يطغي الطابع الأخلاقي على معنى العقل في المعاجم العربية، بل في الثقافة العربية، ففي المعجم العربي يشتبك العقل في علاقات دلالية قوية مع الحَجر... النًهى... الحبس... المنع... الثبات... وبهذا يهيمن المعنى (الأكيلوجي) والعملي على العقل، فيما يغلب الطابع (الأنطولوجي) أي الوجودي على معنى العقل في المعجم اللاتيني، أو بالأحرى الثقافة اللاتينية، فهو يدل أو يشتبك بعلاقات قوية مع النظام... العلة... المبادئ الأولى للفكر بزعم الفلسفة العقلية في المعرفة... الأساس... وبالتالي، ليست النزعة (الانطلوجية) وحدها هي التي تطغي على هذا التصور للعقل في هذه الثقافة، بل كذلك هناك ا لنزعة الإبيستمولوجية (المعرفية)، وبلا شك لكل منهما دلالة، دلالة في حد ذاته، ودلالة لما ينطوي عليه من آثار فكرية وروحية ومعرفية في محيطه ومجاله وميدانه.

بين المعنى الأخلاقي و العملي للعقل من جهة وبين المعنى الوجودي للعقل من جهة آخرى مسافات بعيدة، أن أحدهما ليس سليل الأخر، ولا هو في عَرْض الآخر...
تُرى هل ذاك تعبير مُستحدَث عن العقل العملي والعقل النظري ؟ باعتبار أن موضوع الأول ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون (الإيفاء بالوعد، المعاملة بالصدق، ضرب اليتيم، سلب حق العمال والفلاحين) مستندين إلى قاعدة العقل العملي الأولى (ا لعدل حسن، الظلم قبيح) كما يدعون، فيما موضوع الثاني هو البديهيات التصورية والنظرية ... التصديقات الأولية... القضايا التي تحتاج إلى براهين (الله موجود، الذرة مركبة...) وغيرها من قضايا لا يمكن حصرها ولا من طبيعتها الحصر.
هذا ونحن هنا نستعير المعمار الأرسطي في المنطق.

لا نكتشف سرا إذا قلنا أن القرآن الكريم أعطى للعقل نفحة وجودية ومعرفية، فضلا عن نفحته الأخلاقية العملية السلوكية التي هي أساس النظر الثقافي العربي للعقل.
الكتاب الكريم يدعو إلى تشريح الظواهر الطبيعية من أجل الوصول إلى الله، هذه حقيقة واضحة في آيات الكتاب الشريف، لا يجادل في ذلك إلاّ مغال، وقد بسطتُ القول بذلك في كتابي (نظرية العلم في القرآن الكريم) هناك دعوة إعمال لجهاز معين في الإنسان في مادة الكون، هذا الجهاز هو العقل، اللب، القلب، وهذه المادة هي الجبال والرياح والإنسان حيث سمّاها القرآن بـ (الآيات)، أو إعمال قواعد عقلية معينة على المادة أو الموضوع، أي الكون والحياة والفكر واللغة وغيرها.
القرآن الكريم إذن طور مفهوم العقل، أدخل عليه تطورا، أو بالأحرى ابتدع مفهوما آخرا للعقل بجوار مفهومه الأخلاقي المعرفي المعياري، والأولى من ذلك القول أنه أقر ــ فيما أقر ــ بـ (عقلٍ) غريزي موضوعي العقل كحقيقة، يمارس تشريح الطبيعة، والربط بين المفاهيم، وتوليد المقولات، وحل المشاكل العلمية والفلسفية والوجودية.
وفي خضم المعركة الفكرية الطويلة التي مرت بها التجربة الإسلامية يمكن القول ــ وليس على سبيل الإطلاق ــ أن هناك ثلاث صور أو ثلاث حالات، أو ثلاث صيغ أستقر عليها النص الإسلامي في تعريف العقل هي باختصار شديد: ـ
الأول: الأداة العضوية أو الغريزية أو الروحية في الإنسان التي يدرك بها الأشياء، أو التي يمارس بها عملياته من تحليل وتركيب واستنتاج وبرهان على الطبيعة والتاريخ والأفكار، وهو المسئول عن الربط بين المفاهيم واستخراج الجديد من النصوص المتوفرة لديه، فـ (العقل) آلة الفكر كما يوضح أصحاب هذه التسمية. أي هو جهاز الإدراك الذي تكون في خدمته الحواس، وربما يعبر بعضهم عنها بـ (الطاقة الإدراكية) وإن كان هناك فارق دقيق بين الطاقة والآلة بطبيعة الحال، وقد يطلق عليها بعضهم (ملكة)، وهو الأخر تعبير قد لا يتطابق بالكامل مع مصطلح آلة ومصطلح جهاز، وفي نصوص أخرى يعبر عنها بـ (قوة الإدراك)، وبعضهم يسميه (نور) وكل تسمية من هذه التسميات لها ظروفها ومسوغاتها ومبرراتها، وسوف يكون من المفيد بل من الغنى الفكري العظيم تحري المبررات، وا كتشاف تاريخ التسمية وتطوراتها.
الثاني: ما ينتجه العقل نفسه من فكر، من معرفة حول الوجود والتاريخ والحياة، فهذه الحصيلة من المعرفة تسمّى وما زالت تسمَّى في النص الإسلامي أو بعضه (عقلا)، وليس هذا بعيداً عن الثقافة الغربية، فنحن نقرأ العقل (الماركسي) و العقل (الوجودي) والإشارة هنا إلى المنظومة الفكرية أو إلى ما أخرجه لنا عقل ماركس وحواريوه من فكر، وذلك كما كان يُعلَّمْ الذي أنتجه المتكلم الإسلامي السني الأشعري بـ (العقل الأشعري)، وقياسا على ذلك العقل (المعتزلي) والعقل (الشيعي). وقد أختط لهذه التسميات صيغة جديدة هي (الخطاب) وهكذا، وربما يقول الإنسان منا (هذا هو عقلي) ويعني ما يطرحه من تصورات ورؤى وأفكار، وبالتالي، هذه التسمية قد تكون جارية على الألسن العامة أيضا، ولكن هل يطلق بهذا المعنى على النظريات الفيزيائية والفلكية والرياضية ؟ كأن يقال (العقل الرياضي) أو (ا لعقل الفيزيائي)، أو (العقل التاريخي) ؟
لم أعثر في حدود إطلاعي على مثل هذا المنحى، فيما يشيع هذا الاستعمال على الفكر العقدي والسياسي والاديولجي بشكل عام، ولكن قد يُقال مثلا (العقل الفيزيائي) في حالة التفكير فيزيائيا في نشأة الكون، أو فيزيائيا في تفسير الحركة، وهكذا قد يقال مثلا (العقل الرياضي) ويقصد من وراء ذلك التفكير بطريقة رياضية من خلال التعامل مع مشاكل الحياة أو بعض مسائلها، أي يستخدم المعادلات الرياضية، أو ما يمت بصلة إلى علم الرياضة، أو كإشارة كنائية إلى دقة التفكير وضبط المواقف.
الثالث: مجموعة القيم المعيارية التي اتفق عليها (العقلاء) كما يقولون، والنصوص الإسلامية غزيرة في هذا الاستعمال، حتى تكاد تطغي على أي استعمال آخر، خاصة النصوص ذات الجذور الشرعية، مثل القرآن الكريم وما ينسب إلى الرسول وآل البيت، كما سوف نأتي على تفصيله، وهو هنا على الضد من الحمق والسفه والطيش، وهو منحوت أصلاً من الينبوع المعجمي، يحاول صاحب (العين / الفراهيدي) أن يدمج بين النزعة المعجمية والثقافة التي حصلت في زمانه ليقول (والعقل مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات ويفعل كثيرا من الواجبات،وإنما سميت عقلا لأنها تعقل عن القبيح... وقال علي بن عيسى:العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل ومن كان زاجره أقوى فهو أقوى... / راجع 1 / ص 241، 251 من الكتاب ـ). ونلتقي بعشرات النصوص المسلمة هنا للتعبير عن هذا المعنى للعقل، بحيث يتيه الباحث كيف ينظمها وكيف يشكل منها لوحة متسقة، حتى إن هيئة الإنسان التي تراعي متطلبات الوقار، وتخرج على الآخرين بما يحمد في مجتمعه الديني من سلوك وتصرفات تُسمِّى (عقلا) كما هو في تعبير الغزالي.
وفي الحلقة التالية سوف نستعرض مسهبا تعريفات (العقل) مع منا قشتها باختصار، إذا ما سعفني الوقت، ولم تشرع آلامي بزيارتي مرة أخرى.
[email protected]