يمثل فانون المرأة بمجلة الأحوال الشخصية التونسية الصادر في العام 1956 النموذج لما يجب أن تكون عليه القوانين الحامية لحقوق المرأة في ديار الإسلام. والقوى السلفية المتخلفة أول من يعي ذلك. لهذا، نجدها تسعى دوما لتلفيق الأكاذيب و الافتراءات بهدف التجريح بما تعتبره خروجا عن الشرع، بل كفرا يتوجب التصدي له. و لهذا، نجد الأصولي التونسي راشد الغنوشي -ذو المشروع الطالباني و مؤسس الحركة الطالبانية التونسية، على حد تعبير المفكر الإسلامي و أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية محمد الطالبي- لا يفوت أية فرصة للتحامل على أحد أهم عناصر عملية الإصلاح البورقيبية: اجتهاده بمنع تعدد الزوجات، المطابق لروح الشريعة، في حقيقة الأمر.
ما أن نشر العفيف الأخضر مقاله القيم quot;الحداثة التونسية في عيدها الخمسينquot; على موقع إيلاف، حتى بادر الغنوشي بالتعليق -مستعملا اسما مستعارا كعادته quot;قناص الأخبارquot; -، في محاولة مفضوحة للانتقاص من أهمية إلغاء تعدد الزوجات بدعوى انه يسبب العنوسة.

أولا، ليس من المقبول علميا الانتقاص من إنجاز ما بالتركيز على آثاره الجانبية فقط. في كل دول العالم يتم بناء المصانع بالرغم من التلوث الذي تحدثه، كما يتم بناء السدود بالرغم من بعض آثارها السلبية على البيئة، لان الآثار الإيجابية المتوقعة في الحالتين تفوق بكثير الآثار السلبية. والأهم بخصوص موضوع البحث في هذا المقال أن منع تعدد الزوجات لا يمكن اعتباره سببا للعنوسة، حيث ان السبب الأول لهذه الظاهرة في الوقت الحاضر هو مدة الدراسة التي تستغرق سنوات طويلة. لقد سبق و أن طالب الغنوشي في مقال له بمجلة المعرفة سنة 19980 بعدم ترك الفتاة تكمل دراستها العالية لان quot;دورها الطبيعي في البيتquot; والعناية بالأطفال كما قال، تماما كما سبق للزعيم النازي ادولف هتلر أن حصر دور المراة quot;الطبيعيquot; في الإنجاب!!!

والاهم أن الادعاء بان منع تعدد الزوجات يسبب العنوسة هو ادعاء خال من الصحة. لقد وفرت لنا العقود الأربعة الماضية quot;تجارب مخبريةquot;، حيث الغي تعدد الزوجات في تونس و لم يحصل هذا في أية دولة عربي أخرى، لذلك ستكون فرضية الغنوشي صحيحة إذا ثبت بالتجربة أن العنوسة زادت في تونس اكثر منها في الدول العربية الأخرى، وهذا ما لا يؤيده الواقع الإحصائي.

ادعى راشد الغنوشي في تعليقه على مقال العفيف الأخضر -المذكور أعلاه- أن عدد العوانس قد زاد في تونس بصفة مهولة -من 990 ألفا سنة 1994 إلى 1,3 مليون سنة 2004. و هنا يقع صاحبنا في ما يسمى علميا بــquot;الـكذب الإحصائيquot; (Statistical Lie)، حيث أن الـ990 ألف عانس سنة 1994 كانت تمثل نسبة 22,4%، و لم ترتفع هذه النسبة إلا قليلا إلى 25% سنة 2004، تماما كما ارتفعت عديد المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية الأخرى دون أن يعني ذلك وجود كارثة.

ولعل افضل طريقة لفضح الخطء الفادح لـquot;الطالبانيquot; راشد الغنوشي مقارنة العنوسة في تونس مع نفس الظاهرة في الدول العربية الأخرى التي لم تحدد عدد الزوجات.
في الجزائر، لا وجود لمنع تعدد الزوجات -للأسف. و لم يمنع هذا من زيادة عدد العوانس بحوالي 200 ألف سنويا, ليبلغ عددهم الإجمالي 5 ملايين للفئة العمرية 35 سنة فما فوق. فكيف حصل هذا إذا كان تعدد الزوجات الدواء الشافي لهذه الظاهرة كما يدعي فقه التخلف و عداء المرأة الدفين؟

وفي دولة مثل السعودية توجد سياسات مشجعة لتعدد الزوجات، مع هذا يبلغ عدد العوانس ثلث عدد النساء من الفئة العمرية 30 سنة وما فوق، والتي تعتبر أعلى نسبة في العالم (للتثبت يرجى التكرم بزيارة موقع: www.mana.ae/word/numberska.htm). أليس كل هذا دليل على أن تعدد الزوجات لا يمثل حلا لظاهرة العنوسة؟ لماذا لم يصل الغنوشي -و من على شاكلته- إلى قناعة أن تعدد الزوجات يزيد من العنوسة لا العكس، بناء على هذه المعطيات؟

هذه المعطيات الدامغة -أعلى نسبة عنوسة في دولة توجد فيها أعلى نسبة تعدد الزوجات الا وهي السعودية-، أدت إلى تراجع بعض المشايخ بهذا الشان. نذكر منهم الشيخ شمس الدين الذي يدير جمعية إسلامية للتزويج في الجزائر. يدعي الشيخ أن القضية برمتها تعرضت لــquot;اغلوطة علمانيةquot;، حيث أن quot;كل امرأة بالغة تكون صالحة للزواج، ولكن ليس كل رجل بالغ بالضرورة صالحا للزواجquot;. ويقفز شيخنا من هذه الفرضية إلى أن سد الفجوة بين النساء الصالحات للزواج والرجال الصالحين للزواج لا يمكن أن يحصل في المجتمع إلا بتعدد الزوجات!!! والسؤال هنا من عين الشيخ وصيا على النساء البالغات ليقرر نيابة عنهن أنهن كلهن صالحات للزواج، وانه لا يحق لأي منهن الامتناع عنه ولأي سبب من الأسباب؟

لعل ما جاء مؤخرا في تقرير لوكالة رويترز للأنباء عن اختيار عديد من التونسيات الحر للعزوبية يوضح لنا الرؤية. ورد في التقرير quot;عديد التونسيات اخترن بكل حرية حياة العزوبية، وأن 16 ألفا من المتزوجات رفعن قضايا طلاق خلال 2005 من بينها 11 ألفا صدرت فيها أحكام بهذا المعنى. وأكد التقرير أن النساء التونسيات تستفدن كثيرا من القانون quot;الذي يجيز للمرأة التونسية تطليق الرجل حسب ما نص الفصل 30 من الأحوال الشخصيةquot;. و أضافquot;أن الطلاق في تونس قضائي، أي انه لا يقع إلا أمام المحكمة، خلافا لما هو معمول به في عدة دول عربية أخرىquot;، حيث يرمي الزوج زوجته إذا ملها أو شاخت كما يرمي خوذة حذائه البالية!. فهل يريد فقهاء التخلف من أمثال راشد الغنوشي معاملة المرأة كحذاء بال؟ وكم كان الأستاذ محمد الطالبي محقا عندما نعت راشد الغنوشي و مشروعه بالطالباني!

ولا بد من التأكيد هنا بان هذه الحرية تحسب لصالح القانون التونسي لا عليه، لان الأرجح أن المرأة المحرومة من ابسط حقوق الإنسان في الدول العربية الأخرى ستفضل نفس الاختيار لو أعطيت لها الفرصة. وهذا ما أكد عليه بعض علماء الاجتماع الذين التقتهم وكالة رويترز في تونس عند إعدادها التقرير المنوه له أعلاه، حيث جاء فيه quot;علماء الاجتماع أفادوا بان نمط المجتمع هو الذي مكن المرأة التونسية من قدر كبير من التحرر مقابل العقلية الشرقيةquot;، التي صاغتها الأحاديث الموضوعة القائلة مثلا quot;تبطل الصلاة إذا مرت أمام المصلي امرأة أو كلب اسودquot; أو quot;المرأة ناقصة عقل ودينquot; إلى آخر الأحاديث المكذوبة والمنسوبة للرسول...

والعبرة هنا أن حقوق المرأة تعطيها حرية الاختيار التي سلبت منها، لكنها ليست مسؤولة عن ظاهرة الطلاق. في السعودية على سبيل المثال، تزيد نسبة الطلاق عن 30%. وتقول أخصائية العلاج النفسي السعودية سلطانة عثمان بهذا الصدد: quot;الطلاق يكون في كثير من الأحيان نتيجة التسرع في الزواج و التغاضي عن بعض التصرفات بحجة أنها قد تتغير بعد الزواج، فالشباب المنحرف يزوجه أهله على أمل أن يستقر ويغير من طباعه. لكن النتيجة ارتفاع معدل الطلاق و خاصة المبكرquot;. وهنا تسقط بوضوح مقولة quot;حقوق المرأة تؤدي إلى تفاقم ظاهرة الطلاقquot;. و يثبت أن انعدام حقوق المرأة هو السبب.

خلاصة القول، أن تحرير المرأة كما جاء في مجلة الأحوال الشخصية التونسية -و بالأساس منع تعدد الزوجات- لا يمكن تحميله، بأي حال من الأحوال، مسؤولية العنوسة أو الطلاق. وهذا هو الاستنتاج السليم الذي توصل له الملك المغربي الشاب محمد السادس الذي عبر عن شجاعة سياسية خارقة باعتماده للقوانين التونسية عند إصداره quot;المدونةquot; اثر تفجيرات الدار البيضاء الإرهابية في 16 مايو 2003، مستغلا الوضع الحرج الذي وجدت نفسها فيه قوى التخلف وعداء المرأة (العدل و الإحسان وحزب العدالة والتنمية، أساسا)، وهذا ما شجع على ما يبدو الحكومة الكويتية على المضي قدما لتمرير القانون الذي يمنح المرأة حرية المشاركة في الانتخابات في 16 مايو 2006. وهذه إجراءات متأخرة وقد تبدو محدودة، لكن آثارها المستقبلية على وضع المرأة ستتعزز في كامل المنطقة. وأول الغيث قطر ثم ينهمر...
[email protected]