ترتبط السياسة في عالم الشرق بالاستبداد والقسر الاجتماعيين. بيد أنّ الاستبداد والقسر نفسهما، يرتكزان بوثوق على مسألة شديدة الغربة ألا وهي الإهمال. والإهمال إذا كان في جُلّه صفة تاريخية لمنطقتنا، فهو إلى ذلك يغدو في ثباته مصدرا مهما للاستبداد السياسي، الذي يستلهم تصوراته وأعماله منه في جاذبية كائنة بين قطبين يستند قيام الواحد منهما على الآخر.
وكارثة الاستبداد السياسي تكمن في هذا المطبّ، على أنّ السياسة وهي شأن عام، تنزل في مستواها الاجتماعي والاخلاقي الى درك يجعل من تصور أحدنا نحوها، وكأنّ ذلك فساد حتمي ينبغي امّا الرضوخ إليه أو الابتعاد منه في ما يتصل بفكرة السلامة؛ سلامة الحياة أفرادا وجماعات. على أنّ النقيض في هذه المباهلة النظرية ينسف منطق المعادلة بشرط ثابت وأكيد، انّه لاحياة ولاسلامة مع الاستبداد السياسي. والمعادلة القائلة بالرضوخ أو الابتعاد هي التشكيلة النهائية لـ (العقل) الذي لايأبه بالمجتمع وأبعاده الحياتية، والمستقبل الذي من الممكن الوصول اليه عبر قنوات التطور وشبكاته ومناحيه الحيوية. وعلاقة الاستبداد السياسي بالمجتمع تتأسس على ماهو مشترك بين كلا الطرفين الاهمال / وأو التهميش.
يتغذى الاستبداد / الظلم السياسي، من الفراغ / وأو الفراغات الكبيرة والكثيرة داخل المجتمع. فغياب مجتمع واعٍ وعدم وجود طبقة مثقفة، متزنة وراشدة، لا تبيع أهوائها إلى السلطة ولا تبوِّئها مكانا في رؤيتها وقراءتها لأحوال المجتمع إلى أسباب وعوامل أخرى إذا لم تكن موجودة داخل المجتمع، تتحول السلطة ــ أي سلطة كانت ــ إلى أداة تلوي عنق الأفراد بالقهر والحرمان.
الا ان المجتمعات التي الّفت النظام الاستبدادي لأزمان طويلة، يتحول فيها غالبية (المثقفين) الى جيوش عاطلة عن العمل تبحث لنفسها عن المصالح القصيرة المدى والتي تتمحور في البحث عن الطعام ومتطلبات العيش الأخرى ! ومن هنا يتعامل النظام الاستبدادي مع المثقفين على أساس تصنيفهم الى قسمين: الذين هم معه، واؤلئك الذين يقفون ضدّه. الاّ ان القسم الاخير لايتجاوز عددهم نفرا قليلا في أغلب الاحوال.
واذ يحسب النظام للفئة الثانية حساب الهيبة والوجل، ويحاربها بالترهيب والحرمان، يتعامل مع السواد الأعظم الذين يشكلون فئة الموالات، كما يتعامل هواة البغاء مع عاملاتها.
ومن هنا ينشأ سوق بين النظام و (المثقفين) على أساس العرض والطلب، لايختلف فيه النظم والقوانين عمّا يجري في أسواق اخرى اشرنا بايجاز الى نوع منها آنفا، وهو الاقرب الى طبيعة العلاقة بين هذين الجهازين.
وفي الوقت الذي لايمكن فيه طمس الحقائق يتأتى دور المثقف الموالي في أجبن حال وأثخن جهل لتبرير ظلم ووحشية السلطة وتمييع القضايا الجوهرية التي تشكل المشترك العام في المجتمع، كما هي الحال بين المثقفين والأحزاب الكردية منذ عام 1991 أي التاريخ الذي حرر فيه االكُرد وطنهم و شكلوا على الأرض حكومة شبه مستقلّة.
كنا قد أشرنا بلمحة الى تكوين الاستبداد في الفراغات التي تنشأ في المجتمع، الاّ ان أهمّ عامل أساس في هذا المضمار هو دور (المثقفين) الذين يعرضون امكانياتهم (وهي دائما فقيرة وباهتة بالمناسبة) للبيع لقاء الشهرة، وبريق المال.
وسنتحدث بشيء من التفصيل عن دور هذا النوع من المثقف في تهيأة البطانة للسلطة كي تُهمَّش القضايا الجوهرية في أجواء تدفع بالعوام الى اهمال الشأن السياسي، وتشجع السلطة في تهميش المصالح العامة، وتسخير امكانيات المجتمع لصالح فئات معدودة وقليلة، يُتقطع جزءٌ منها لاولئك (المثقفين) الذين يشكِّلون الجنود المختفين في حصان طروادة لاقتحام المجتمع. ولسوء حظ المجتمعات المتخلّفة يشكل هؤلاء المثقفون الحماة الابرز والاهم للسلطة، ومن اهم الاسباب التي تطيل في عمر الاستبداد السياسي.
ومن ابرز صفات المثقف السلطوي انه لايملك اي عمق ثقافي او معرفي وهو كذلك لاينطلق من قضايا وهموم اجتماعية عامة، ولايبحث في هذا المضمار متسلحا بثقافة العلم ؛ بل يتكون هذا الصنف المريض ــ كما تنمو الطفيليات ــ بين التهريج والتّطفُّل على مذاهب العلوم والمعارف. واذ يكبر هذا الصنف وينتشر بسرعة داخل المجتمعات التي تخلّفت عن ركب الحياة، الاّ أنّه يُهمّش كاملا في مجتمعات الرقي والتحضُّر، او لاينمو اساسا لاعتباره فاسدا لايصلح لاحوال المجتمع وتقاضياته.
يتمتع رجال السلطة ببرودة كبيرة في الاحساس بالقضايا العامة والهموم المشتركة للمجتمع. فرجال السلطة في البلاد المحكومة بالفوضى والتخلف (مثل كردستان) لايهمهم اذا كان افراد مجتمعهم يتمتعون بالحقوق المعروفة في القوانين العالمية، وكذلك لايهمهم اذا كان وطنهم يمضي على سكة آمنة ونحو أفق مُضىءٍ أو لا. فدولة الرجل المستبد تقتصر على نفسه وحاشيته وعشيرته ومسكنه وامواله المودعة في خزائن دول بعيدة.
ومفاهيم السياسة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية تُختزل في استهلاك مملّ وميت، لاتقوى على صنع شيء سوى ما يمدّ في عمر السلطة في استهلاكه اليومي.
ولذلك فحين تموت السلطات القسرية والمتخلفة، لا تترك ورائها سوى كومة فارغة من العبث الذي كان يباع للمواطنين عبر مؤسسات عامة كالإعلام وما شابه، تحت غطاء الثقافة، السياسة، النضال ! اي انّ كردستان منذ ستة عشر عاماً لم تأتي بجديد يختلف به ضمناً عن السلطة الدكتاتورية للنظام السابق والأنظمة الأخرى في المنطقة التي لا تزرع سوى بذور الظلم والظالمين.
ومقابل برودة الإحساس السلطوي هناك غليان شعبي عارم يواجه الغبن والسطوة والقسر والإبعاد. ويأتي دور المثقّف السُُلْطوي كسمسار محترف بين هاتين الضفتين، ضفة برودة السلطة وضفة الغليان الشعبي. فيقوم المثقّف السُلْطوي بتمديد أحوال الإهمال المزدوج / التخلف إلى إشعار أُخر، يزيّن في خلالها تجاعيد الوجه السياسي للسلطة ويلبّس إهمال السلطة لباس النفاق والتزييف عبر تعرُّجات وتموُّجات كثيرة معروفة لدى العامة. ويقوم هذا الكائن المنافق بهذه الخدمة الإجرامية لإخماد الجماهير، من اجل الطّواف حول السلطة المستبدة طمعاً في نيل رضاها وعطائها الخسيس.
وفي المقابل يعرف اهل السلطة طبائع هؤلاء المثقفين وخفّتهم بالسلطة واهلها. فيمدونهم بالقليل من المال والمتع في حالٍ يشبه التصدّق على السائلين.
وفي مقابل ذلك يتمكن المثقف السلطوي من التأثير في الجماهير وتيئيسها حتى تبلغ قدراً لاتهتم فيه بالسياسة الاّ كسامع وشاهد أخرس !
وحين تبلغ الجماهير مبلغا كهذا تفقد ثقتها وتصبح شكّاكة في كل أمر. وتؤمن إيماناً شديداً أنّ كل ما يجري إنما يكون وفق مؤامرة مسبقة. وهكذا يصبح أي قوة فاعلة داخلها نحو التغيير والثورة على الظلم مكبوتة ومضروبة في الصميم،بل وأي إرادة كامنة تفلَج قبل ولادتها.
والمصدر الاساس لهذا التورم المزمن، هو تكرار التجارب السيئة بين الجماهير والمثقف السلطوي. فهذا الأخير حين يلهج لسانه بالديموقراطية والحريات الفردية، وحقوق الإنسان، ثم يعرض نفسه للبيع بثمن أبخس من الأغراض الشخصية للرجل السياسي تتحول ثقافته، كلُّ ثقافته، في عين السياسي جزءًا من ممتلكاته الشخصية كالأثاث والكماليات التي تزيّن بيته أو مكتبه أو ما إلى ذلك !
وفي عين الجماهير تتحول ثقافته إلى نفاق وتجارة رخيصة، وعبرها تنظر الجماهير (السواد الأعظم من الناس) إلى الثقافة بكل أبعادها وامتداداتها كأنّها سوق بيع وشراء العبيد (المثقفين). أو في حال أفضل وأرحم إلى مهنة لكسب القوت لدى الضعفاء، الذين لا يقوون على توفير الحياة إلاّ بجعل كفِّ أهل السلطة مرمىً لأعينهم الآبقة !
كنّا نأمل في أن تكون تجربة كُردستان فريدة، ليس للكُرد فحسب وانما للمنطقة برمتها في غمار التقلبات السريعة التي تعصف بالمنطقة. ومنشأ الأمل كان مرتبطاً بهواجسنا أنّ شعباً أضطهد بيد حكام ظالمين من عرب وأتراك وإيرانيين سيغير وجهة السلطة لامحال نحو برّ السلامة والأمان كانعكاس لصفات المناضل الكادح المغدور، ضد الظلم والطغيان. ما حدث في أجمة التحولات الخطيرة والقاتمة أن السلطة الكردية كانت تستنسخ في الأثناء ما كانت أنظمة الحكم الجائرة في المنطقة تعمل لا مبالية بتحويل بلادنا إلى جحيم. أمّا رهاننا وآمالنا فاختلطت بعذاباتنا تذروها الرياح.
والحال أنّ ما حدث لنا كشعب مُضطهد سابقاً أمسينا اليوم نقبع تحت أعباء مظالم أخرى اشدّ إيلاما. وبدل أن يقوم المثقف الكردي بالانكباب على مشاريع جوهرية تأخذ بيد شرائح مجتمعه المنكوب نحو السعادة والتقدم، أمسى جندياً آخر في رباط الأحزاب التي لم تذر على الأرض من فعل لإلغاء وجود الآخرين من الكُرد في حرب مستمرة وبدعم دول الجوار التي يصفها المثقف الكردي بالمعادية! وهذا النوع من المثقف يطلب منّا كأفراد ننتمي لحماً ودما إلى بلادنا أن لا نُسئ إلى السلطة الكردية ودوائرها لأن ذلك يدخل في باب الخيانة القومية. وعليه يجب أن نرفع صوتنا عالياً، متراصين في صفوف الهوجاء القومي، بالأناشيد التي تمجدنا وتنال من الآخرين على غرار السلطات الشمولية، لكي نبرهن أننا لسنا خونة. ولكي نكون كتّاباً صادقين لا ينبغي أن نقول شيئاً يشمت فينا العدو (المختلف قومياً). هكذا يفكر المثقف السلطوي الكردي في القرن الواحد والعشرون. ومثال المثقف الكردي هو نفسه داخل الأقوام الأخرى من العرب والأتراك والفرس...وآخرين!
وأخيراً فإننا لا نقصد بالمثقف السلطوي الكائن الذي يسترزق من دوائر السلطة فقط. بل كلّ من لا يقدر على التفكير خارج ما يملى عليه في فضاءات الشمولية الملتهبة اليوم في منطقتنا، فهو مثقف سلطوي لا يخدم إلاّ الاستبداد والخراب.