على مدى أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ظل من يطلقون على أنفسهم quot;القوميين العربquot;، يطبلون لنظام صدام حسين، ويدبجون القصائد في quot;حكمة القائدquot;، دون أن يكلف أي منهم نفسه عناء التوقف أمام ما كان يشهده أبناء العراق من مآس ومذابح، وعمداً تجاهلت صحف الأنظمة العربية مظالم الشيعة والأكراد وغيرهما من طوائف العراق التي تشكل روافد بالغة الأهمية في نسيجه، فالشيعة مثلاً يشكلون غالبية الشعب العراقي، والأكراد يتمتعون بكل مقومات الأمة المستقلة، من خصوصية اللغة والعادات والجغرافيا والتاريخ، ولو شاءوا الاستقلال فلا جناح عليهم، لأنهم يملكون مبررات لا تقل في تمايزها عن الشيشان مثلاً، التي صدعنا البعض بحق أهلها في الانفصال عن الاتحاد الروسي، لكن قاتل الله المكابرة والتبجح الذي يتمتع به quot;القومجيةquot;، إذ أنهم يكيلون بألف مكيال، ثم يتهمون الآخرين بازدواجية المعايير دون خجل

والمعلوم أن الفكر القومي لم يهزم يوم سقوط نظام صدام، ولا يوم القبض عليه في quot;الحفرة إياهاquot; ولا يوم القصاص العادل منه، بل سقط منذ حزيران عام 1967، حين تمكنت دويلة إسرائيل التي لم يكن عمرها حينذاك يتجاوز بضعة عقود من إلحاق الهزيمة النكراء بكبرى الدول العربية، ومن ساعتها أخذت تجربة القومية العربية تتدهور على نحو حاد، والسبب ببساطة هو أن أنظمة الحكم التي امتطت حصان العروبة، فعلت بالشعوب ما لم يفعله الاستعمار الكولونيالي، وقضت على النخب السياسية والثقافية قضاء مبرماً، وحولت تلك النخب إلى عازفين في أوركسترا النفاق والمغالطة والتبرير، فشوهوا التاريخ، وعمدوا إلى quot;عسكرة المجتمعquot;، ففي مصر مثلاً ابتكر نظام عبد الناصر ما يسمى quot;المدارس العسكريةquot;، ونصّب عسكريين سابقين رؤساء للشركات والهيئات وحتى الأحياء والبلديات هذا ناهيك عن الوزارات المتعاقبة، التي ظل العسكر يحظون بنصيب الأسد فيها، حتى الهيئات الخيرية تعاقب على رئاستها العسكر، وبالتالي جرى تفكيك المجتمع المدني، وانتقل ثقل المجتمع المصري من الأحزاب والجامعات إلى quot;ثقافة القشلاقquot; ـ المعسكر ـ حيث تسود روح الطاعة العمياء، ويتلاشى النقد والمحاسبة، مادام المسؤول من quot;أهل الثقةquot;، وكان طبيعياً أن ينهار هكذا مجتمع حتى قبل أن تطلق إسرائيل رصاصة واحدة، على النحو المعروف الذي لم يزل quot;القومجيةquot; يبررونه، ويعلقون خطايا قادتهم المستبدين على شماعة المؤامرات الخارجية.

.......

يقيم مصريون وفلسطينيون وغيرهم مآتم هذه الأيام كمداً على أيقونتهم quot;المدنسةquot; صدام حسين، وهم بهذا يزايدون على شعب العراق أو لنقل غالبيته، إذ أن كل العراقيين، باستثناء ثلة من المستفيدين والانتهازيين سعدوا بالقصاص العادل، الذي شاءت الأقدار أن يكون من نفس جنس العمل، وراح quot;أرامل صدامquot; يرطنون بعبارات أقل ما توصف به أنها سخيفة ومقززة، فيتحدثون عن quot;محاكمة غير عادلةquot; جرت لنبيهم الدجال، وكأنه كان يحرص على محاكمة خصومه ومعارضيه قبل أن يقتل بعضهم بمسدسه الشخصي، ويبيد قرى وعائلات كاملة، ويشن غارات جوية بالأسلحة الكيماوية على طائفة من أبناء شعبه، الذين يبخل عليهم بثروات بلادهم، بينما يشتري بها ذمم الأفاقين والمنافقين وباعة النفايات الفكرية، من نخب quot;القومجيةquot; العرب الذين أدمنوا رحلات الصيف والشتاء إلى بغداد، للمشاركة في quot;مهرجانات الردحquot;، حيث يتبارون في الإشادة بعبقرية quot;الزعيم الملهمquot;، لأنهم يدركون جيداً أنها quot;مزايدة رخيصةquot;، سيربحها الأعلى صوتاً، ومن يذهب إلى آخر مدى ممكن في الكذب، حتى ينتبه إليه quot;أزلام صدامquot;، فتتضاعف المكرمة الرئاسية، التي بلغت حداً غير مسبوق من التبجح، حين منح صدام سيارات quot;مرسيدسquot; فاخرة، لرؤساء تحرير الصحف الحكومية في مصر، ولما شاعت القصة وانكشفت الفضيحة، اضطر الرئيس المصري إلى إصدار أمره بوضعها ضمن ممتلكات المؤسسات الصحافية، وكان حريّاً به أن يسحبها منهم ويعاقبهم بالطرد والمحاكمة

ولم تتوقف فرق الانكشارية quot;القومجيةquot; عند حدود الارتزاق من نظام صدام حسين، بل اتسعت رقعة التربح من كل نظام عربي فاشي، كالنظام الليبي مثلاً، والذي يمكنني أن أتفهم دوافع إعلانه الحداد على اقتصاص الشعب العراقي من الطاغية الذي سامهم كافة صنوف العذاب والإهانة والمظالم التي لا حصر لها، وذلك لأن الطغيان ـ كالكفر ـ ملة واحدة، ولعل عقيد ليبيا كان يتحسس رقبته وهو يشاهد حبل المشنقة يلتف حول عنق رفيقه، وهو بالتأكيد لم يكن الحاكم العربي الوحيد الذي يتابع المشهد التاريخي، لواحد من quot;رفاق الطغيانquot;، فهناك طغاة آخرون تحسسوا رقابهم، وبلغتهم الرسالة العراقية، وهنا نبشرهم بأن العراق أصبح بالفعل quot;منصةquot; لإطلاق الحريات في المنطقة، ولن تكون هذه آخر الرسائل الموجعة لأنظمة الاستبداد في المنطقة، وأن محاولات تلك الأنظمة لإلهاء الشعوب وquot;هندسة أدمغتهاquot;، ضد مصالحها بمزاعم فارغة عن دور إيراني واحتلال أميركي ومطامع إسرائيلية، وغيرها من كلمات الحق التي يراد بها عين الباطل، فالزعم بأن إيران تهيمن على العراق هو إهانة لملايين العراقيين القادرين على تدبر شؤونهم دون وصاية من أحد، أما الحديث الممجوج عن الاحتلال الأميركي، فأبشرهم أنه في القريب سيحمل عصاه ويرحل، متى طلب منه العراقيون ذلك، لكن هؤلاء الأعراب يريدون خراب العراق، لأنهم يبثون عبر وسائل إعلامهم وعلى ألسنة أبواقهم أنه ينبغي على قوات التحالف أن ترحل الآن فوراً، وهم يدركون جيداً أن بلداً كبيراً كالعراق، ظل يعاني قمعاً لا حدود له على مدى نحو أربعة عقود، سيقع في فخ الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي لو رحلت قوات التحالف الآن، فالأعراب يريدون نشوب تلك الحرب، حتى يجلسوا على مقاعدهم ويتشدقون بشماتة عن نصائحهم الثمينة التي قدموها للجميع بعدم الاقتراب من مستنقع الشرق الأوسط، لأنهم ـ أي الحكام الطغاة ـ أدرى بشعابه، ويعرفون جيداً كيف يحكمون شعوبه ويسوسونها.

.......

يتحدث كثيرون من الساسة العرب وأذنابهم من جوقة المستفيدين، عن الدكتاتور صدام وكأنه quot;بطل سني أعدمه شيعة جبناء خونةquot;، وهم يدركون جيداً أن صدام لم يكن سنياً ولا شيعياً، ولا يكترث بأي دين، اللهم إلا بما يكرس استمراره على عرشه، فاستخدم الدين مطية كلما حاصرته الهزائم، ولم يحمل المصحف إلا بعد أن كبلته الأغلال وصار قاب قوسين من مزبلة التاريخ.

وكعادتهم يخطئ الأعراب في حساباتهم السياسية، حين ينفخون في نيران المذهبية، ويتحدثون ليل نهار عن تمدد النفوذ الشيعي الإيراني، وتنطلق آلة الإعلام التي تهيمن عليها أنظمة القمع، لتجييش المشاعر المناوئة لمعتنقي المذهب الشيعي، وهم يتغافلون عن أن اشتعال هذا الملف يهدد بتفجير الأوضاع في عدة بلدان عربية، يشكل فيها الشيعة نسبة لا يستهان بها، وبدلاً من ترسيخ قيمة المواطنة دون الالتفات للدين أو المذهب أو العرق أو الجنس، تتحول هذه الأنظمة الاستبدادية إلى طرف في خصومة تاريخية، قد تفجر مجتمعات برمتها، وتدفع به إلى مواجهات دامية.
وفي سياق التبرير واللعب بالنار، يتجاهل المستبدون وأبواقهم جرائم صدام حين قتل واغتال المئات من أبناء الطائفة السنية، بل ومن أبناء عشيرته وأقاربه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، وزير الدفاع الأسبق عدنان خير الله وهو ابن خال صدام، وبنو عمه حسين وصدام كامل، إبان واقعة الهروب الشهيرة، ناهيك عن الرئيس الراحل أحمد حسن البكر، ووزير الصحة رياض رشيد، ورئيسي ديوان الرئاسة طارق حمد العبد الله، وخالد عبد المنعم رشيد، والدكتور راجي التكريتي، وعشرات العسكريين منهم ثابت سلطان التكريتي، وكامل الجنابي وغيرهم، يتجاهل الأعراب كل هؤلاء ويختزلون أهل السنة في شخص الدكتاتور، الذي لم يكن يوماً سوى طاغية يتلذذ بالدم.

وبدلاً من تجييش مشاعر العوام والدهماء ضد توابع زلزال العراق، وبدلاً من مراجعة النفس وتعلم الدرس، راحت عواصم عربية تتحدث عن نفوذ إيراني، بينما ليس هناك سفراء لهذه البلدان في العراق، وكادوا يختزلون اهتمامهم بالعراق في quot;حصة الاستثمارquot;، ولو كنت عراقياً لما منحت عربياً واحداً تأشيرة دخول للعراق، ناهيك عن عقود الإعمار الهائلة التي منحت بالفعل لعشرات الشركات العربية، فحين يضع هؤلاء الأعراب أنفسهم في خندق مضاد لمشاعر القطاع الأكبر من أبناء العراق فيفرحون لما يحل بهم من كوارث وتفجيرات، لا لشئ إلا الشماتة بأميركا، التي لا يجرؤ حاكم عربي على رفض طلب لها، كما يتباكى هؤلاء الأعراب على ما يسعد العراقيين، كالقصاص من طاغية تلطخت يداه بدماء عشرات الآلاف من أبناء شعبه، وقمع الملايين منهم، وأهدر ثروات الدولة في مغامرات عسكرية لا طائل منها، واستعدى على بلاده العالم كله، وعرّض شعبه لحصار لم ينل منه هو وأسرته ورفاقه، بل تربحوا منه بالمتاجرة بأقوات الناس

كان ينبغي على الأعراب أن يمدوا يد المساعدة للعراق، ليساهموا في إرساء الأمن والاستقرار، بدلاً من فتح حدود بلدانهم معابر للإرهابيين، وهؤلاء ليسو بالتأكيد بمنأى عن قبضة أجهزة الأمن والاستخبارات العربية القادرة على الوصول إلى الجنين في بطن أمه، لكن هذه الأنظمة المرتعدة من أن تمتد توابع quot;زلزال العراقquot; إلى عروشهم، التي لا يريدون أن يصدقوا حتى الآن أنها باتت في مهب الريح، تماماً كما كان صدام حسين لا يريد أن يصدق أن زمنه ولّى إلى غير رجعة، حتى اللحظات الأخيرة التي كان حبل المشنقة يلتف حول رقبته، فقد صدق الطاغية هرطقة المنافقين الذين نفخوا فيه حتى تورم، فتصور أنه خالد ولا يمكن المساس به، وربما استبعد حتى أن يموت على فراشه، فضلاً عن شنقه على هذا النحو الحقير، الذي يستحقه، دون دمعة واحدة تذرف عليه، اللهم إلا من quot;أرامل صدامquot; الذين تضخمت ثرواتهم من عطاياه.
والله غالب على أمره

[email protected]