-1-


لأول مرة في تاريخ الثقافة الأردنية يدسُّ المثقفون الأردنيون أنوفهم فيما لا يعنيهم، وفيما لا يخصهم، ويتدخلون في شؤون غيرهم، حسب خطاب وإدّعاء بعض السلطات الرسمية العربية، في كل مناسبة يقوم بها المثقفون في بلد عربي ما، للدفاع عن مثقفي بلد عربي آخر. ويُعدُّ موقف المثقفين هذا، تصرف أهوج، ومرفوض، وغير مقبول، ومستهجن، ومُدان من قبل بعض السلطات العربية الرسمية والديكتاتورية الشمولية خاصة.
فإرسال الإرهابيين من بلد عربي إلى بلد عربي آخر، لا يُعتبر تدخلاً في شؤون الدول الأخرى.
وإرسال الأموال للإرهابيين وتدريبهم وفتح الحدود لهم، وتغطيتهم سياسياً وإعلامياً ، لا يُعتبر تدخلاً في شؤون الدول الأخرى.
والخروج من الباب والدخول من الشباك، من بلد عربي إلى بلد عربي آخر، وعدم الاعتراف السياسي، وتبادل السفراء، وترسيم الحدود، ووقف دعم الأحزاب والمليشيات التابعة لدولة ما في دولة أخرى جارة، لا يُعتبر تدخلاً في شؤون بلد عربي له خصوصيته وسيادته وحَرَمِه.
أما الدفاع عن المثقفين المعتقلين والسياسيين المعتقلين، دون محاكمة، أو دون تهمة صريحة وقانونية موجهة لهم، فتلك كبرى الكبائر وأعظم الآثام، التي تضع المشاركين فيها في قائمة المُلاحَقين والصيد الثمين، في يوم ما، وفي ساعة ما.

-2-
اليوم، يستيقظ ضمير الثقافة الأردنية الليبرالية. وتتجمع بعض الفعاليات السياسية والثقافية والإعلامية الأردنية مطالبةً بشجاعة وقوة وإيمان بالإفراج عن معتقلي إعلان بيروت ndash; دمشق في سوريا. وهذا عهد جديد غير مسبوق في الثقافة الأردنية التي سبق وسكتت ndash; للأسف الشديد- عن كثير من المواقف العربية المخزية والمشينة والمهينة للقيم الإنسانية.
فأين المثقفين الأردنيين، من وقفتهم الإنسانية الصادقة من الارهاب الإجرامي في العراق؟
وأين موقف المثقفين الأردنيين من كارثة لبنان التي أحدثها حزب الله ، وأعاد فيها لبنان إلى ما كان عليه قبل عام 2000 ، مع خسائر تقدر بأكثر من 15 مليار دولار، وأكثر من ألف ضحية بريئة، وأكثر من دمار عشرة آلاف بيت من بيوت الفقراء والبؤساء والمساكين، بينما بقيت قصور الزعماء السياسيين وقادة المليشيات في لبنان عامرة وبعيدة عن كل دمار و(تعتير)؟
وأين موقف المثقفين الأردنيين من المعتقلين السياسيين والمثقفين، في البلدان العربية الأخرى؟
ولكن لا بأس، ما دام المثقفون الأردنيون الآن قد استيقظوا من سباتهم العميق، ونوم أهل الكهف. وهذا بيانهم الجديد بشأن المعتقلين السوريين، أول الغيث، وأمطار الخير، وأول (فركة) عين.

-3-
ماذا قال بيان المثقفين الأردنيين؟
قال بكل صراحة وجرأة:
quot;إن السلطات السورية ما زالت تصرُّ على إبقاء رموز التفكير السياسي ، والحراك الحقوقي ميشيل كيلو ، وأنور البني ، وفاتح جاموس ، وعلي العبد الله ، وكمال اللبواني قيد الاحتجاز دون أسباب مقنعة.
وقال البيان:
quot;إن إبقاء كيلو واللبواني والبني وجاموس وعبد الله في المعتقلات بوجود رغبة لدى السلطات السورية بتحميلهم مسؤولية الاعلان الذي دعا الى بناء العلاقات السورية ـ اللبنانية على أسس جديدة تفتح الافاق أمام التعايش الاخوي بين الشعبين السوري واللبنانيquot; .
وجاء في البيان أنه quot; إيماناً منا بحق المعتقلين في الحرية والتفكير والتعبير عن قناعاتهم بعيدا ًعن الملاحقات والارهاب الفكري وتكميم الأفواه نضم أصواتنا للاصوات الداعية الى الافراج عنهم، دون قيد أو شرط، وافساح المجال أمامهم لخدمة الشعب والوطن السوريين ، وهما يمران بمرحلة في غاية الحساسية quot; .
وأضاف البيان أن quot;السجون ليست مكاناً للذين آمنوا بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ويبحثون لاوطانهم عن مخارج من دوائر الازمات المغلقة ويعكفون على إبعادها عن حافة الهاوية والمنعطفات الحادة التي تدفع الشعوب فواتيرهاquot;.

-4-
على المثقفين الأردنيين أن لا يكتفوا بمثل هذه الوقفة المشرفة من المعتقلين السوريين الشرفاء. فهناك عمل وجهد كبير ينتظر المثقفين الأردنيين داخل الأردن، وخارجه. ولعل أول أوليات هذا العمل وهذا الجهد تكثيف الجهود لتحرير الثقافة الأردنية وأدواتها المختلفة تحريراً كاملاً من سلطة الرقابة، التي اعتادت أن تحرق الكتب، وتحاكم الشعراء ، وتسجنهم، وتصادر الرأي الآخر. وكان آخر هذه المصادرات ما تمَّ في معرض عمان الأخير للكتاب من مصادرة أكثر من ثمانين عنواناً دينياً وسياسياً ، بدعوى المساس بالدين والسياسة.
فالأردن المنفتح اجتماعياً ، مغلق ثقافياً.
والأردن الذي ينتهج سياسية واقعية عقلانية رشيدة، ينتهج سياسة ثقافية ظلامية بوليسية مستبدة.
والأردن الذي يفتح داره لكل العرب من النازحين واللاجئين والمغتربين ، يُغلق بابه في وجه الثقافة والمثقفين.
والأردن الذي يناصر الحرية والديمقراطية في افغانستان والعراق ولبنان، ويقف الى جانب طلاب الحرية والديمقراطية في هذه البلدان، يعادي الثقافة ويصادرها، ويحرق كتبها، ويسجن شعراءها.
المثقفون الأردنيون مدعوون اليوم الى نضال طويل، ووقفة شجاعة، لكي تكتمل الصورة الأردنية المضيئة بحرية الثقافة، وحرية المثقفين، والغاء الرقابة كليةً عن الكتب، والحرف المكتوب.

-5-
لم يستهن الحاكم العربي بقوة داخل وطنه أو خارجه، كما استهان، وما زال يستهين بقوة المثقفين، وبصوتهم الذي لا قرار له.
فرجال الدولة، يفسدون، ويسرقون، وينهبون، ويقترفون شرَّ الآثام، ولا من حسيب، أو رقيب. فجانبهم مُصان ومُهاب، ولا أحد يقدر أن يمسَّ لهم طرفاً من قريب، أو بعيد.
ورجال الأعمال، يسرقون، ويزوّرون، ويستغلون، وعين الدولة عنهم غافلة، أو راضية، أو نائمة. فلا حسيب، ولا رقيب. ودراهمهم ورشاويهم تغشى وجه الشمس، وكل ضوء يُسلّط على فضائحهم وآثامهم.
والمثقفون هم السقف المعطوب، و (الحيط الواطي) الذي ينطُّ عليه كل الرسميين من الصغار والكبار. وهم مُهانون في كل مصر وقطر. والسبب في ذلك، أنهم لم يكونوا قوة في يوم من الأيام. فقد ظل المثقفون تابعين للسلطة من خلال اتحادات الكتاب، واتحادات الصحافيين ،واتحادات المحررين.. الخ. ولم يكونوا يوماً سلطة ضاغطة وحرة وقوية، إلا في القليل القليل من الأقطار العربية كلبنان والكويت. والطريق الى قوة وسلطة وحرية المثقفين عامة، هو وقوفهم صفاً واحداً في وجه الظلم، والبغي، والاستبداد، والفساد، بعيداً عن التنظيمات الحزبية والروابط والاتحادات وغيرها من التنظيمات. ومثل هذا الموقف الرمزي الذي يقفه مثقفو الأردن اليوم، هو من علامات ساعة الحرية العربية، التي بدأت تدق بقوة، ونأمل أن تستمر دقاتها، لكي توقظ بقية النائمين في الكهوف.

السلام عليكم.