تلقفت تنظيمات الإسلام السياسي خطاب بابا الفاتيكان بنيديكت السادس بفرح غامر. فبعد أن أفرغّت هذه التنظيمات جل حقدها الدفين وشحنات الكره الموجهة للآخر، في موضوعة الرسوم الكاريكاتورية التي صورّت نبي الإسلام محمد، بدأت في تلقف تصريحات البابا هذه والأشتغال عليها بغية تحريض وتعبئة الدهماء من أنصارها في الشارعين العربي والإسلامي. فشاهدنا من جديد اعداد هائلة تخرج للتظاهر، أناس يتقافزون في الشوارع بغضب، بأزيائهم المهترئة المميزة ووجوههم الكالحة صارخين بالموت والدمار للغرب ورموزه، وممجدين رؤوس الإرهاب العالمي من عصابات القاعدة ومجرمي كتائب الموت التكفيرية في العراق...

الأنظمة العربية والإسلامية القابضة على أعناق مواطنيها أستغلت الفرصة من جديد لكي quot;تنفسquot; قليلاً من حالة الكبت والقهر التي تعيشها هذه الشعوب،جراء سياسة السلب والنهب التي تمارسها هذه الأنظمة بحقها، فتفرغ قليلاً من غضبها وفشلها الحضاري في وجه عدو بعيد،مختلف يقبع خلف البحر المتوسط، قالت وسائل الأعلام الحكومية إنه quot;إنتقد الإسلام ونبي الإسلامquot;. والحال، أن بابا الفاتيكان كان
يستشهد بآراء وردت منذ مئات السنين، أي منذ العصور الوسطى. وكل الذي فعله إنه عمدّ إلى نقلها والإستشهاد بها أمام جمع من اللاهوتيين المختصين. وكتب السير والأخبار الإسلامية نفسها تكتظ بأخبار وقصص عن النبي محمد وصحبه تبدو أكثر quot;حدةquot; بمئات المرات من ذلك الرأي الذي تلفظ به البابا. لكنه الحقد الأعمى على الآخر المغاير، وتوقع سوء النيّة فيه وهو يتعرض للإسلام ويناقش ويخوض بعض الأمور فيه...

تنظيم الأخوان المسلمين، quot;أصل البلاء، وأصل مشكلاتنا جميعًا، وإفرازاتنا كلهاquot; على حد وصف وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز لهم، كان القائد والمتصدر في الحملة الغوغائية ضد البابا والغرب، على خلفية الرأي المطروح. لقد عمدّت فروع هذا التنظيم السلفي الرجعي إلى تحريض الشارعين العربي والإسلامي ضد الغرب، مثلما فعلت حين أزمة الرسوم الكاريكاتوية، ووظفّ التنظيم ورموزه من منظرّي ومبرري الإرهاب الإسلامي كل ذلك بغية إستقطاب المزيد من المحبطين والعاطلين عن العمل والحياة لصفوف تنظيمهم، وشحنهم بجرعات الحقد والكره الآتية من النصوص الصفراء، وتفسيرات السلف الغير صالح من شاكلة فقيه الحرب إبن تيمية الحراني... والخوف أن يلجأ quot;معتوهquot; آخر من صناعة الأخوان للهجوم على كنائس الأقباط المسالمين، فيقتل ويجرح العشرات منهم، بغية الإنتقام من البابا أو الثأر من مملكة الدنمارك؟.

والأغرب أن قادة الأخوان، وبشكل خاص في مصر صاروا يصدرون التصريح تلو الآخر، في وجوب إعتذار البابا أعتذاراً واضحاً وبيناً، وكأنهم في دولة الخلافة المنشودة ( التي يسعون لتحقيقها) يتكلمون بأسم المسلمين في أطراف وأصقاع quot;دار الأيمانquot;، وquot;فسطاط أهل الخيرquot; ذاك!. ووجد قادة الأخوان مبتغاهم، كالعادة، في منابر فضائية quot;الجزيرةquot; القطرية التحريضية، التي حملّوها محتوى خطبهم النارية، وصور بياناتهم الطحلبية الضارة تلك...

وفي تركيا، تصدرّ رجب طيب أردوغان، زعيم (حزب العدالة والتنمية)، الفرع التركي للأخوان المسليمن، ليقود بدوره حملة إستنهاض همم ضد الغرب والبابا. وطبعاً لم يرف لأردوغان هذا جفن وهو يقول ويزاود، في الحين الذي كانت فيه منظمة إرهابية تركية تفجر أجساد أحد عشر مدنياً كردياً في ديار بكر، بينهم سبعة أطفال. لكن كيف يمكن لأردوغان وغيره من وجوه تنظيمات الإسلام السياسي، أن يرجع لضميره وربه، وهو مايزال يرفض الأعتراف بمذبحة الأرمن، أيام أن قتل أجداده أكثر من مليون أرمني، في أبشع عملية تطهير عرقي في تاريخ الإنسانية...

حتى أهالي غزة الواقعين تحت الحصار الإسرائيلي، والذين يعتاشون على ما تجود به أيادي الأوروبيين من مساعدات ومنح، خرجوا في مظاهرات غوغائية ضد الغرب ورفعوا صور رموز الإرهاب، صادحين بالشعارات التي تنادي بالموت وتمزيق الأجساد. ولم تسلم من رعاعيتهم كنائس مواطنيهم المسيحيين، فأحرقوا بعضها وحطموا واجهات بعضها الآخر...
الشعوب العربية والمسلمة تعيش في بحر من الحرمان والتخلف. تصارع الحياة وهي منزوعة الكرامة، بعد أن جردّ العسكر والحرامية منها كل شيء، وداسوا بجزماتهم على أقدس قيم الإنسان في الشرق، ألا وهي الكرامة الإنسانية والحرية. لم يبق من رصيد لدى هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، والخاضعة بالجملة لتجارب مخبرية في تلقي دروس مناهج الكره والعنف، وكره الآخر، سوى الدين ومحاولة التخندق وراء قدسيته، والأدعاء بالتفوق والطهارة الذي يضمنه هذا الدين، على بقية خلق الله.

فالدين بتعاليمه الغيبية اليقينّية في نظرهم هو الشيء الوحيد الذي يميزهم عن غيرهم، والذي يكونون به أفضل من بقية شعوب العالم المتقدمة والحرة، بعد أن هبطوا لقاع الحضارة، وفشلوا في المساهمة في صنع ماينفع الأنسان ويرتقي به، منذ أكثر من خمسمائة عام، على أقل تقدير...

الصراعات الحالية والآتية، هي حقاً ذات خلفية ثقافية وحضارية مثلما ذهب عالم السياسة الأميركي صامويل هنتغتون في نظريته quot;صدام الحضاراتquot;، ولذلك ترى أغلب بؤر التوتر في العالم قائمة على التنازع الديني/الحضاري، في الوقت الذي تبدو مفردات الخطاب الديني/التكفيري/الحربي يتصدر للأمام. ونظرة واحدة فقط على تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ضد الغرب والحضارة الغربية، في السجال الدائر حول البرنامج النووي الإيراني، وتهديده بمحو وإزالة دول عن الخارطة الدولية، يدل على طغيان خطاب الحرب الثقافية/القيميّة على المشهد الدولي. فحسب نجاد أن الغرب (الصليبي) يمتلك القوة والردع، لذلك يجب على المسلمين (المجاهدين) السعي الحثيث لإمتلاك نفس السلاح، حتى يستطيعوا الصمود (الدفاع عن القدس/المقدسات) في مواجهة الغرب وحملته المعادية (السفن والأساطيل القادمة/التواجد الأميركي في العراق) بسلاح مواز له.

هناك أذن يقين واضح من أن الغرب يشن حملة صليبية ضد المسلمين، وإنه لابد لهؤلاء أن يحموا أنفسهم بسلاح مواجه. ثمّة هنا ايضاً إقتباسات مدهشة لخطاب عصر المواجهة القديمة بين صلاح الدين الإيوبي الكردي من جهة، وملوك الغرب الصليبيين المتحالفين من جهة أخرى، وطالما أن الحال هكذا، والأمة على يقين بالمؤامرة التي تستهدفها، فإن على احمدي نجاد الإيراني المنقذ، أن يقتبس دور صلاح الدين لتحرير القدس من جديد، وهذه المرة من quot;براثن اليهودquot; الذين يستوجب عليه بعد التحريرquot;إعادتهم لأوروباquot; والوقوف في وجه الإستكبار الأميركي/الأوروبي المتحالف والموحد الأن، في شأن ملف بلاده النووي، على الأقل....

[email protected]