أثار مقالي السابق [ اعتذار لكل الشيعة ] تعليقات وفيرة من قرّاء إيلاف : تعليقات بعضها محترم وبعضها مضحك وبعضها موتور وبعضها طائفي بغيض وبعضها لا علاقة له بموضوع المقال. ما يُحيل على مقولة قديمة لمفكر فرنسي تقول بأننا نقرأ ما في رؤوسنا حين نقرأ المقروء ! أي نعيد قراءة دواخلنا عبر القراءة. ويبدو لي للأسف أنّ هذه هي طريقتنا الفارقة، كعرب، في هذا المسعى الثقافي ! فلا يهم ماذا يقول الكاتب، بل المهم والأهم ماذا نقول نحن وماذا نعتقد نحن.

ما علينا. فالحقيقة أنّ ذلك الاعتذار، المحدد في سياق معيّن، والناتج عن موقف سياسي معيّن، في الزمان والمكان الفلسطينييْن، أعادني إلى شجوني القديمة فيما يخصّ موضوعة السنة والشيعة، والاختلاف، بل قل الافتراق بينهما، منذ زمن سحيق. هذا الاختلاف الذي قسمَ العالم الإسلامي، منذ واقعة كربلاء، الأشهر في التاريخ، إلى قسميْن وقطبيْن، وما زالا على تلك الصورة حتى هذه اللحظة.

واليوم، وبعيداً عن تأثيرات الحدث السياسي الآنية، وما نتج من ردود أفعال متشنجة من جانب السنة العرب، على طول الوطن العربي، نتيجة شنق الطاغية العراقي السابق، نقول إنه لا مفر من العودة للموضوع القديم، الخلاف والاختلاف بين سُنتنا وشيعتنا، ومحاولة تلمّس حلّ تاريخي للمشكلة، على أمل إنهائها وطوي هذه الصفحة للأبد. أسوة بمشاكل تاريخية كبرى، مقابلة، جرت بين أطراف متخاصمة، من دولٍ وشعوبٍ وأنظمة حُكمٍ، ووضعوا لها الحلول، بالاعتذار أو الصفح، وانتهوا منها، ناظرين إلى المستقبل، وتاركين صفحة الماضي للماضي، فالولاء والانتماء للحياة ولمستقبل الأجيال البشرية القادمة، أهمّ وأخطر من خلافات دينية أو عقائدية أو سياسية موغلة في القدم، وأولى بتركيز الجهد وعدم تبديده فيما لا ينفع.

وبهذا الخصوص، أرى ضرورة أن يعتذر السنةُ العرب، وبالأخص سنة العراق، للشيعة في العالم، ولشيعة العراق على نحو أخصّ، عما جرى في موقعة كربلاء من إهدار دم الحسين بن علي، اعتذاراً تاريخياً واضحاً وصريحاً، لا لبس ولا التواء فيه، على أن يقابل هذا الاعتذار، غفران وصفح حقيقيان من جانب الشيعة، وبذلك تُطوى هذه الصفحة، التي ما تزال مفاعيلها الرديئة تؤثر فينا حتى هذا اليوم، وتكاد تشرخ quot; وحدة المصير quot;، كما يقال، بين الشعب الواحد أو الأمة الواحدة.

طبعاً سيردّ الكثيرون من عقلاء وحكماء السنة بأنّ الوقت غير مناسب، وسيغضب غوغاؤهم رافضين ومستنكرين هذا الاقتراح من أصله، مصرّين على تحريمه وتجريمه ربما، ووصم مَن ينادي به بأقذع الصفات. لكن في كل الأحوال، لا بد من هكذا اقتراح، إن لم يكن اليوم فبعد سنوات أو عقود أو قرون، وكلما استعجل السنةُ في الأخذ به، كان ذلك لصالحهم ولصالح الجميع. ولمَ لا ؟؟ فلسنا بدعة في هذا العالم. وكل مشكلة ولها حل، وكل قضية خلاف ولها مخرج.

ألم يعتذر اليابانيون للكوريين عن جرائمهم السابقة، وألم يفعل هذا أيضاً الجنوب أفريقيون البيض، فاعتذروا للسود عن نظام الأبرتهايد المقبور ؟ وكذلك اعتذر الفرنسيون الكاثوليك لمواطنيهم من المذاهب الأخرى ؟ ثم هل ننسى كيف سامح بابا الفاتيكان ذات عهد قريب يهودَ اليوم ويهودَ المستقبل، وغفرَ لهم دمَ السيد المسيح ؟

علينا أن نأخذ العبرة من هؤلاء العقلاء المتحضرين، وأن نحذو حذوهم. فالحياة المعاصرة بكل تحدياتها، لا تحتمل عقدة هذا الإرث التاريخي الباهظ الوطأة. وثمة ما هو أجدى. إنّ اعتذار السنة للشيعة مخرج حضاري مطلوب للخروج من مستقبل قادم لا يبشّر إلا بمزيد من الفرقة والعداء، سواء على صعيد سياسي أم مذهبي. لذا لا بد من هذا الاعتذار الواجب، ولا بد أن يصفح شيعةُ العالم وشيعة العراق في المقابل. فهذا مخرج يوفّر على الجميع، عداوات ودماء وثارات، نحن جميعنا في غنى عنها. خصوصاً في هذا الزمن الأسود : زمن النعرات الطائفية والمذهبية، وزمن استنهاض أقبح ما فينا، لتكريس أبدية تخلّفنا وهواننا على أنفسنا وعلى العالم.

اعتذار تاريخي من قبل السنة للشيعة. نعم. وغفران تاريخي من قبل الشيعة نحو السنة. نعم أيضاً. خطوة كبرى تعقبها خطوة كبرى.. وربما، ربما يرتاح الجميع. ويتفرّغوا إلى مسؤولياتهم الأرضية الملّحة في بناء مستقبل أجيالهم القادمة، وفي بناء هذا العراق الجريح، النازف، لكأنما منذ الأبد.

أعرف أنّ هذه الخطوة العملاقة تحتاج إلى وعي تاريخي أيضاً. وعي ربما غير موجود وغير مؤهّل وغير ناضج حالياً. وعي يفتقد إلى أرضية مؤاتية. ولكن منذ متى يحتاج المثقفون العرب، في طرح أفكارهم ورؤاهم إلى أرض ممهدة ومستوية. علينا نحن أن نجتهد، وأن ننظر للأفق البعيد، حتى لو كانت أجسامنا مقيدة في وحل التعاسة اللعين.

إعتذار تاريخي، وأصرّ على هذه الصفة. إعتذار تاريخي لا سياسي. استراتيجي لا تكتيكي. دائم لا آني. لا علاقة له لا بصدام حسين ولا بغير صدام حسين. وحينها سيغفر عقلاءُ الشيعة وسيصفحون.

أما أن يستمر السنة في لا مبالاتهم عما اقترفوه في كربلاء، [ وهي أُسّ البلاء بين الطرفين ] فهذا هروب في أحسن الأحوال : هروب من المشكلة، ومكابرة في الاعتراف بها، وليس من العقل ولا من التحضّر في شيء، ألا يواجه المرء مشاكله، فما بالك بالشعوب ؟

آمل أن يفكّر أحدٌ ما من رموز السنة، أو الأزهر الشريف، بمثل هذا الاقتراح !