تمر الأمة الإسلامية اليوم بمرحلة حاسمة من تاريخها قد تضعها آخر الأمر في مقدمة الأمم، أو تأخذها إلى متاهات لا يعلم إلا الله إلامَ تنتهي!
ولا جدال بأن الحركات الإسلامية على اختلافها قد حققت في العصر الحديث صحوة إسلامية واسعة في أرجاء العالم الإسلامي، أعادت للأمة ثقتها بإسلامها وتاريخها وهويتها وتراثها، غير أن هذه الصحوة ركَّزت جُلَّ اهتمامها على الجانب الرُّوحِيِّ الذي أحيا في الأمة الأمل بالانطلاق مرة أخرى في دورة حضارية جديدة، ولم تحفل تلك الحركات إلا نادراً بالجانب الأكثر أهمية وتأثيراً في خلق الحالة الحضارية، ألا وهو الجانب العقلي الذي من شأنه تجديد (التراث الإسلامي) ليصبح قادراً على التفاعل الخلاق مع معطيات العصر، وليضع الأمة بجدارة على طريق النهوض الحضاري، كما فعل أول مرة.
ذلك أن التراث يشكل الأساس الأول لقيام الحضارة ـ أية حضارة ـ وقد أثبتت وقائع التاريخ مراراً وتكراراً أن الأمم التي أفلحت في الماضي بتحقيق نهضة حضارية متميِّزة هي تلك الأمم التي تمتعت بروح مُبْدِعَة مكَّنَتْها من تجديد تراثها وجعله قادراً على التحاور مع الواقع الذي من طبيعته التغير والتبدل والتطور.
والتراث بمعناه الاصطلاحي هو كل ما أنتجته الأمة ـ أية أمة ـ من علوم ومعارف وأصبح يشكل المرجعية الفكرية والروحية للأمة، ومن ثم فإن التراث الإسلامي فهو كل ما أنجزه العقل المسلم عبر تاريخه من علوم ومعارف مرجعيتها رسالة السماء.
وقد أثبت التاريخ في مناسبات عديدة أنَّ التراث يعطي أفضل ثمراته عندما يكون قائماً على أسس روحية تتصل برسالة السَّماء، وهذا ما حصل في حضارتنا الإسلامية الأولى حين اتصلت الأمَّة بالسَّماء، فأبدعت ذلك التراث الفريد الذي جعلها في سنوات معدودات سيدة الدنيا، بعد أن كانت تعيش حياة البداوة والعداوة والتمزُّق والشَّتات.
وقد أثبت التاريخ كذلك أن التفاعل ما بين تراث الأمة وواقعها إذا ما اختلَّ فعندئذ تحدث الأزمة، وتدخل الأمة مرحلة الجمود والتخلُّف والانحطاط ثم لا تلبث أن تغيب عن خارطة العصر، وهذا الغياب قد يكون غياباً مادياً، كما حصل لكثير من الأمم التي بادت واندثرت ولم تحفظ سجلات التاريخ إلا بعض رسومها، وقد يكون غياباً معنوياً، فيظل الإنسان اللحم والشحم والدم، فيما يغيب الإنسان الفكرة والفعل والعطاء، كما هي حال أمتنا الإسلامية اليوم، التي بالرغم من أنها تشكل ربع البشرية، فإنها تعيش على هامش الأحداث، وكأنها قد وقعت بالفعل في ما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ((يُوشِكُ أنْ تَداعَى عليكُمُ الأمَمُ مِنْ كُلِّ أفقٍ، كما تَدَاعَى الأكَلَةُ على قَصْعَتِها. قلنا: يا رسولَ اللهِ، أمِنْ قِلَّةٍ بنا يومئذٍ؟ قال: أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنْ تكونون غثاءً كغثاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ المهابةَ من قلوبِ عدوِّكُم، ويجعلُ في قلوبِكُمُ الوَهَن. قلنا: وما الوَهَنُ؟ قالَ: حُبُّ الحياةِ وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ)) (1)، وإن أخشى ما نخشاه أن تطول بنا الأزمة، فننقطع عن العصر، ونغيب عن الساحة، نحن المكلفين بالشهادة على العالمين بنَصِّ القرآن الكريم ((وَكَذلِكَ جَعَلناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدَاً)) سورة البقرة 143.
وقد ساهمت نخبة واسعة من الباحثين في العصر الحديث بمحاولات جادة لتشخيص الأسباب والعوامل التي أوصلت الأمة إلى لحظة الأزمة، ويمكن القول إن هؤلاء الباحثين انقسموا إلى فريقين رئيسيين في تشخيصهم للأزمة:
bull;فريق أرجع الأزمة إلى انصراف الأمة عن تراثها الإسلامي، وتأثرها بثقافات الأمم الأخرى التي يرى هذا الفريق أنها ثقافات مناقضة لثقافة الأمة وتراثها، ومن ثم يذهب هذا الفريق إلى أن الخروج من الأزمة يتطلب العودة إلى الماضي، إلى سيرة السلف الصالح، والتمسُّك بتراث الأجداد الذين حققوا للأمة مجدها الإسلامي الزاهر.
bull;وفريق آخر انتهى إلى رؤية معاكسة تماماً، فأرجع الأزمة إلى تمسك الأمة بتراثها، وجمودها عليه، ورفضها الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى والتفاعل معها، ومن ثم ذهب هذا الفريق إلى أن الخروج من الأزمة يتطلب التحرر من سلطة التراث الذي بات يعوق الأمة عن الانطلاق والتفاعل مع روح العصر(2).
وقد أفرز هذا التباين الحاد ما بين الفريقين تيارات فكرية مختلفة، ونظريات كثيرة، واقتراحات وتوصيات وحلول لا حصر لها، لكن هذه الجهود على اختلاف مقارباتها للأزمة أخفقت حتى اليوم بتقديم الوصفة العملية الكفيلة بإخراج الأمة من أزمتها، لأنها حصرت الأزمة في خيارين يتجاهلان طبيعة التراث، فالتمسك بالتراث بمعزل عن معطيات العصر والثقافات السائدة فيه ـ كما يرى الفريق الأول ـ هو حكم مبرم بالانسحاب من الحاضر، والنكوص إلى الماضي، ووضع الأمة على طريق الغياب، أما التحرر من سلطة التراث ـ كما يرى الفريق الثاني ـ فيعني تخلي الأمة عن المكوِّن الأول، بل الأساسي، من مكونات وجودها!
ولهذا نرى أن الجهود ينبغي أن تتوجه لا إلى التمسُّك بالتراث أو التخلِّي عنه، بل إلى تجديد التراث وتفعيله ليكون حاضراً بكفاءة في صناعة الأحداث، وتكون الأمة حاضرة بقوة على خارطة العصر.
ويعود تركيزنا على التراث هنا ـ في معرض بحثنا عن مخرج من الأزمة ـ إلى سببين اثنين: أولهما أن التراث هو الأساس الأول في تشكيل الأمة وفي بناء نهضتها كما أسلفنا، وثانيهما أن ما بين التراث والأمة تفاعل مستمر هو الذي يقرِّر حالة الأمة وحالة تراثها في الوقت نفسه، فالأمة الحيَّة لا تفتأ تبثُّ عوامل الحياة بأوصال تراثها، وتجدِّد الدم في عروقه، وتغذِّيه بأفضل ما في العصر من زاد علميٍّ وفكريٍّ وثقافيٍّ، والتراث الحيُّ بالمقابل هو الذي يدفع الأمة للفعل والإبداع والعطاء، ويضمن لها مكانتها اللائقة على خارطة العصر.
ولا يُجادِل مُنْصِفٌ بأن تراثنا الإسلامي تراث غني جداً، بل هو تراث فريد في غناه، وهو يتمتع بقدرة هائلة على دفع الأمة مرة أخرى للانخراط بدورة حضارية جديدة كما فعل أول مرة، غير أن هذا التراث اليوم لم يعد كما كان بالأمس، فقد سَرَت في أوصاله برودة الزمن من جراء ما تعرَّض له خلال عصور الجمود والتقليد والتكرار، ولم يعد بوضعه الحالي قادراً على التفاعل الخلاق مع معطيات العصر.
وهذه ليست دعوة للقطيعة مع التراث كما قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى، لأننا نؤمن إيماناً راسخاً بأن الأمة التي تنقطع عن تراثها تمسي كالشجرة التي انقطعت عن جذورها ما لها من قرار، وإنما الذي نعنيه، وندعو إليه، ونؤكد عليه، وننبه له، أن التراث مهما كان عزيزاً علينا، ومهما اعتقدنا فيه العصمة والكمال، فلا مندوحة لنا ما بين الحين والآخر أن نعيد النظر فيه من أجل تجديده وتفعيله.
وليس في إعادة النظر هذه ما يقلل من شأن التراث، وذلك لأن التراث ـ أي تراث ـ ما هو في حقيقته إلا مُنْتَجٌ بَشَريٌّ، ومن ثم فهو مُعَرَّض لأن يعتريه ما يعتري أي منتَج بشري آخر من خطأ أو قصور أو علل.
ثم إن الوقائع المستجدة (النوازل بتعبير علماء الأصول) لا تتوقف على عصر دون عصر، بل هي وقائع مستمرة في كل العصور، وهذا ما يحتِّم علينا أن نعيد النظر في تراثنا الإسلامي ما بين فترة وأخرى لكي يظل هذا التراث قادراً على التعامل مع الوقائع المستجدة، ويظل حاضراً وفاعلاً ومؤثراً بقوة في كل عصر.
ونعتقد أن هذه الطبيعة في التراث هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله يَبْعَثُ لهذهِ الأمَّةِ على رَأْسِ كلِّ مائةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا))(3)، وتجديد الدين لا يعني استبداله بدين آخر، بل يعني إعادة النظر في (التراث الديني) من أجل إعادة (الدين) إلى نقائه الأول وحيويته الدافعة للأمة على طريق النهوض.
هذا مع الإشارة إلى أن دعوتنا لإعادة النظر في تراثنا الإسلامي لا تقتصر على (المنتَج التراثي) وحده، بل تشمل كذلك (الأدوات المعرفية) التي أنتجت التراث، لأنها تشكِّل جزءاً لا يتجزأ من التراث نفسه، وفي مقدمة تلك الأدوات (علم أصول الفقه) الذي نعتقد أنه البوابة العملية لتجديد الدين الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم، لأن الفقه هو الميزان الذي يزن به المسلم أفعاله، حلال هي أم حرام؟ صحيحة هي أم فاسدة؟ والفقه هو الذي يشكل ثقافة الأمة، ويصوغ عقليتها، ومن هنا جاء اهتمام علماء الأمة الإسلامية على مدار التاريخ الإسلامي بأصول الفقه، ومن هنا يأتي اعتقادنا الجازم بأن تجديد الدين يبدأ من تجديد هذا العلم.. أولاً.. وقبل أي شيء آخر.
وللحديث صلة في مقالة قادمة.
[email protected]

__________________________________________________
هوامش:
1.مسند الإمام أحمد 22019، من حديث ثوبان رضي الله عنه.
2.انظر على سبيل المثال: د.محمد عابد الجابري (التراث والحداثة) مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991.
3.أخرجه أبو داود 4288، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية