تميز المجتمع الفلسطيني على الدوام بعقلانيته فيما يتعلق بالاعتقاد الديني، لذلك عاش المسلمون والمسيحيون في تفاهم وحسن جوار قلّ نظيره في المجتمعات العربية، وقد وحدتهم المصائب منذ ما أصطلح على تسميته نكبة فلسطين عام 1948 ، فالاحتلال والتشريد ومصادرة الأراضي لم يميز بين مسيحي ومسلم، وكذلك التعرض لدور العبادة لم يستثن الكنائس الفلسطينية، بل كانت الكنائس عبر مسيرة الاحتلال أكثر تعرضا للمضايقات وسحب التراخيص ومصادرة الممتلكات من المساجد، لأنه من مصلحة الاحتلال إخلاء الأراضي المقدسة ما أمكن من الفلسطينيين المسيحيين. واعتقد أنه لا يخالفني فلسطيني في مسألة أنه كان من الغريب في المجتمع الفلسطيني أن تسأل الشخص إن كان مسيحيا أم مسلما، وهذا من تجربتي وسكناي ونشأتي في قطاع غزة، ومنذ عام 1948 لا تميز قذائف الاحتلال وصواريخه بين مسيحي ومسلم فالكل في المصائب سواء.

جيش ضلال باسم جيش الهدى

في أجواء التسامح والمحبة هذه، تطلع علينا جماعة أو أفراد ببيان يحمل توقيع ( جيش الهدى ) في قطاع غزة ردا على أقوال بابا الفاتيكان المسيئة للإسلام، وبدلا من مناقشة البابا ومحاججته لبيان خطأ أقواله بالأدلة والوقائع، قامت هذا المجموعة أو الأفراد بإصدار بيان في مدينة غزة يوم الثلاثاء التاسع عشر من سبتمبر الحالي، تهدد باستهداف المسيحيين في قطاع غزة وأشارت لهم باسم الصليبيين إذا لم يعتذر البابا عن أقواله، وجاء في البيان ( إن كل التجمعات التي تخص الصليبيين ستكون مستهدفة حتى الكنيسة والمؤسسات وهم في منازلهم سكارى...لقد انتهت العدة لضرب كل صليبي كافر على أرض فلسطين الحبيبة الطاهرة...وسنضرب بيد من حديد كل من يجرؤ على حماية الصليبيين. إن هذا التهديد سيظل مفتوحا حتى يخرج بابا الفاتيكان بالأسف والاعتذار عن تصريحاته المسيئة للإسلام والمسلمين ).
وكانت جماعة أخرى أطلقت على نفسها اسم ( جيش سيف الحق ) قد هددت أيضا بمهاجمة المسيحيين والكنائس في قطاع غزة، وادعت المسؤولية عن الهجوم على عدد من الكنائس قي القطاع التي بلغت سبع كنائس تعرضت للحرق والتخريب. وقد صرّح مسؤول فلسطيني من المسيحيين ( أن المسيحيين يتعاملون مع هذه التهديدات بغاية الجدية، وأن المسيحيين يتجنبون الظهور العلني والعديد منهم يرغبون في مغادرة المنطقة خوفا على حياتهم ). كل هذا الإرهاب القذر دون أي تصريح أو موقف أو تحرك ميداني من الحكومة الفلسطينية التي ثقلها الأساسي وقوتها التنفيذية في قطاع غزة. وهذه الأعمال القذرة لا تحدث للمرة الأولى، ففي فبراير الماضي من العام الحالي وفي موقف مشابه ردا على الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، قامت مجموعة أخرى بحرق وتخريب مقر بعثة الاتحاد الأوربي في مدينة غزة وتهديد المدارس والكنائس المسيحية، مما حدا بمحمود الزهار القيادي في حركة حماس أن يزور مدرسة الروم الكاثوليك في المدينة كرسالة غير مباشرة لعدم التعرض للمسيحيين الفلسطينيين.

من المستفيد من هذا الضلال؟

هل يتصور عاقل أو مجنون هذا العبث الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه عمل مشبوه لا يخدم نضال وسمعة الشعب الفلسطيني وهو يناضل من أجل دولته المستقلة، فإذا كان الجانب الإسرائيلي يكرر أنه لا يوجد مفاوض فلسطيني ألا يحق للغير أن يعتبر الدولة الفلسطينية ليست خطرا على الإسرائيليين فقط، بل على مكونات المجتمع الفلسطيني نفسه؟. هل نسيت هذه الفئة الضالة نضال وصمود شخصيات مثل الأب منيب يونان والأب عطا الله حنا رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس في القدس الذي تعرض للملاحقة والتوقيف والسجن من سلطات الاحتلال عدة مرات بسبب مواقفه المناهضة للاحتلال والداعمة لنضال الشعب الفلسطيني؟. وإزاء تصريحات البابا التي أثارت غضب المسلمين، كان موقف الأب عطا الله أشجع وأوضح وأجرأ من مواقف العديد من شيوخ المسلمين، ففي محاضرة جماهيرية ألقاها في مجمع النقابات بمدينة إربد شمال الأردن مساء الخميس الموافق الحادي والعشرين من سبتمبر الحالي قال:quot;إن التطاول على الإسلام وعلى العقيدة الإسلامية هو تطاول على المسيحية وأن التطاول على النبي العربي الكريم محمد بن عبد الله هو تطاول على المسيح بن مريم، وأن كلام البابا عن الإسلام لم يكن بريئا وإنما كان يندرج في إطار مؤامرة على الإسلام والمسلمين وعلى كل ما هو نقي وشريف في هذه الأمة....إن الكلمات التي صدرت عن بابا الفاتيكان واستفزت مشاعر المسلمين في الصميم، استفزت أيضا المسيحيين الشرقيين الذين يشكلون مع إخوانهم المسلمين أسرة واحدة وقضية واحدةquot;. وأكدّ quot;أن المسيحيين هنا هم جزء من الأمة العربية الواحدة المجيدة من المحيط إلى الخليج وأن مرجعيتنا ليست غربية وإنما مشرقية عربية بامتياز، وأننا نرفض أن ينقص أحد من هويتنا الروحية وهويتنا القوميةquot;. إن هذا الأب المناضل شرف كبير لنضال الشعب الفلسطيني والعربي، ومواقفه الوطنية منذ زمن طويل أكبر إدانة وتعرية لأولئك الضالين المفسدين ممن يسمون أنفسهم زورا ( جيش الهدى ) و ( جيش سيف الحق )، فأنتم بصراحة ووضوح جيش الفساد والضلال والفتنة، وهذا الأب وعشرات أمثاله يشرفونكم، وإن كان لديكم أدنى ذرة من إيمان وضمير، لأعلنتم اعتذاركم علنا عن بياناتكم وأفعالكم هذه، لأنها تسيء للإسلام والمسلمين أكثر من تصريحات البابا نفسها، لأنها صادرة من داخل البيت لكنها غريبة عن سلوك البيت الإسلامي ومعتقداته وقناعاته!!.
وهل نسيّ أولئك الضالون المفسدون المناضل الصلب المطران هيلاريون كبوتشي المطران الأسبق للروم الكاثوليك في القدس، وسجنه سنوات لأنه ساعد وأوصل السلاح للمقاتلين الفلسطينيين، ثم تم طرده عام 1987 من الأماكن المقدسة بشكل نهائي؟. وهل نسيّ أولئك الضالون حملة الكنائس الفلسطينية بمختلف ألوانها على بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس إيرينوس الأول، بسبب فضيحته في بيع ممتلكات للكنيسة لإسرائيليين، واستمروا في حملتهم الشجاعة العادلة حتى تم تنحيته من منصبه ومغادرته القدس؟!.
هؤلاء المفسدون والضالون في فلسطين موطن المسيح عليه السلام وموطن الديانة المسيحية، ينبغي شجب أعمالهم وبياناتهم فهم وصمة عار يخجل منها كل مؤمن من المسلمين والمسيحيين في فلسطين وكل أقطار العرب.....ولا نملك إلا القول: قاتلكم الله!!!.
[email protected]