القاسم المشترك الأعظم، وليس الإذعـان

ونستكمل استعراضنا لبعض أسلحة الدمار الشامل التي استُخدِمت ضد فكرة وأسس quot;الدولة المدنيةquot;.

4: المادة الثانية quot;موجهة للمشرع فقطquot;
يقول د. يحيى الجمل (في المقال السابق الإشارة إليه): quot;وعلي أي حال فإن المادة الثانية من الدستور بعد تعديلها عُرض أمرُها علي المحكمة الدستورية العليا فحكمت أن تلك

5: التهديد والوعيد ـ القداسة في السياسة
يقول الأستاذ فهمي هويدي (الأهرام 27 فبراير) إن quot;الذين أطلقوا العنان لأهوائهم في المناقشات الجارية في مصر لم يحسبوها جيداrlm;، لأنهم (..) وقعوا في محظور الانتقاص من قدر الشريعة وإضعاف الهوية الدينية للمجتمعrlm;، الأمر الذي أثار لدي كثيرين السؤال التاليrlm;:rlm; هل هم ضد الإخوان أم إنهم ضد الإسلام؟rlm;quot;
إذن فالانتقاص من quot;قدر الشريعةquot; محظور يعني أن يصبح المرء ضد الإسلام!! وهل هناك تعريف للدولة الدينية أكثر دقة من هذا، حيث تصبح التشريعات والقوانين مقدسة؟ ولا نريد تكرار التساؤلات المعروفة مثل: لمن تكون الحاكمية في الدولة، ومن يطبق الشريعة ـ الله أم أناس يتحدثون بإسمه ناسبين إليه آراءهم وأهواءهم، وهل يصبح من يعارضهم معارضا لله، وما الفرق بين كل هذا وبين الحكم بالحق الإلهي؟
لا بد أن يكون واضحا أنه في الدولة المدنية لا قداسة في السياسة، وأن كل ما يدخل نطاق السياسة والقانون والدستور يصبح بحكم التعريف والمبدأ قابلا للنقاش والنقد والاتفاق والاختلاف، بغض النظر عن أي شيء. ومن حق ـ بل واجب ـ المواطن أن يحلل ويُقيِّم ويراجع ليرى إن كان مثل هذا النص يتفق ومصلحته ويتفق والمباديء والقيم المتعارف عليها إنسانيا. وإذا انتفى ذلك الحق يصبح الأمر إذعانا.
ومن ناحية أخرى يقول الأستاذ هويدي: quot;إن المتحدثين انطلقوا من أن (..) حكومة طالبان هي المثل الأعلي في التطبيق الإسلاميrlm;quot; ـ مبشرا بوجود نموذج آخر يُحتَذي عند quot;التطبيقquot;...
والسؤال هو: ألم تُلتَمَس الأعذار، مع إضافة بعض quot;التحفظاتquot; حول quot;سلبياتquot; تلك التجربة الهمجية (راجع مقالات الأستاذ هويدي بعد زيارة أفغانستان في مارس 2001 أيام نسف تماثيل بوذا...)؟ وهل هناك نموذج آخر يستحق الفخر؟ وإن كانت الإجابة الأمينة هي لا بالقطع، فمن قال لهم أن مصر حقل تجارب أو أن المصريين هم فئران تجارب؟
ويصوب الأستاذ هويدي (الأهرام 13 مارس) سهامه نحو المثقفين المصريينrlm; الذين وقعوا بيان 5 مارس السابق الإشارة إليه، قائلا أن quot;موقفهم يكشف عن هوياتهمrlm;quot; ويرى أنه quot;كان مريبا ومثيرا للإنتباه أن يصوب بعض المثقفين سهامهم نحو النص علي دين الدولة ومرجعية مباديء الشريعةquot; ويتهم أولئك quot;النفر من المثقفينquot; بأن رسالتهم التي تلقاها المجتمع منهم quot;كانت تقول بوضوح تامrlm;:rlm; إننا لا نثق في جدارة الإسلام (..) ولا في مرجعيته للتشريعاتquot;. ويرفع عقيرة التهديد حول ادعاء أنه لا سبيل إلي إرضاء الاقباط إلا بتراجع دور الإسلام في المجال العامrlm; بأنه quot;يمثل استفزازا للأغلبية وقهرا لهاrlm;، يهدد استقرار المجتمع وينذر باحتمالات تفجيره طائفيا في الداخلrlm;quot;. ويكشر عن أنيابه محذراrlm; من أن quot;الذين يخافون علي الإسلام في مصر اضعاف الذين يخافون منهquot; (؟؟)rlm; ومنذرا هؤلاء الذين يجاوزون الحدود ويصادرون حق الأغلبية في التعبير عن اختيارهاrlm;.rlm;rlm;
هكذا فإن كل الأسلحة باتت قابلة للاستعمال!

6: quot;تأميمquot; المصطلحات:
منذ فترة ليست بعيدة، وبعد أن كانت الديموقراطية رجسا من عمل الشيطان، تمت quot;أسلمتهاquot; ما دامت تؤدي إلى كراسي الحكم. (وقبل ذلك وبعده جرت أسلمة الاقتصاد والطب والجيولوجيا والمسرح والأزياء الخ). والآن تجري ـ بدون حياء ـ محاولات لأسلمة quot;الدولة المدنيةquot; عن طريق الزعم أولا بأن الإسلام لم يعرف quot;الدولة الدينيةquot;، والزعم ثانيا بأن الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية هي quot;دولة مدنيةquot; يقول البعض (مثل د. الجمل ـ الخبير الدستوري والمستشار القانوني للإخوان المسلمين) أنه يقبلها ويساندها.
وقد وصل الأمر إلى الادعاء بأن أسس quot;الدولة الإسلاميةquot; هي بالضبط المثلث الذهبي quot;الحرية والمساواة والعدالةquot;، مثلها في ذلك مثل الدولة الفرنساوية أو النمساوية أو الأمريكانية.... كما أكد الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف (الأهرام 20 فبراير) قائلا quot;أن الإسلام (..) يهتم باختيار الكفاءات القادره علي تطبيق وإقرار العدل والحريات والمساواهrlm;،rlm; وفقا للإطار الاسلاميquot;. وهنا مربط الجمل: فإذا حاولنا تفهم أن تكون هناك رغبة في quot;تأطيرquot; الحرية، فما هي يا ترى أشكال quot;المساواة والعدالةquot; في quot;الإطار الإسلاميquot;؟ وإن كانت لا تختلف عن المساواة والعدالة كما يعرفها العالم المتحضر، فما لزوم تحديد quot;الإطارquot;؛ وإن اختلفت ففيما تختلف؟!

7: التفاخر الأجوف:
rlm;ينقل د. حسن أبو طالب (الأهرام 23 فبراير) مقولة: quot;إذا أردنا المواطنة الحقيقية التي تكفل الأمن والعدل الحقيقيين للأقلية قبل الأكثريةrlm;، فلن تجد أفضل ولا أرقي من مبادئ الشريعة الإسلاميةquot;.
بعد الإفاقة من صدمة هذا الكلام العنتري quot;الكبيرquot; لا بد من المسارعة بالتساؤل: إذن فلا مواطنة حقيقية في أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا؟! ولماذا أصبحت الدول الإسلامية (التي استأثرت quot;بالمواطنة الحقيقيةquot;!) تقف دائما وبامتياز على قائمة الدول التي تتحدى وتنتهك المواثيق الدولية لحقوق الإنسان؟
ويضيف: quot;(..) الشريعة الإسلامية ملك لكل المؤمنين بهاrlm;، وما فيها من مذاهب وتيارات واجتهادات فقهية يدل علي أنها متسامحة وواسعة الأفق وتقبل الاختلاف والتطور وفقا لتطور حياة المسلمين أنفسهمrlm;، وهو ما يضع عليهم عبء الانسجام مع تلك المبادئ العظيمةrlm;quot;.rlm;
إن كانت هذه المباديء ملكا للمسلمين فماذا عن غير المسلمين أو عن المسلمين الذين لا يقبلون بها؟ وهل لهؤلاء وأولئك الحق في عدم قبولها أم إنهم واقعون تحت عقد إذعان (أهل ذمة أو مرتدين أو quot;علمانيينquot; الخ)؟ أم أن الدولة ستقوم بعمل نظامين قانونيين متوازيين في البلاد (كما يحدث في بعض ولايات نيجيريا): واحد يستند للشريعة الإسلامية يطبق على من يقبل والآخر quot;مدنيquot; يستند إلى غيرها ويطبق على غيرهم؟ ولماذا يجب أن نبقى جميعا تحت رحمة المذاهب والتيارات والاجتهادات الفقهية (علما بأن باب الاجتهاد مغلق منذ قرون)؟ ثم نكرر مرة أخرى: ماهي بالضبط تلك المباديء؟ كم طالبنا في مقالات وندوات ومناقشات، بدون رد حتى الآن، أن يتكرم أحد بتنويرنا عن طريق النص بوضوح عليها (واحد ـ اثنين ـ ثلاثة ـ الخ)؟
وما الرأي ياترى في تصريحات المستشار يحيي راغب دكروري نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس مجلس إدارة نادي المجلس (المصري اليوم ـ 4 مارس)، الذي عارض بشدة تولي المرأة منصب القضاء، وقال أن quot;تلك القضية محسومة برأي الشرع وإجماع الفقهاء بعدم جواز تولي المرأة القضاء، الجميع يتعمد إغفال الإجابة عن سؤال مبدئي ومهم وهو: هل القضاء ولاية أم وظيفة؟ مع العلم أن الرأي الشرعي الغالب هنا أن القضاء ولايةquot;. وأوضح المستشار أن رفضه تولي المرأة القضاء مبني ومستند علي الإجماع الفقهي، ومباديء الشريعة باعتبارها قضية شرعية بالأساس. وأضاف أنه لأن المادة الثانية من الدستور تجعل الشريعة هي المصدر الاساسي للتشريع يصبح تولي المرأة للقضاء مخالفا للدستور أيضا.
إلى أي quot;المذاهب والتيارات والاجتهادات الفقهية المتسامحة وواسعة الأفقquot; استند المستشار دكروري؟ وإن كانت القضية محسومة بشأن المرأة في عدم تولي مواقع quot;الولايةquot;، فمن باب أولى ألا يصبح تولي quot;أهل الذمةquot; تلك المواقع أكثر استحالة؟! أم سنلجأ إلى الحيل الشرعية الأكروباتية التي يقول بها د.سليم العوا والأستاذ طارق البشري من أن الولاية أصبحت للهيئة وليس للفرد، وبالتالي يمكن لغير المسلم أن يكون قاضيا: وهو كلام quot;جميلquot; ـ لكن يضاف إليه شرط أن يكون ذاك القاضي عضوا في هيئة محكمة أغلبها من المسلمين!
من ناحيته، يقول rlm;دrlm;.rlm;محمد عبدالفضيل القوصي نائب رئيس جامعة الأزهر (الأهرام 29 يناير): quot;متي يصح القول بأن ثمة تعارضا بين المادتين (الخاصتين بالمواطنة وبالشريعة) بحيث ان اختيار الأمة لإحداهما ينقض اختيارها للثانية؟ لو أن قطعيات الشريعة الاسلامية تضمنت ما يخدش مبدأ المساواة بين المواطنينrlm;،rlm; كأن تتضمن حقوقا تعطي لجماعة منهمrlm;،rlm; وتحجب عن جماعة أو تتضمن واجبات تفرض علي فريق منهم ويستثني منها فريقrlm;،rlm; أو امتيازات تمنح لطائفة منهم وتمنع عن طائفةrlm;:rlm; لكان ثمة مبرر لأن يتوهم المتوهمون هذا التعارض بينها وبين مبدأ المواطنةrlm;..rlm; وما أكثر نصوص الكتاب والسنة التي تبرز هذا بجلاءrlm;quot;.
يسرنا بالطبع هذا التوجه للتأكيد على ما في التراث الإسلامي من إيجابي بشأن quot;مبدأ المواطنةquot; (الذي لم يكن معروفا أصلا في الماضي..)، لكن فليسمح لنا فضيلة الدكتور بأن نقول أيضا: وما أكثر النصوص التي تقول ـ أو على الأقل يمكن تفسيرها لتقول ـ بعكس ذلك. ولو كان الأمر بهذا الوضوح، فلماذا كان هناك فقه أهل الذمة وفقه الاسترقاق، ولماذا ـ مرة أخرى ـ تستقر الدول quot;الإسلاميةquot; على قائمة الدول الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان؟rlm;
وبالمناسبة، ما رأي فضيلته في كلام النائب جمال حنفي (حزب وطني) الذي أعلن في جلسة مجلس الشعب بتاريخ 1 مارس أن quot;المواطنة مبدأ تم استيراده من الغرب، ويعني فصل الدين عن الدولة، والمناخ السياسي في مصر لا يمكنه قبول هذه الكلمةquot;؟؟

8: الاستقواء والشمولية:
كتب الأستاذ طارق البشري، المستشار السابق بمجلس الدولة والكاتب الإسلامي حاليا، مقالا (على جزئين، الأهرام 28 فبراير و 1 مارس) ينضح بالعجرفة المتغطرسة، أهون ما فيه قوله أن المادة الثانية quot;لازمة بصيغتها الحاضرة لتحقق الإسناد الشرعي الاسلامي لمبدأ المساواة التامة بين المسلمين والمسيحيين (..). ويرى أن quot;المساس بنص المادةrlm; (..) سيضيق كثيرا من القدرة النظرة علي أن يستمد من داخل الفقه الاسلامي الأساس الداعم للمساواة والمشاركة بين المسلمين والمسيحيين في بلادناrlm;quot;.rlm;
وكأن المساواة لا تحدث دون quot;إسناد شرعيquot;! أو كأنه يلزم ذكر ذلك السند لمجرد نفي أنه يتعارض مع المساواة، أو كأن quot;القدرة على البحث داخل الفقه الإسلامي عن أسس للمساواةquot; هي أهم من المساواة في حد ذاتها. بمعنى آخر، نتيجة لهذا المنطق الملتوي، تصبح المساواة ألعوبة تحت رحمة السند الشرعي والفقه والفقهاء.
وبشأن التساؤل quot;كيف يكون للهيئة دينrlm;rlm; وهي بوصفها المعنوي لا تصلي ولا تصومrlm;quot;rlm; يجيب الأستاذ البشري بأن quot;دين الهيئة هو مرجعيتهاrlm; وهو الأصل المرجوع إليه فيما يصدر عنها من نشاط ومدي التزامها بهذا الاصل بحسبانه موردا لهاrlm;quot;. ويرى في كون الإسلام دين الدولة الرسمي quot;أن تكون مرجعيتها الفكرية إسلاميةrlm;rlm; وأن تكون هذه المرجعية الإسلامية إنما تترجح من داخلها الآراء والاجتهادات لما أورده الدستور من مبادئ أخري تتعلق بالمساواة والحقوق والحرياتrlm;،rlm; وذلك كله في إطار ما تسعه المرجعية الشرعية وما تتقبله بأي من وجوه الاجتهاد الفقهيquot;. ومعنى هذا quot;أن يكون النظام العام الذي تشير إليه القوانين مشمولا بهذه المبادئ والقيم وماتتوافق عليه الجماعةquot;rlm;.rlm; ويلاحظ أن quot;النص علي أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولةrlm;،rlm; إنما يتضمن إقرارا بأن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريعrlm;، ومصدرية التشريع تعني مرجعيته وتشير إلي المورد الذي تستقي منهاrlm; الأحكامrlm; لأن دين الهيئة إنما يعني مصدريتهاrlm; وإلا كان النص لغواrlm;quot;.rlm;
إذن فكل محاولات التهوين من معنى المادة الثانية وآثارها، تجد الإجابة الشمولية (التوتاليتارية) الشافية عند الأستاذ البشري بما لا يدع هناك حتى ثقب إبرة ليدخل منه rlm;بصيص نور. rlm;لكن الشيء المرعب ـ حقيقة ـ في كلامه هو أن هناك في تلك المادة ما يكفي لقيام دولة الفاشية الدينية التوتاليتارية بدون حاجة لتبريرات أخرى!

***

إن الاتفاق بين مكونات الجماعة الوطنية حول الأمور الحيوية المتعلقة بشكل الدولة لا يمكن أن يتم إلا عبر التفاهم. ولكن التفاهم هو طريقٌ ذو اتجاهين ولا يعني إطلاقا أن تفرض فئةٌ (أغلبية كانت أم أقلية) رؤيتَها لكيفية تشكيل الدولة على باقي مكونات الجماعة. والحل الوحيد عند اختلاف الرؤى ليس في إذعان طرف للآخر، بل في الإرتكان إلى quot;القاسم المشترك الأعظمquot; بين الجميع، وهو لا يمكن أن يخرج عن quot;المثلث الذهبيquot; لمباديء quot;المساواة والحرية والعدالةquot;، وكل ما يتعدى ذلك فيجب أن يكون خارج المناقشة ـ آخذين في الاعتبار أنه لا يوجد quot;مثلثquot; (مساواة + حرية + عدالة) إسلامي وآخر كونفوشي وثالث شنتوي ورابع مسيحي؛ بل هناك quot;مثلثquot; واحد يتفق مع الضمير الإنساني طبقا لما استقرت عليه البشرية في مواثيق حقوق الإنسان الدولية.
ختاما: إن معركة quot;مدنية الدولةquot; ليست quot;معركة خاسرةquot; كما يقول بعض المثقفين والسياسيين، مدفوعين باليأس مما يرون أمامهم على الساحة؛ بل هي معركة حياة أو موت لمصر ولذلك فهي لا تبدأ أو تنتهي بالتعديلات الدستورية الجارية. ولحسن الحظ، فقد حدث شرخ في quot;التابوquot; وثقب في الجدار، ولن يكون من السهل على أحد أن يتجاهل ذلك بعد الآن!