1 من 3

مقدمة توضيحية

كثيرة هي الأكاذيب التي دُسَّت على مذهب جعفر بن محمد الصادق، اي المذهب الجعفري الشفاف، هذا المذهب البسيط في فكره، الواضح في أحكامه، المتميز في جمعه بين العقل والنقل، الشاخص بإ سلاميته المتجذرة بحب كل المسلمين، فلا يحرِّم ذبيحة مسلم، ولا يحرِّم الصلاة وراء موحد، ولا يبيح دم مسلم مؤمن بنبوة محمد بن عبد الله، ولا يمانع الزواج من أي مسلمة أو مسلم، ولا ينفرد بقبلة، إلى ما هنالك من مبادئ ومثل واخلاق وتصورات إسلامية، لا نشم منها غير الإيمان العميق بكتاب الله، وطاهرة نبيه الكريم، كما سوف نلتقي في تفصيل هذه الحقائق عن قريب أ ن شاء الله مع القراء على هذا الموقع ا لجميل.
من الأساطير التي دُسَّت على هذا المذهب البريي القول بأن (أئمته) من أهل البيت يحيطون علما بموت الناس، كل الناس، متى وكيف وأين، في الماضي والحاضر والمستقبل ! فهم دائرة معارف بتواريخ الموت وطرائقه وأسبابه، من دون فرق بين مسلم وغير مسلم، بين عالم وجاهل، بين حاضر وغائب، بين مريض تبدو عليه علامات الموت القريب وبين صحيح الجسم لا ينبى بموت إلا بعد عمر مديد.
يعتمد بعضهم على مجموعة روايا ت في (الباب) كما يقول المصنفون، وهي مجموعة روايات هشة، ضعيفة، تشي بكل وضوح عن ضعفها وهشاشتها، ولكن عتب العلم على أولئك الذين يتعاملون مع هذه الروايات بلا قراءة تمحيصية دقيقة، تنفذ إلى ما بين السطور، وما بعد السطور، التي طالما تخفي أهدافا مسمومة، او نفوسا مريضة، أو حالات من ا لهوس الوجداني بحب أهل البيت، من دون إمرار هذا الحب على شبكات التصفية العقلية والفكرية و الوجدانية بل وحتى العلمية.
يتوسل بعض علماء السنة الكرام بهذه الروايات ليؤسسوا عليها احكاما غير علمية بحق مذهب الجعفرية، مع إشارة تنبي ببرائة جعفر بن محمد من هذه العقيدة، وذلك عمل جيد، ومبارك، ولكن يحتاج إلى خطوة جريئة يقوم علماء السنة كل يأتي عملهم في غاية الروعة والبيان.
إن المطلوب من علماء السنة أن يراجعوا هذه الروايات على ضوء أو في ضوء نظام رجالي سندي نقدي علمي، فربما ــ وأنا متأكد من ذلك ــ يصلون إلى نتيجة خطيرة، تلك هي التي تقول أ ن مذهب الجعفرية بريئ من هذه التهمة، وإن رواتها خا رج حريم القبول الجعفري نفسه. وبهذه الطريقة يكون علماء السنة قد حققوا قفزة مذهلة بتقريبهم بين المذاهب، ويتحولون إلى مؤسسة إ صلاح جذري في جسم الامة الذي بدأ يتهريئ بسبب الأفكار الخرافية سواء عند السنة او الشيعة.

النظريّة مجملة
يسطّر لنا) الصّفار ( في كتابه السيء الصيت (عندي) الموسوم بصائر الدرجات، وهو في الحقيقة (مهلك الدرجات) يسطر مجموعة من الروايات تفيد بأن لدى الائمة عليهم السلام (علم المنايا والبلايا )، ولم أفهم المقصود للوهلة الأولى، ولكن تبادر لذهني أنه علم ذو نسق منهجي، يعني أنّ الأئمة يعلمون بطريقة أو اخرى، الاسباب والعوامل التي تقود الى الموت والتي تسبّب البلاء مثل الفقر والمرض وما شابه، فإن ذلك ممكن على وجه الاجمال، وهو ممكن لكثير من البشر من خلال التجارب البشرية، ومن خلال الاطلاع على بعض العلوم، ولكن بعد قرائتي لكتاب الصّفار هذا، تبين لي أنّ الامر ليس كذلك، فأن علم الامام بالمنايا، يعني علمه بتاريخ موته وتاريخ موت الشيعة، وقد عقد لذلك أبواباً خاصّة، فهناك باب بعنوان (في الأئمة يعرفون أجال شيعتهم وسبب ما يصيبهم)، وهناك باب بعنوان (في أنّ الائمة يعرفون متى يموتون ويعلمون ذلك قبل ان يأتيهم الموت)، ولكن لنرى في البداية الروايات التي تتعلق بالباب عموماً.
جاءت رويات الموضوع في ثلاثة أبواب، الاول رقم (3) باب (... وعندهم علم البلايا والمنايا وانساب العرب) من الجزء الثالث، والثاني رقم (9) باب (... وأنهم قد أُعطوا علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب والعصا والميسم) من الجزء الرابع، والثالث رقم (1) باب (في الأئمة عليهم السلام يعرفون أجيال شيعتهم وسبب ما يصيبهم)، ورقم (2)باب (في الائمة عليهم السلام انهم يعرفون علم المنايا والبلايا والانساب من العرب وفصل الخطاب) من الجزء السادس.
في الباب الثالث من الجزء الثالث هناك اربع رويات في ذلك، وقد دُرج الموضوع ضمن سلسلة طويلة من الفضائل والمناقب، وفي سند الرواية الاولى عبد الله بن عامر، لم يُوثّق في كتب الرجال، وفي الثانية عمرو بن ميمون، هو الآخر لم يُوثّق، وهذا الراوية على علاقة فكرية بالغالي جابر الجعفي، كذلك في السند عمّار بن هارون الذي ليس له ذكر في كتب الرجال، والرواية الثالثة صحيحة السند حسب معطيات علم الرجال الشيعي، ولكنّها مرتبكة المصدر، لأن (كتاب البصائر) لم يصل للمجلسي بطريق معتبر، والرابعة ضعيفة بـ (محمّد بن هارون) الذي لم يُوثّق ـ المعجم 17 رقم 11942 ــ وموسى بن يعلي لم اجد له ذكراً في ماعندي من مصاد ر.

ست روايات
في الباب الثاني نلتقي بست روايات، تتسم بالطول والحشد والترصيف، فضائل ومناقب بعضها يقود لبعض في سياق دراماتيكي جارف.

الرواية ا لاولى
(حدّثنا علي بن حسّان، قال : حدّثني أبو عبد الله الرياحي، عن أبي الصامت الحلوائي، عن أبي جعفر... ولقد أُعطينا الست، علم المنايا والبلايا والوصايا والانصاب وفصل الخطاب...).
السند كله مرتبك، فأن علي بن حسّان ضعيف جداً، والرياحي لم يوثق، وابو الصامت لم يوثّق كذلك، وهؤلاء مغرمون برواية الغرائب عن أئمة الجعفريةـ المعجم 21 رقم 14496، 21 رقم 14373، 11 رقم 7984 ــ

الرواية الثانية
(حدّثنا عبد الله بن محمد، عن ابرهيم بن محمّد الثقفي، عن بعض رفعه الى أبي عبد الله عليه السلام... ولقد أُعطيت السبع...).
bull;في السند : إبراهيم بن محمّد الثقفي، له كتاب عن المناقب والمثالب استعظمه الكوفيون، وأشاروا عليه بأن يتركه ولا يخرجه...) ـ 1 / 179 ــ والحقيقة لا اعرف وجه هذا الاستعظام لو لم يكن مخيفاً مثيراً، خاصّة انّ الكوفيين معروفون بالرواية الغريبة. والرجل لم يُوثّق.
bull;في السند : عن بعض رفعه...

الرواية الثالثة
(حدّثنا احمد بن محمّد وعبد الله بن عامر، عن محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر الجعفي، قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول... أعطيت خصالا... وعلمت المنايا والبلايا...).
bull;في السند : عبد الله بن عامر، لم يُوثّق.
bull;في السند : محمّد بن سنان، غال.
bull;في السند : المفضّل بن عمر الجعفي، مشكلة رجالية عويصة وقد عُرِف بالروايات الغريبة. وسوف أفرد له يوما كلاما طويلا.

الرواية الرابعة
(حدّثنا أحمد بن حسين، عن أحمد بن ابراهيم وأحمد بن زكريا، عن محمّد بن نعيم، عن يزدان بن ابراهيم، عمّن حدّثه، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال سمعت امير المؤمنين يقول... وعُلِّمت علم المنايا والبلايا...).
bull;في السند : يزدان، ليس له ذكر في كتب الرجال.
bull;في السند : محمّد بن نعيم، مجهول الحال.
bull;في السند : عمّن حدثه.

الرواية الخامسة
(حدّثنا أبو فضل العلوي، عن سعد بن عيسى الكربزي البصري، قال حدّثنا ابراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن شريك بن عبد الله، عن عبد الاعلى الثعلبي، عن أبي وقّاص، عن سلمان الفارسي، عن أمير المؤمنين، يقول : عندي علم المنايا و البلايا...).
في السند : إبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري، لم يُوثّق ــ 1 / 217 ـ
في السند : الحكم بن ظهير، لم يوثّق،
في السند : أبو وقّاص ؟!
الرواية السادسة كغيرها من الروايات السابقة ضعيفة هي الاخرى، ففي سندها (أحمد بن نعيم) وكذلك (يزدان بن ابراهيم)، وفي السند : عمّن حدّثه.


نظرة فاحصة في الروايات.
هذه الرويات ذات مسانيد هشّة للغاية، فقد احتل الغلاة و المجهولون واصحاب الغرائب مساحات خطيرة من السند، ومن بلاءات هذه المسانيد وجود رجال ليس لهم ذكر في كتب الرجال، وفي هذه الحال يمكننا ان نقول بان هذه الروايات كانت محل كلام مجالس خاصّة للبطالين والقصاصين والكذابين والمهوسين، وممّأ يزيد في هشاشة هذه الروايات حقاً ويكشف عن ضعفها وهزالها أن يكون الراوي في نصفها عن الأمام مباشرة مجهول الاسم والحال !! فنقرأ (عمّن رفعه، عمّن حدثه)، وأنا في الواقع اشك بهذه النسبة، لان ما هو الداعي الى حذف هذا الوسيط وهو في غاية الاهمية والخطورة ؟ فيبدو لي أنها محاولة لتمرير الكذبة، وهذه إحدى أساليب الخلاص. ولم نجد من رواة صدر الرواية عن الامام ثقة سوى سلمان الفارسي رضي الله عنه، وفي رواياته وروايات كيفية ايمانه وخندقه الكثير من النظر والمراجعة.

يتبع