كل متابع للفضائيات العربية ولو لفترة قصيرة، سيشعر حتما باستعادة الزمن الرومانسي الجميل ولو لساعة واحدة من خلال ما يقدمه الفنانون السوريون الذين يدخلون القلوب عبر الفضاء في اعمال جذابةتشد اكبر عدد من المشاهدين على شاشات تكاد العتمة والفنون الهابطة تجعلنا نهجر اغلب ماتعرضه اذ لا نجد فيها احيانا مايتناسب مع اهمية الوقت الذي نضيعه من اجلها بلا فائدة ولا متعة، ويستطيع اي مشاهد مثلي ان يرى مايقدمه فنانو سوريا من اعمال ناجحة ترتقي بمستوى الفضائيات العربية بشكل عام ولو على صعيد الاعمال الفنية فقط.
لا أريد هنا ان يكون حديثي ناقدا ومحبطا للفنانين العرب من الدول الاخرى، فأنا لم أتفرغ لمتابعة الفضائيات ومابها، ولو تفرغت لهذا لصرفت كل يومي في المشاهدة ولما استطعت كتابة او قراءة اي شي، كما انني اطرح الموضوع كمشاهدة لهذه الاعمال التي تشدني اكثر من سواها.
ورغم انني لست بناقدة، لكن من حقي ان اطرح وجهة نظر اخص بها الفن السوري الذي يبهجنا ويدخل لأنفسنا الثقة بوجود فن حقيقي مؤثر يحاول ان يبزغ من قلب الظلام الذي يلف عالمنا العربي، وبغض النظر عن مستوى البرامج السياسية والثقافية غير المقنعة والتي تشترك فيها كل هذه الفضائيات، المليئة بالمغالطات والحصارات الحكومية والمجاملات للسلطات والمسؤولين، لكن الاعمال الفنية السورية تبقى بمستوى القمة، حيث تطرح الواقع باسلوب حضاري وبدون اية مبالغة او مواربة للتقاليد والاعراف والمنطلقات الدينية التي تصبغ واقعنا، مع احترام هذه الاعمال لكل دين ولكل مقدس ولكل فكر..
ان هذه الاعمال اكثر جرأة من سواها مما رأيت، في الدراما او الكوميديا، فهي لا توفر مسؤولا كبيرا في الدولة ولا مؤسسة او حزبا ولا سلطة تنفيذية متمثلة بالشرطة والمخابرات إلا وتنتقد تصرفاتهم المشينة واستهتار بعضهم بحقوق الناس وكرامتهم، وبهذا فان الفنانين السوريين يعكسون دورا مهما لهم نستطيع ان نسميه نهضويا، رغم ان البعض يستهين به ويعتبره حالة تشكل امتصاص نقمة من اوضاع اقتصادية وسياسية متعبة سائدة في البلد..
الأهم من كل ذلك هو ان الاعمال هذه، تبحث في مشاعر وحياة الانسان من الداخل، وتناقش اسباب المشاكل الاجتماعية من جذورها بصدق لصالح الفرد لا لصالح المجموعة، حيث تهمل فكرة quot; السمعةquot; quot; وكلام الناسquot; والمعتاد والدارج quot; والاخلاق الشائعة quot; وكلمات تشبهها يكررها الناس دون ان يناقشوا معناهاوتأثيراتها السلبية على حياتهم المستقبلية، حيث يكون المهم في حساباتهم هو الاخرون وليس الذات الانسانية بنوازعها وعواطفها واحاسيسها السلبية اوالايجابية.
ان اكبر مشاكلنا الاجتماعية تكمن في عدم الاهتمام بالذات الانسانية وماذا تريد، اي اننا لازلنا نتعامل مع الانسان على اساس فكرة القطيع، اي اننا ننظر له من خلال تعامله مع العشيرة، او القبيلة، او الحارة والرهط، لا على اساس قدراته المعرفية ورغباته الشخصية، وبهذا نكون قد اتينا على الابداع من اساسه حينما نجعل شعور المرء يتحرك باطار محدد لا يخرج عن المجموعة ولا يحق عليه التمرد عليها....
ويأتي الفن السوري الحديث ليكسر هذا الطوق في اعمال تؤديها فنانات جميلات وذكيات، متمرسات على تقديم ادوار متنوعة، ويفرحنا فنانون مبدعون وكأنهم عفويون في ادوارهم مدركون لأهمية مايطرحون، فاغلب الفنانين السوريين- نساءً ورجالا- كما تابعتهم بعدة لقاءات لديهم قدرُ كبيرُ من الثقافة لمناقشة الادوار والشخصيات التي يؤدونها، لا كدور تمثيلي فقط انما كحالة اجتماعية تتحرك باطار الواقع المعاش...
وفوق ذلك كله، فان هذه الاعمال التي تسلط الضوء على اخطاء الانسان الداخليةاحيانا، تعطي تجربة للمرء امام عينيه كي لا يقع، ولتقربه من الحقيقة في زمن عربي يمتاز بفوضاه، ولكن بدون اسلوب النصح والمواعظ، وبعيدا عن الملل والخوف من طرح التفاصيل الصغيرة في حياة الناس..
ان الاعمال التي قدمت في quot;سيرة الحبquot; وفيquot; ندى الايام quot;وغيرها من مسلسلات، اعادتنا الى اجمل الازمان التي مر بها جيلنا، كما اعادتنا الى الروح الانسانية العاشقة التي تفتقد هذه الايام عند الكثيرين بسبب متطلبات الحياة وتسارعها لصالح المخترعات الحديثة واللهاث وراء المال وهموم العولمة، فالعطاء الفني السوري فيه جمال مزدوج، فبالاضافة للجمال البكر الطبيعي والمحبب نجد فيه من العصرية ما نحتاجه لمواجهة التخلف والسلفية التي تشدنا الى الوراء، حتى ليعجب المرء احيانا كيف ان ذاك الجمال رغم عصريته بقى بمنأى عن مرور عجلة التطور عليه لتسحقه وتحنطه، انما هي زادته حيوية ولمعانا وبريقا يخطف الابصار..
وبنجاح كبير تطرح كل الاعمال الفنية السورية واقع المرأة والعنف ضدها بشكل لازيف فيه وبدون أية مبالغة، كما تطرح المستويات الثقافية المتفاوتة لها والتي تضر وتنفع حسب نوع المشاكل..
ففي مسلسل باب الحارة الذي انتقده الكثيرون بسبب من طرحه المرأة كأقل من انسان مسلوب الارادة، مهمش، لا دور له سوى قول نعم، أراه وقد غمط حقه في النقد والتحليل، فالمشاهد يحتاج حتما لتحريك العقل ليدرك الفكرة المعروضة، وهي ان الاحداث التي جرت قبل اكثر من ستين عاما كانت تعكس وضع المرأة آنذاك اي بصورتها المستكينة والمبعدة عن الحياة العامة، والتي لا تستطيع الا ان تكون اداة لراحة الرجل المتسيد، لكن هذا الواقع الذى خلا من اعطاء المرأة حق المشاركة وهذا التهميش الذي ابعد حكمة المرأة طرح نتائج سلبية واضحة بالمسلسل الا وهي كثرة المشاكل الاجتماعية في تلك الفترة، فلا نجد بيتا في الحارات الا والهموم تأكل من راحة افراده،كما ان الرجال يشغلون انفسهم بأحداث صراعات لاعلاقة لها بالاستعمار الفرنسي - فهذا بحث آخر - انما العقلية الذكورية المتطرفة تسبب احيانا صراعا بين الاخوين لمجرد رؤية شعر امرأة وكأن الدنيا قد انقلبت، ولأن المرأة في عقولهم اثما وحراما مهولا، اضافة الى اننا نراهم يتصارعون وينشغلون بامور تافهة ليتصيدوا بعضهم تنفيسا لطاقة ٍ كانت حتما ستصرف من اجل الحب والعطاء لو كانت المرأة مساهمة فاعلة ورفيقا ندا للرجل وليس خادمة مطيعة لا رأي لها....
اخيرا اقول، ان العالم العربي ومنذ سنوات طويلة بات الرديء فيه يطرد الجيد، وعلى صعد كثيرة، لهذا اضع قلبي علي يدي خوفا من ان يكون الفن السوري quot; الجيدquot; هدفا للرداءة التي تطغى على الفضائيات العربية كغيرها من وسائل الاعلام العربي..
[email protected]


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية