1-
الانترنت عالم فسيح، وهو مُكوِّنٌ ثقافي في المجتمعات الحالية. فهو يشكل، من وجهة نظر العالم المتطور كأوروبا وأمريكا، امتدادا للحرية الفكرية ووسيلة تفضي بالباحث إلى كل ما لم يخطر بباله. فاستخدام الأوروبيين للانترنت استخدام معرفي، غرضه الاستفادة والاطلاع والتمتع. بينما، الانترنت من وجهة نظر المجتمعات العربية، ليس سوى نافذة تطل على ما تفتقر إليه هذه المجتمعات: الحرية الفكرية.. إنه المرآة التي ينعكس على سطحها الثقافة الغائبة في الحياة العربية اليومية. وها أن حالة استمنائية تتجلى في علاقة قارئ الثقافة الذي يعيش في دمشق، الخليج.. الخ، مع محيط ثقافي فاقد الهوية اسمه الانترنت. فالثقافة الافتراضية المتجلية بالانترنت هي أشبه بصورة يَنظر إليها هذا القارئ لكن غير مسموح له بتفعيلها عمليا ودون خوف...الانترنت لايزال، عندنا، مجرد شاشة، وليس كما يفترض ومعمول، في أوروبا مثلا، أداة بحث. من هنا نجد آلاف المواقع الثقافية، لكنها مفرغة من الدور الثقافي: البحث الجدي، إيقاظ الوعي والشعور بالمسؤولية... إنها أشبه باستبدال كبت واقعي يومي بحرية وهمية وإيهامية لانتيجة لها.

2-

على أن هناك فضيلة كبيرة في انتشار الانترنت: وهي الشعور بحرية التعبير وإحساس المتلقي ndash; المشارك بفرديته. فالانترنت يحرر الثقافة من نخبوية زائفة: فالنشر في الانترنت يولّد شعورا إنسانيا لدى الكاتب الهامشي إزاء فرديته: صفة المُقدس التي يتحجّب بها كثير من الأسماء الزائفة، تُنزع عنهم وعن مؤسساتهم وعما يمثلونه من فكر. فأغلب كتاب اليوم، الهامشيين خصوصا، الذين يعانون من النشر على الورق في بلدانهم، وجدوا في الانترنت فرصة أكبر للمضي في كتابات أجرأ وأعمق حتى مما كانوا يطمحون إلى التعبير عنه ورقيا. غير أن البعض يشط أحيانا، ناسيا أن التعبير الحقيقي عن حرية حقيقية يتطلب، دوما، أن يستبصر كل فرد بعمق مسؤوليته الخاصة، على حد عبارة هوركهايمر.

3-

الانترنت بقدر ما هو كهف مفتوح على كنوز لانهاية لها من الثقافة: افتح يا سُمسم، وكل يغرف وعلى هواه، هو كذلك مكان تجريبي بامتياز: فأنت هنا أمام كل أنماط الكتابة والتفكير والانفكاك اللغوي الذي يوحي للقارئ انه انتقل فعلا من أجواء الصحيفة الورقية التي اخذ يراها القارئ المعاصر تعبيرا تقليديا، إلى صلب حركية حياته اليومية المعاصرة حيث الكلام تنبع قوته أحيانا من الغلط النحوي وفوضى التركيب.وبما أن لكل تقدم ثقافي ناحية سلبية: فللانترنت ناحية سلبية هي الأكثر انتشارا في العالم العربي: سهولة سرقة أفكار الآخر علنا.*

4-

للانترنت إشكالية ميتافيزيقية: عندما يُدفن صديق، ويوضع شاهد على قبره، تتم قطيعة مع حياة ما، وتصبح الصميمية مع هذا المفقود جزءً من ماض بعيد، بينما عندما يُحرق جثمانه ويلقى رماده في الهواء الطلق، شك يأخذ طريقه إلى ذاكرتنا، يحيل الموتَ المؤكدَ هذا إلى مجرد غياب، أو اختفاء قد يتراءى ثانية. هذا الشعور عينه، على نحو آخر، يتملك الكاتب، عندما تُنشر مادته في مطبوع ورقي مؤرخ وملموس، بأنه قد انتهى منها، وباتت في الأرشيف، والآن عليه بشيء جديد. بينما، عندما تُنشر في الانترنت وتختفي بعد أسبوع، شهر أو عام، يشعر الكاتب كما لو أنها لم تُنشر، وإنما فقط وزعت بين شلة من أصدقاء، فيتراءى ألف سبب لنشرها ثانية وثانية، دائما للمرة الأولى. هذه العلاقة المقلقة التي يولدها الانترنت بين الكاتب وكتاباته، تجعل من كل نص متعدد الولادة. وكأن كل نص في الانترنت شبحٌ، وفي عالم الورق مجرد جثة.
الانترنت ndash; النشر الرقمي مكانه في الشمس، دائم الاخضرار. النشر الورقي مصيره الاصفرار في السراديب الظلماء. لكل مكانه في تاريخ الأفكار. لكل ليله في ديوان المصير.

ملاحظة: هذا المقال كتب خصيصا للصفحة الأخيرة من المجلة الشهرية العراقية quot;مساراتquot; عدد تموز 2006.

* اليك أسهل طريقة للكشف عن السرقات:استنسخ عبارة من كلمتين مميزتين في مقال تشك انه مسروق، والصقها في غوغل، وانقر ابحث.. وستجد أمامك الأصل المسروق.. أحيانا تضطر الى معاودة المحاولة بكلمتين أخريين.