سفير مملكة البحرين باليابان
حين قررت البدء في الكتابة عن تجربتي في اليابان فكرت أن ندخل أنا والقارئ العزيز في حوار حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في وطننا العربي والتعرف على تحدياتها وأسبابها، وطرق التعامل معها والوقاية من تكررها، مع دراسة و الاستفادة من التجربة اليابانية. وسأناقش في الحلقات القادمة تحديات التعليم في وطننا العربي والتي أرجو أن نتدارسها معا ونتواصل في الحوار عبر البريد الالكتروني. ولأذكر القارئ العزيز بأنني لست بصدد تقيم تحديات التعليم في التجربة اليابانية، بل سأركز على النقاط الايجابية في تلك التجربة التي يمكن الاستفادة منها للتعامل مع التحديات التي نواجهها. وأعتذر مقدما إن زل قلمي في أدب الحوار أو طرحت فكرة غريبة عن مجتمعنا، وكل ما أتمناه أن تكون هذه التجربة غنية للقارئ العزيز والكاتب الصديق.
وسنبدأ هذه الحلقة بدراسة موضوع الاهتمام بالموارد البشريه وتطويرها في التجربة اليابانية والتي هي على رأس خطة حكومة الحزب الليبرالي الديمقراطي في اليابان. وقد ألف رئيس الوزراء السابق شنزو ابيه كتابا بعنوانquot;اليابان: الأمة الجميلهquot;. وقد إهتم بطرح تصورات حزبه لتهيئة اليابان لمرحلة العولمه القادمه. وركز على موضوع التعليم والاقتصاد. وحينما استلم رئاسة الحكومة السابقة درٌس خطة التعليم مع الحكومة، وقدمها للبرلمان، وتمت الموافقه عليها بعد حوار عميق. وقد ركزت الخطة التعليمية على الثقافة اليابانية للطفل، وتعزيز حبه وأخلاصه لوطنه، وتطوير طريقة تفكيره وتنمية ذكاءه.
وأرجو أن يلاحظ القارئ العزيز بأن اليابان ثاني أكبر قوة أقتصادية في العالم، ويعتبر طلابها في مقدمة الدول المتقدمة في العلوم الطبيعية والرياضيات والتكنولوجيا، ومع ذلك أول موضوع تطرحه الحكومه ويناقشه البرلمان هو انتقاد بناء لمعوقات التعليم ومحاولة تطويره، فهل هذا هو سر تفوقهم؟عدم الرضا عما حققوه والاستمرار في الإصلاح، والاهتمام بالقوى البشرية وتطويرها. فالاهتمام بالإنسان هو سر نجاح التجربة اليابانية. كما لن يتوقف الياباني عن إكتشاف الاخطاء في أي عمل يقوم به ويحاول الوقاية منها والاستمرار في التطوير.. ويقولون من لا يخطئ لا يعمل، وكلمة المخطئ في اليابان تعني التطوير، أي الاهتمام بتقييم العمل، وإكتشاف معوقاته، والاستمرار في التطوير لمرحلة ما قبل الكمال. ولا يوجد لكلمة الكمال وجود في اليابان. فهي كلمة تعني الموت، فالكمال هو تقييم لما بعد الحياة، حين يتوقف الإنسان عن العمل لا يخطئ ولا يتطور..وحينما يكون حيا سيخطئ ومن الضروري اكتشاف هذه الأخطاء، وإصلاحها والوقاية من تكررها ليستمر التطور والوصول لمرحلة ما قبل الكمال، وقد تكون هذه الفلسفة اليابانية مهمة للتقدم والنجاح.
وأحد المواضيع المهمة التي يناقشها التعليم في اليابان اليوم، وناقشها البرلمان الياباني هي quot;الشخصيه المستأسدةquot; بين الاطفال وهي من أحد المشاكل الرئيسية المقلقة. فالمجتمع الياباني بني على كلمة quot;اليونيفورمتيquot; اي التشابه والتماثل. الكل يجب أن يكون متشابها بمواصفات معينه مدروسه. التعليم يتعامل مع المدرسة كمصنع، يدخل الطفل ويتخرج بمواصفات معينه يجب أن تكون جميعها متشابهه. لأن المدرسة تعامل كالمصنع والمدرسيين كالآلة الانسانية، وقد حددت خطة التعليم نوعية المواطن الذي تريد أن تنتجه بعد الدراسات الدقيقة. وبعد ذلك درسوا آلية العمل لانتاج هذا النوع من الطفل، وتوفير الفرص المتساوية له، والنتيجه طبعا يجب ان تكون متشابهة. وفي قائمة الاولويات تعزيز لطف وادب المعامله عند الطفل، الذي سيخلق منه فردا منتجا في الفريق المنتج.
ويشجع التعليم الياباني عمل الفريق ويقوم بغرسه من خلال حصص حوار دراسية مدروسة. حيث يقسم الاطفال في حصص الحوار لمجموعات صغيرة للمحادثة والمناقشة لتطوير قوة الحوار والعمل الجماعي عند الأطفال. وتهتم المدرسة بتعليم الانضباط واحترام الوقت وتقديسه، والإخلاص في العمل وانتاجيته، بالاضافة لتدريب الطالب للاستفاده من الرياضيات والعلوم الطبيعية والاجتماعية لحل المعضلات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية.
والجدير بالذكر بان الدولة تهتم بالطفل في بداية حياته اكثر من بعد استكمال نموه اي بعد الخامسة عشر.. فالحضانه ورياض الاطفال والمدرسة الابتدائية والمدارس الوسطى توفرها الدولة وحتى السنة الخامسة عشرة والتعليم فيها إجباري حسب الدستور الياباني. أما بعد ذلك يتجه الكثير من الطلبة للدراسة بمعاهد التكنولوجيا أو الكليات ذات البرامج لمدة سنتيين. وبعدها يتخرج الطالب ويبدأ العمل في المصنع أو الشركة وطبعا مفهوم العمل في اليابان وهو الانتاجية من خلال التدريب المستمر.. كما ينتقل الموظف من دائرة لدائرة كل عدة سنوات، للمحافظه على حبه للعمل وإكتشاف تحديات جديدة للتعامل معها ولتطوير قدراته المختلفه. وطبعا تهيئ القوى العاملة لكي تستطيع القيام بأي عمل مع قليل من التدريب، استعدادا للتغيرات التكلنولوجيه وتموجات اسواق بيع البضائع. والطالب الذي يقرر أن يتوجه للدراسة الاكاديمية او التخصص في مجالات التعليم والطب او المحاماة، يحتاج إلى ان يكمل دراسته في المدرسة الثانوية ويتوجه للجامعة ليدرس في كلياتها على مدى اربع لست سنوات. ولو أمعنا النظر نجد أن النظرة اليابانية تتوافق مع حديث رسول الهدى(صلعم) حينما قال quot;هذبوهم لسبع، ثم علموهم لسبع، ثم صادقوهم للسبعquot;.
وليسمح لي القارئ العزيز بالعودة معي لمشكلة quot;الطفل المستأسدquot;.. فالتربية النمطيه في اليابان تلزم الاطفال ان يكونوا متشابهين في كل شئ. واذا لم نبالغ فإن جميع اليابانيين نفس الطول تقريبا،و نفس الوزن، ونفس اللباس، ونفس اللطف والادب مع قليل من الخجل والحياء، نفس الانضباط وتقديس العمل، نفس طريقة التفكير، نفس طريقة الحياة. ولو أختلف أي فرد فيكون شاذا وغير مريح للتعامل معه. وهذه مشكله كبيرة في المدرسة إذا اختلف الطفل عن الجماعة، فيتعرض للاساءة من بعض الاطفال المستأسدين. ومن طبيعة الشخصية اليابانية أنها لا تحب الأساءة لأحد ولا تتحمل ابدا أي نوع من الاساءة. والإساءة المفرطه قد تدفع بالاطفال للاكتئاب ونادرا ما تنتهي للانتحار. ومع الأسف الشديد هذه حقيقة شائعة في اليابان، وسأستعرض تفاصيل هذا الموضوع حينما نناقش تعزيز الذكاء العاطفي والاجتماعي.
ونستخلص من حديثنا بان اليابان تستثمر في الانسان، تهتم بتربيته في المراحل الابتدائية وتهتم بتعليمه في المراحل المتوسطة، ثم توجهه ليختار صيغة مستقبله. فهل سنستفيد من هذه التجربه الغنية بالاستثمار في الانسان والتركيز في التعليم على مرحلة الحضانة ورياض الاطفال، وتوجهه إلى مرحلة ما بعد المتوسطة في تجهيزه لاختيار المهنة من خلال التدريب في المدارس الثانوية المتخصصة والمعاهد التكنولوجية. فالطالب في مجتمعاتنا العربية يريد دخول الجامعة لتكملة دراسته الأكاديمية، ليتخرج وقد ينتهي ويفاجئ بانه غير مهيئ للعمل في أية مهنة.
والسؤال لعزيزي القارئ هل نضيف في وطننا العربي للتعليم الإجباري مرحلة الحضانة ورياض الأطفال وبأن تنتهي الدراسة التعليمية بعد سن الخامسة عشرة، اي بعد الدراسة المتوسطة؟ وهل تبدأ بعدها مرحلة التدريب للعمل في المدارس الثانوية المتخصصة والكليات المهنية؟ ففي المرحلة الثانوية يتوجه الطالب لاختيار تدريبه لمهنة مستقبلية، وبذلك ننظم إقتصاد التعليم، وندرب بعض الشباب بعد الدراسه المتوسطة للعمل في المصانع والبناء والبنوك والاعمال الحرة.. أما من يريد مثلا أن يصبح محاميا اومهندسا أو طبيبا او أقتصاديا او معلما، فعليه ان يكمل الدراسة في الجامعة ويتخصص. ولننجح في ذلك يجب ان نغير ثقافة الشهادات المتعمقة في المجتمع. ومن المعروف ان احد اغنى رجال العالم وهو بل جيتس المالك الاول لشركة ميكروسوفت ترك الجامعة وتفرغ لتطوير شركته.. فقد كان يدرس في احسن جامعة في العالم وهي جامعة هارفرد وقرر أن يترك الدراسة وان يتفرغ للابداع في التجارة فبدأ بشركة ميكروسوفت وحولها الى اعظم شركة في العالم وباتت تخدم العالم بأجمعه.
سفير مملكة البحرين باليابان
[email protected]
طوكيو

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية