موضوعة العقل 4

كنت قد وعدت القراء الكرام أن أتحدث لهم عن تعريف (العقل) في هذه الحلقة، وهو موضوع سوف يستغرق منا أكثر من حلقة، وأملي أن أسهب بذلك بإذن الله تعالى، ولكن إرتأيت أن أتحدث قبل ذلك عن قضية مهمة ألمحت لها خاطفا، تلك هي(عقل العقل)، أو بعارة أخرى (أن يعقل العقل نفسه)، وهي أم المباحث كما يصورها بعض المفكرين والدارسين في موضوعة العقل على الصعيد الفلسفي.
كنت قد قرأت لفيليوف لبناني هو كما الحاج رحمه الله في تفسيره وتوضيحه لبعارة ديكارت المشهورة(أنا أفكر فأنا موجود)، بان الفيلسوف الفرنسي ينطلق في هذه القاعدة من قاعدة أعمق، قاعدة خفية، تلك هي (إني أفكر بأنني أفكر)، ويُنْسَب للقديس الكاثولوكي أوغسطين قوله (أني أفهم بأنني أفهم)، وهناك عبارة (وعي الوعي)، وفي تصوري أن كل هذه الصيغ تعبر عن قولنا (علم الذات بذاتها)
يقولون : العقل يعقل ذاته، بدليل أن العقل طالما يسأل عن هويته، ويسأل عن وظيفته، ويسأل عن كيفية مسيره، بل ويسأل عن أصله ومآله. مع ملاحظة دقيقة جدا، أن إدراك العقل لذاته، لا يعني بالضروة أن تكون نتيجة هذا الإدراك صحيحة، أو مطابقة للواقع، هذه نقطة جديرة بالانتبا ه.
والآن ما هي حيثيات وخصائص ومشاكل وملابسات (عقل العقل)؟ أو بعبارة أكثر دقة (تعقل العقل)؟
يقولون : أن أي عملية إدراك أو تعقل تستدعي أحضار ثلاث حقائق، الأولى هي العقل، أي أداة الإدراك، والثانية هي المدرَك كأن يكون جبلا أو كتابا أو بديهة أو نظرية هندسية، وأخيرا يجب الإشارة إلى عملية الإدراك (التعقل) نفسها، رغم أن في ذلك نقاش سوف ناتي عليه، ولكن لنمضي ما يقولون...
والسؤال هنا، هل عملية (عقل العقل) أو (إدراك العقل لذاته) تستدعي هذا المثلث من الحقائق، أي مُدرِك ومدرَك وإدراك، كما لو أننا أدركنا جبلا على سبيل المثال؟
يقولون : لا...
والسبب بسيط للغاية، ذلك إن العقل ليس بصدد إدراك موجود خارج حريمه بالذات، كأن يكون جبلا أو جدارا، أو نهرا، وليس بصدد إدراك مفهوم طبيعي أو مفهوم منطقي أو مفهوم فلسفي تشكل عبر سلسلة من التحولات ا لدقيقة، إنه بصد
إدراك ذاته، ذاته فقط، وبالتالي هو الذات والموضوع، هو المدرِك وهو المدرَك، هو العاقل والمعقول، وذلك من كل الجهات، ويؤتى بالتعدد اللغوي لأجل الإيضاح ليس إلا.
إن العقل حاضر في وعائه، إن العقل حاضر لدى العقل، فلا أثنينية هنا أبدا، هناك إتحاد بين العاقل والمقعول، وهو ليس على صيغة إتحاد العاقل والمعقول والعقل في ظروف إدراك الموجودات والأشياء وا لمفاهيم الاخرى، ذلك أن المدرَك والمدرِك واحد.
القل يعي ذاته...
العقل منكشف لذاته بذاته...
لو تمكنا من إنطاق النور، هذا النور العادي، وقلنا للنور ما يلي : أيها النور، أنك وسيلتنا للعثور على مفتاح خزانة الكتب الضائع ــ خزانة كتب وليس فلوس ــ نستعين بك للعثور على الكتاب المفقود بين رفوف المكتبة، ولكن أي مصدر هو الذي ينوِّرك؟ أي مصدر أو أي شي هو الذي أضفى عليك النوريِّة؟ ما الذي يكشفك لنا؟ ما الذي يخرجك من الخفاء إلى الظهور؟
سوف يجيب النور : أن هذا السؤال سالب، لا موضوع له، أنا نور،أنا نور بذاتي، منكشف بذاتي لذاتي، ليس هناك من يكشف عني، بل أنا منكشف لذاتي، بل أنا عين الإنكشاف.
هكذا وعي العقل للعقل...
أنه إنكشاف، هو إنكشاف العقل للعقل، بل إنكشاف العقل بالعقل، والأروع حضور العقل للعقل، فهو عين الإنكشاف، لم يكن هناك جهل ثم تحقق علم، بل هناك علم، علم ذاتي، فالعقل غير مجهول للعقل، بل هناك حضور للعقل في صقع ذاته، أن تعقلنا للوردة علم مضاف، فيما علمنا بعقلنا هو عين التعقل.
أليس العاقل هو العقل هنا أيضا؟
نعم بطبيعة الحال، لأن العقل هو الذي يعقل، يعقل ذاته في موضوعنا الذي نحن فيه، فيكون إسم فاعل بكل بساطة، أي هو عاقل بلا شك.
وفي ضوء كل هذا، هل يمكن أن نقول أننا بين يدي ظاهرة إتحاد العاقل والمعقول والعقل.
أين هو الإتحاد ما دام العاقل هو هو المعقول وهو هو العقل، ما دام العالمِ هو هو المعلوم وهو هو هو العلم؟ اسم الفاعل والمفعول والمصدر واحد... واحد.
إن كلمة الاتحاد هنا تضطرب، ولا تعبر تماما عن الحاصل فعلا، لسنا أمام ثلاث حقائق، ثلاث ظوهر، ثلاث موجودات، إنما نحن بين يدي موجود واحد منكشف بنفسه لنفسه، فما هي الحاجة لهذا الاتحاد المزعوم.
نحن بين يدي وجود واحد يتجلى في ثلاث مفاهيم، أو يتخارج في ثلاث مفاهيم، أو نحن بين يدي موجود واحد يشكل مرتعا لانتزاعات ثلاث، يسمى أحدها العقل، وثانيها المعقول، ورابعها العاقل.
أكثر من هذا وذاك، أن حضور العقل لدى العقل هو عين التعقل، عين الوعي، عين الفهم، عين العلم، هناك محض إدراك، فإدرا ك العقل للعقل هو محض إدراك.
يذكرنا هذا الطرح ببعض ما تطرحه بعض الفرق الإسلامية عن العلاقة بين الله وصفاته، فهؤلاء يرون أن صفات الله عين ذاته، أي لا توجد ذات وصفة، إنما هناك ذات هي عين صفاتها، ليس ذات تعلم بعلم، بل هي عين العلم، عين الإرادة، عين القدرة!
فهل صدفة أن يسمي بعضهم الله عقلا؟ بل يسمونه رأس العقلاء؟ وهل هناك عملية قياس مخدومة سلفا؟ فهم يقولون أن الله يعقل ذاته بذاته، وإن تعقله لذاته عملية ذاتية صرفة.
هل هي محاولة تماهي بين الله والعقل؟
ولكن لماذا نذهب بعيدا، وهم يقولون أن ذلك ليس من شأن العقل الإنساني وحده، بل هو من شان كل عقل، كل مجرد، فكل مجرد حاضر في نفسه لنفسه.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا...
إذا كان العقل الإنساني يعقل نفسه، وإذا كان تعقله لنفسه هو عين التعقل، و إذا كانت هناك صرف وحدة بين العقل والعاقل والمعقول ــ وليس إتحاد كما اتصور حسب منطقهم ــ فلم يعرف العقل نفسه تعريفات مختلفة؟
يقول العقل عن العقل إنه جوهر نوارني مفارق..
يقول العقل عن العقل إنه قوة مهئياة لا ستقبال الضروريات.
يقول العقل عن العقل أنه استعداد، مجرد أستعداد للتعقل..
يقول العقل عن العقل إنه ملكة..
يقزل العقل عن العقل إنه تلك المبادئ المفطرية ألاولى...
يقول العقل عن العقل إنه موجود في الرأس...
يقول العقل عن العقل إنه موجود في القلب.
يقول العقل عن العقل إنه ذات الدماغ.
يقول العقل عن العقل إنه قوة من قوى النفس.
يقول العقل عن العقل إنه... إنه...
أين الصواب؟
ولماذا هذا الاضطراب الكبير ما دام العقل يعقل ذاته بلا واسطة، بل تعقله لذاته هو عين التعقل؟
لست أدري...
غدا نفصل في تعريفات العقل، و نصيحتي للقاري الكريم أن يصبر، ولا يحكم بجرة قلم، وما أكثرهم في عالم اليوم، وما أتعسه من عالم اليوم!