في نهاية سبعينات القرن العشرين، وفي قمة العودة إلى أفكار الماضي الراديكالية لمواجهة الافلاس الماركسي الأرذوكسي، أنتهج عدد من الراديكاليين الماركسيين الغربيين، الجدد آنذاك، خطا تحليليا جديدا خصوصا في قضية quot;السيطرة quot; وquot;العبوديةquot; وعلاقة الجماهير النفسية بهما. فمثلا تصاعد الاهتمام بدراسات ولهلم رايش، حول السايكولوجيا الجماهيرية للفاشية واستغلالها من قبل طغاة وقادة أحزاب... وسُلط الضوء على دراسات مدرسة فرانكفورت حول الشخصية السلطوية... الخ. وفي هذا البحث الثوري في مستودع الأفكار الجذرية، أعيد نشر أخطر خطاب في مسألة العبودية الطوعية أيإرادة العبودية والرغبة في أن تُستعبد، كتبه في منتصف القرن السادس عشر، الصديق الحميم لمونتاين: ايتيَن لابويسي.
كان هذا بالنسبة إلي اكتشافا كبيرا ساعدني على تعميق حاسة التكاسل أمام حتى المهمات السلطوية الطابع التي كانت تمليها علينا الأفكار التي كنا نؤمن بها؛ حاسةاللاخدمة لأية إيديولوجية أو قائد أو حزب... بحيث عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، لم استطع سوى اصدار بيان جاء فيها:quot;لا أختار بينالكوليرا ومرض السرطانquot;!...وقمت بترجمة مقطع من هذا الكتاب (نشرته في العدد الأول من quot;النقطةquot; المجلة التي كنت أصدرها عام 1982)... خصوصا المقطع الإستخلاصي لجوهر فكرته وهي أن مسألة التحرر لاتكمن إلا في إرادة التحرر من الطغيان، فالطغيان لا يسود إلا برضى الشعب. وما إن تكون للشعب إرادة اللاخضوع ورغبة اضراب أبدي عن العمل في خدمة الطاغية، حتى يسقط الطغيان وينتهي.

أعادني مقال الزميلة صافيناز كاظم quot; أم كلثوم: هل نسائلها عن مرض حب الطغاة؟quot;،رغم انه لايصب في نفس النهر،إلى تلك السنوات؛ سنوات الحدة والذكاء والنوم بين احجار نظرية هدم المعطى ونتائجها المرسومة في أفق بعيد، مما اضطرني إلى أن أعيد، اليوم،نشر المقطع من كتاب ايتيان لابويسي، ليتعرفقراء إيلافعلى هذا المفكر ويبحث عن كتابه الذيسمعت أن ترجمة عربية صدرت في القاهرة قبل ست او سبع سنوات قام بها الدكتور مصطفى صفوان:

quot;أيها المساكين التعساء، أيتها الشعوب الغبية، أيتها الأمم البائسة بمحض إرادتها، العمياء عن خيرها، تتركون ارقى عائداتكم تُسلب أمامكم، حقولكم تُنهب، منازلكم تُسرق، وتُفرغاثاثها القديم؛ التركة الأبوية. انكم تعيشون على نحو لا تستطيعون معه القول إنكم تملكون شيئا، يبدو الآن لفرح عظيم لكم انكم لا تمسكون سوى نصف أملاككم وعائلاتكم وحياتكم. وكل هذا الضرر، هذا البؤس، هذا الخراب، لايأتيكم من أعداء، إنما من عدو واحد، هو هذا الذي تكبّرونه إلى حد الذهاب من أجله إلى الحرب بشجاعة باسلة، الذي لا تأبون أن تقدموا أنفسكم إلى الموت من أجل عظمته.. إنّهذا الذي يحكمكم إلى هذا الحد، ليس لديه سوى عينين اثنتين، يدين اثنتين، جسم واحد، أي ليس لديه سوى ما لأحقر فرد من سِمان مدنكم التي لا تحصى. إلا أن ما يميّزه عنكم هو الامتياز الذي تمنحونه غرض تدميركم.
من أين حصل على كل هذه العيون التي يتجسس بها عليكم، إن لم تعطوه إياها بنفسكم؟ كيف يكون له كل هذه الأيدي لضربكم، إن لم يأخذها منكم؟ من أين له هذه الأقدام التي يسحق بها مدنكم، إن لم تكن تلك الأقدام أقدامكم؟ كيف يمكنه التسلط عليكم إن لم يكن ذلك التسلط تم بواسطتكم؟ كيف يجرؤ الحمل عليكم، إن لم يكن بالتنسيق معكم؟ ماذا يستطيع أن يفعل إن لم تكونوا متواطئين مع السارق الذي ينهبكم، شركاءً في جريمة المجرم الذي يقتلكم وخونةَأنفسكم؟ تزرعون ثماركم لكي يتلفها. تفرشون وتملأون منازلكم لتغذية سرقاته، تغذ ّون بناتكم لكي يجد لذ ّته التي يسكر بها، تربّون أطفالكم لكي يسوقهم في حروبه التي هي أفضلُ ما يقدمه لهم، لكي يسوقهم إلى المجزرة، لكي يجعلهم وزراءَ مطامعه، ومنفـّذي ثأره. إنكم تحطمون أنفسكم بجهدهم، لكي يتنعم هو بملذ ّاته. تضعفون أنفسكم لكي تجعلوه أقوى وأصلبَ، للجمكم. على أنه يمكنكم التخلص من كل هذه التحقيرات التي ترفضها حتى البهائم ولا تتحملها، إذا ما حاولتم، لا التخلص منها، بل إرادة ذلك.
صمموا فقط على الكف عنتلبية أوامرهوها أنتم أحرار. لا أقصد أن تدفعوا به أو أن تزحزحوه، إنما كفّوا فقط عن دعمه وسترونه يهوى ويتكسر بحكم ثقله كتمثال عملاقٍ أُزيحَت قاعدتهquot;.

مجلة quot;النقطةquot; العدد ألأول 1982