل) آلاف الجثث خلفهم وهم يتجهون صوب انتصاراتهم.
سعي إيران لأن تكون (غولاً شرق أوسطياً) ليس وليد هذه الأيام، بل هو مشروع مطروح إيرانياً ومعروف خارجياً. لكن مثل هذه المشاريع تبقى دائماً بحاجة لمن يحولها لواقع ناجح، وها هو نجادي يسعى لذلك، بإخراج إيران من منطقة الدفاع لمنطقة الهجوم. مستخدماً نفس الأسلوب الذي استخدمته أمريكا في تجاوزها قرارات المجتمع الدولي عند ضربها للعراق. (بالمنطق والعقل البطوليين). بهذا الاسلوب يقود نجادي إيران الآن نحو الهاوية، ذلك أن الخيارات الأخرى غير ممكنة أبداً، فما دامت أمريكا القوية هي اللاعب الوحيد، تبقى خيارات السلام معدومة ويبقى العقل البطولي هو الفاعل الأول في الساحة الدولية.