الشّيوعيّون العرب، وعلى وجه الخصوص من صنف هؤلاء وأتباعهم المنضوين تحت راية ما يسمّى الجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة، والّذين أقسمت قيادتهم ونوّابهم يمين الولاء لدولة إسرائيل، هم من أسوأ المدمنين الشّيوعيّين على رفع الشّعارات الكاذبة. إنّ هؤلاء، ولإدمانهم على تدخين الشّعارات الّتي نفخها فيهم سدنة الكرملين الضّالّين غير المغفور لهم، أضحوا في حال يرثى لها. إذ أنّهم لم يجدوا، بعد أن تهاوت صروح أولئك الّذين زوّدهم بوجبات الشّعارات التّخديريّة، من سبيل لإشباع أنفسهم غير سبيل البحث عن القراعيم. والقراعيم، جمع قرعومة بلغتنا المحكيّة، هي أعقاب السّجائر المرميّة، بعد استنفاد المدخّن جرعات النّيكوتين منها.

***
لقد شاءت الأقدار أن انفرط عقد quot;منظومتهم الاشتراكيّةquot; مثلما أدمنوا على إشاعة تسمية تلك الدّول الّتي سارت في ركاب quot;بيت-عزّهمquot; السّوڤييتي الّذي اندثر فلم يبق له أثر. وكعادة المدمنين الّذين لم يجدوا مصحّات للفطام من شعاراتهم، تراهم ملقيّين على قارعات الطّرق أو تجدهم يبحثون، في بعض ما تبقّى من براميل القمامة الشّيوعيّة المتناثرة على أطراف العالم، عن أعقاب سچائر يشفون بها ظمأ إدمانهم. وهكذا على سبيل المثال تراهم يشيدون في صحفهم الصّفراء ومواقعهم الحمراء البلهاء بنظام كوريا الشّماليّة، لا لشيء سوى أنّه يُخيَّل لجهلائهم أنّ مثل هذه الأنظمة يعادي أميركا والرأسماليّة ويؤمن بالاشتراكيّة. في حين يعلم كلّ من يمتلك ذرّة من عقل في هذا العالم أنّ هذا النّظام الكوري الشّمالي هو أسوأ نظام بقي على وجه الأرض، من ناحية تأليه الزّعيم وتوريث الرئاسة واستعباد النّاس وإفقارهم إلى أبعد الحدود. لقد حقّ في هؤلاء المدمنين القول أنْ تبدّلَ العالمُ وما بُدّلوا تبديلا.
نودّ التأكيد أوّلاً على أنّه لا بأس في الاعتراض بشدّة أو رفض وإدانة السّياسات الأميركيّة، بل ربّما كان من واجب ذوي العقول المتنوّرة والحرّة الّتي تنشد الخير الاعتراض على تلك السّياسات الغبيّة وخاصّة تلك الّتي تأتي من قرائح محافظي بوش الجدد وأمثالهم المتعولمين. غير أنّ هذه الفئة من الشّيوعيّين وأتباعهم الجبهويّين من فلسطينيّي إسرائيل (عرب 48، عرب الدّاخل، عرب إسرائيل، وما شئتم من تسميات...)، ولشدّة إدمانهم الشّعارات المتوارثة كابرًا عن كابر فإنّهم لا يفرّقون بين الخير والشرّ في هذا العالم. فالشّعار الّذي ترعرعوا عليه شبّوا عليه وها هم يشيبون عليه. لقد أدمنوا على جرعات الغباء الّتي رضعوها من quot;منظومتهمquot; من المهد، ويبدو أنّهم سيحملونها في جعبتهم إلى اللّحد.

***
وعلى سبيل المثال، يعلمُ كلّ إنسان بسيط يتّسم بالبديهة الخَيّرة من أهلنا في هذا الوطن أنّ القضاء على نظام صدّام التّكريتي الظّالم هو عملٌ خَيّرٌ، بينما التنفيذ وما جرى ويجري في ساحة العراق الآن هو شرّ. هذه هي المعادلة، غير أنّ المدمنين على شعارات المفروطة quot;الاشتراكيّةquot;، غير المأسوف عليها، لا يعترفون بحقيقة هذه المعادلة. بل إنّك تقرأ في صحافتهم مديحًا وإشادات بما يسمّونه زورًا وبهتانًا quot;مقاومةquot;. الإرهاب الّذي يفجّر الكنائس والمساجد والأسواق على من يؤمّها من النّاس البسطاء الأبرياء، من جميع أطياف أبناء العراق على جميع مللهم ونحلهم، في المدن العراقيّة ليس quot;مقاومةquot; وليس quot;شريفةquot; بأيّ حال ولا يمكن أن يكون كذلك، أيّها الدجّالون الكذبة. إنّما هو جرائم تقشعرّ لها الأبدان مهما حاول الكذبة تلميعها.
وشيء آخر يجب قوله لهؤلاء الدّجالين من رافعي شعار الأمميّة في حين أنّ الأمميّة منهم براء: كيف ينظر هؤلاء إلى أنفسهم في المرآة وهم يتشدّقون بفلسطينيّتهم ويرفعون صوتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي من أجل رفع الضّيم والظّلم عن الشّعب الفلسطيني (والظّلم الإسرائيلي للفلسطينيّين هو أمر واقع ويجب محاربته كما يجب كنس الاحتلال من المناطق الفلسطينيّة المحتلّة، وهذا واجب على على كلّ إنسان حرّ وصاحب ضمير)، ولكنّهم في الوقت ذاته يدافعون عن نظام على شاكلة النّظام السّوداني وعصابات عُرْبانه الّتي شرّدت أكثر من مليونين وقتلت أكثر من مائتي ألف إنسان من أهل دارفور في السّنوات الأخيرة؟ أليس أهل دارفور جزءًا من هذه الأمميّة الّتي يدّعيها هؤلاء الدّجّالون؟ أم أنّهم، في ما يتعلّق بأهل دارفور ذوي البشرة الأشدّ سمارًا، عنصريّون عروبيّون قد ترعرعوا على بذاءات شاعرهم ورمز عروبتهم البليدة الّذي شحنهم بمقولة: quot;إنّ العبيد لأنجاس مناكيدُquot;؟

***
إنّ هؤلاء بتوجّهاتهم هذه إنّما يكشفون عن حقيقة لا يمكن كنسها وإخفاؤها تحت بساطهم المُهترئ. إنّهم في قرارة أنفسهم، وبما تنضح به صحفهم ومواقعهم، يشهدون على أنّهم أصوليّون وسلفيّون، بل وعنصريّون عروبيّون. وهم بذلك ليسوا بأقلّ سوءًا من المتأسلمين القدماء والجدد الّذين يعيثون فسادًا في المجتمعات العربيّة وفي ما سواها. ولأنّهم أصوليّون وسلفيّون فإنّك تراهم أو تقرأ في صحافتهم كلّ ذلك التّغامز والتوادد مع الأصوليّين الإسلاميّين، أو مع القبليّين العربان في كلّ مكان: quot;هنالك قوى أصولية دينية تناضل ضد العدوان والاحتلال، وهي أشرف من كل اليسار المدّعي والمزيفquot;، مثلما يصرّح أحد زعمائهم في صحافتهم. أليست مقولته هذه تكشف بالضّبط أنّه هو الّذي يمكن تسميته بـ quot;اليساري المزيّفquot;، المتزلّف للأصوليّة؟
لقد نسي هؤلاء الشّيوعيّون والجبهويّون، أو تناسوا، شعاراتهم الأخرى الّتي طالما رفعوها في الماضي، مثل شعار quot;الدّين أفيون الشّعوبquot;. لقد نسي هؤلاء أو تناسوا، أنّ من بين أهمّ الأسباب الّتي quot;فَسْقَلَتْquot; وذرّرت أبناء المجتمع العربي في إسرائيل هو ظهور الحركة الإسلاميّة الّتي بدأت مدعومةً من الحكومات الإسرائيليّة بغرض ضرب التّوجّهات الوطنيّة الوحدويّة الديمقراطيّة والمنفتحة على العالم، الّتي كانت لدى شرائح صادقة من أبناء الجمهور العربي ولدى بعض القيادات السّابقة، رغم الكثير من التّحفّظات الّتي لدينا على تلك القيادات أيضًا. لكن يبدو أنّ خلفاء هؤلاء ولشدّة إدمانهم الشّعارات، ولاختفاء بعض الوجوه المسؤولة من السّاحة، فقد أضحت الشّعارات في ذهنيّاتهم مخدّرًا يفقدهم صوابهم، فتراهم في كلّ واد يهيمون، يقولون ما لا يفهمون. لذلك أيضًا تراهم يسارعون إلى الزّجّ بأنفسهم في منافسات عقيمة مع المتقومجين الجدد، فرسان فضائيّات الزّعيق، أو أنّهم يتودّدون إلى إسلاميّين جدد، من عربان أيديولوجيّات الحريق.

***
كيف نصف، إذن، حال هؤلاء؟
لا شكّ أنّهم الأكثر شبهًا بالحرباء. والحرباء هي هذا المخلوق الّذي طالما شدّ انتباهنا في سني طفولتنا لتلوّنه بلون الجسم الّذي يقف عليه، أو في بيئته، اتقّاء الافتراس. وفي بعض الأحايين تتشكّل الحرباء بلونين مختلفين من جانبيها. هذه هي حال هؤلاء أيضًا، فإنّهم في كثير من الأحيان يصرّحون بالعربيّة شيئًا واحدًا، ثمّ يقولون خلافه عندما يأتي التّصريح بالعبريّة. إنّهم، على ما يبدو، قد ذوّتوا جوهر مقولة quot;لكلّ مقام مقالquot;، أو أنّهم قد انطبعوا منذ نعومة أظفارهم بطبيعة الحرباوات المتلوّنة.
أليس كذلك؟

***
في المقالة القادمة سنشرح لكم معنى الآية:
quot;لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ غَباءً الّذِينَ تَشَيَّعُوا فَقالُوا إنّا شُيوعيّون جبهويّون فلسطينيّون إسرائيليّونquot;.

[email protected]