quot;ابتداء من 2003 ستصبح الإنجليزية لغة تدريس الرياضيات و العلوم كي لا تبقى ماليزيا خارج الاقتصاد المعولمquot;
بيان الحكومة الماليزية (2002)

حققت ماليزيا قفزات فريدة في العالم الإسلامي على مستوى التنمية الاقتصادية، خلال العقود الثلاثة الماضية، وصل على إثرها معدل دخل الفرد، مقدرا بالقوة الشرائية للدولار الأمريكي (مضاعفة الدخل في الدولة التي تكون فيها الأسعار نصف مستواها في أمريكا، على سبيل المثال) 3،10 آلاف دولار، مقابل 8،7 آلاف دولار في تونس، 7،4 آلاف دولار في الأردن، 3،4 آلاف دولار في المغرب، 2،4 آلاف دولار في مصر، و 6،3 آلاف دولار في سوريا (المصدر: تقرير التنمية البشرية للعام 2006). و يمثل النظام التعليمي العصري المستنسخ عن النظام البريطاني أحد أهم أسس هذه النهضة ( الأساس الثاني هو النهوض بالمرأة الذي سنحلله في مقال قادم). فكيف استطاعت ماليزيا بناء نظامها التعليمي الحداثي ؟ وما هي الدروس التي يمكن لباقي الدول العربية و الإسلامية استخلاصها من هذه التجربة الناجحة؟

يقوم النظام التعليمي في ماليزيا على شراكة بين القطاعين العام و الخاص، و يعتمد مناهج عصرية استنسخت منذ البداية عن النظام البريطاني، و وفرت فرص التعليم للجميع. و بالرغم من مجانية التعليم الحكومي و تقدمه، استطاعت المدارس الأهلية للطوائف الهندية و الصينية منافسته - بل التفوق عليه-، و هو ما يفسر انخفاض نسبة الطلبة من أصول صينية الذين يلتحقون بالمدارس الحكومية من 50% في بداية السبعينات من القرن الماضي إلى اقل من 6% في الوقت الحاضر. و الاستثناء الوحيد في هذا المجال هو المدارس الإسلامية، التي فشلت في السباق و اصبح دورها مقتصرا على إعطاء دروس quot;تكميليةquot; في اللغة العربية و التربية الإسلامية للطلبة المسلمين، الذين يتابعون دراستهم الأساسية في مدارس الحكومة.

فنجاح التعليم في ماليزيا إذن قام على أنقاض المدارس الإسلامية التقليدية لا العكس، كما حاول بعض الأصوليين، و في مقدمتهم راشد الغنوشي، الايحاء به عندما ادعوا بان التطور التعليمي في ماليزيا هو نتيجة الإبقاء على نظام quot;الوقفquot; الإسلامي في هذا البلد، بينما إلغاء هذا النظام في الدول العربية الحداثية ( مثل تونس) حرمها من مصدر هام من مصادر التمويل !!! فهذا الادعاء هو مغالطة كبرى تهدف القوى الأصولية من ورائها تمرير مشروعها الظلامي و المتخلف لا غير.

لعل ما يسترعي انتباه الباحث في التجربة التعليمية الماليزية هي الجدية التي تميز العمل الحكومي في هذا المجال. فمهاتير محمد نفسه كان وزيرا للتعليم قبل أن يصبح رئيسا للوزراء. و عندما جاءت ماليزيا في المرتبة 15 في الأولمبياد الدولي للرياضيات في العام 1999، متقدمة على أمريكا و إنجلترا، لم تقبل الحكومة بهذه النتيجة، بل اعتبرتها علامة فشل مقارنة بالمرتبة الأولى التي حصلت عليها جارتها الصغيرة سنغافورة. و قامت بمراجعة جذرية للتعرف على سبب هذا الإخفاق النسبي، تبين من خلالها أن استعمال الإنجليزية كأداة لتدريس الرياضيات و العلوم هو العامل الأساسي في تفوق سنغافورة. و من ثم جاء إعلان الحكومة الماليزية في العام 2002 : quot; ابتداء من 2003 ستصبح الإنجليزية لغة تدريس الرياضيات و العلوم كي لا تبقى ماليزيا خارج الاقتصاد المعولمquot;. و اتخذت و على جناح السرعة الإجراءات الضرورية لاعداد المدرسين لهذه المهمة الصعبة و الضرورية. و على الدول العربية و الإسلامية الأخرى الاقتداء بهذه التجربة - لتدريس العلوم و الرياضيات بالإنجليزية - لان العربية مازالت للأسف عاجزة عن تدريس هذه المواد و نشر الأبحاث بها.

و بالرغم من أن ماليزيا تمكنت من توفير العمالة لكافة مواطنيها بالإضافة لمليون عامل أجنبي، بادرت الحكومة بإنشاء لجنة وزارية خاصة لتطوير التعليم الفني في العام 1991، فأصدرت 16 توصية بهذا الشان، و في مقدمتها إنشاء مجلس أعلى للتكوين المهني ( نصف أعضائه من القطاع الخاص) اشرف على تطوير مراكز متخصصة تلبي احتياجات الاقتصاد الوطني، بلغ عددها 1660 مركزا بنهاية 2004 و توفر مجموع 6910 برنامجا.

كما تم استغلال كافة المصادر المتاحة لتطوير التعليم العالي، حيث يوجد في الدولة اليوم 17 جامعة حكومية و 22 جامعة خاصة، بالإضافة إلى 349 كلية أهلية (Community Colleges)، و فروع 4 جامعات دولية مرموقة (من المملكة المتحدة و استراليا). كما تم إعداد نظام جديد لــ quot; ضمان الجودة quot; يتم تطبيقه بصرامة على كل المؤسسات الجامعية، اثبت جدواه بدليل المستوى الراقي للفنيين و المهندسين و الباحثين. و انعكس هذا المجهود الجبار على تطور الصناعة، بما فيها قطاعات التكنولوجيا المتقدمة التي تمثل اليوم 55% من إجمالي الصادرات في ماليزيا، وهي نسبة قريبة من النسبة السنغافورية ( 59% )، و تفوق بكثير النسب العربية: المغرب (10%)، تونس (5% )، سوريا و مصر : 1% ( المصدر السابق).

يتطلب استنساخ النموذج الماليزي شجاعة سياسية كبيرة لدى صناع القرار. و توفرت مثل هذه الشجاعة عند مهاتير محمد الذي تعرض لهجومات كبيرة من القوى الأصولية المحافظة في ماليزيا. بل تم تكفيره اكثر من مرة من طرف هذه القوى كما صرح هو بذلك في مؤتمر دافوس الاقتصادي العالمي عام 2004.

لعل أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من التجربة التعليمية الناجحة في ماليزيا ضرورة دمج ما يسمى بالتعليم الإسلامي في التعليم العام، مثلما فعلت الجزائر السنة الماضية عندما ألغت شعبة quot; التربية الإسلاميةquot; في الثانوية. كما لا بد من إعادة تقييم للمناهج العتيقة و المتخلفة للتعليم العام، إذ جاء أداء الطلبة العرب هزيلا في آخر دورة للأولمبياد الدولي للرياضيات، بل جاءت أهمها في ذيل القائمة: المغرب في المرتبة 40 و السعودية في المرتبة 43، من مجموع 46 دولة، على سبيل المثال ( المصدر: http://timss.bc.edu).

كما لا بد من إعادة تنظيم و تطوير قطاع التكوين المهني بمساهمة و إدارة القطاع الخاص (خصوصا الممثلين للقطاعات التصديرية و التكنولوجيا الحديثة)، و إعادة النظر في التخصصات الجامعية لتلبية متطلبات الاقتصاد الوطني و بالتعاون مع الدول المتقدمة، مع توفير الحوافز المالية لتشجيع الجامعات العالمية المرموقة على فتح فروع لها في هذه الدول، كما فعلت ماليزيا مع مجموعة من أرقى الجامعات في المملكة المتحدة و استراليا و اكتسبت فوائد كبرى جراء ذلك. و لن يكون هذا ممكنا إلا بالتصدي للقوى المعادية، مثل الإخوان المسلمين في مصر، الذين يعارضون بشدة وجود الجامعة الأمريكية في القاهرة، اذ اتهمها أحد رموزهم السنة الماضية بنشر ثقافة الشذوذ الجنسي، و اعتبر محمد سليم العوا، الأمين العام لرابطة العلماء المسلمين التصدي للجامعات الغربية من أولويات المسؤولية الملقاة على كاهل المثقفين العرب !!! و لا غرو فنموجذهم الوحيد هو الأزهر الذي ينفرد بتخريج الأميين و العاطلين و الإرهابيين.
------------------------
كاتب المقال محلل ايلاف الاقتصادي، باحث أكاديمي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]