إلى ع. م. الذييعمل سرا علىأنثولوجية للشعر العراقي في إحدى اللغات الأوروبية

قلما تجد في العربية شاعرا يستطيع أن يرفض دعوة لضم قصائد له في انطولوجيا، أو في مجلة، أو في كتاب جماعي. فالجميع يستهويه الانضمام في القطيع الجماعي، رغم علمه أنه سيكون إلى جانب الفاشل، والحقير، والرديء. وإذا رفض فعلا، كأدونيس عندما رفض المشاركة في معجم بابطين، فمن باب التعالي والشعور بالعظمة وليس من باب الموقف الأخلاقي المتخذ عن وعي نقدي. لذا ستكون مهمة الذي يفكر بانجاز أنثولوجيا شعرية، من أصعب المهام. فعليه أن يخلط الحابل بالنابل، وإلا الويل له من نسيان شاعر، خصوصا شاعر عراقي: فقد تأتيه طعنة نذلة لا شفاء منها، بل ستشوه سمعتُه في كل مكان وبكل الوسائل الدنيئة... وهذا ما حصل لي عندما أنجزت عام 1999انثولوجيا شعرية بالفرنسيةضمت 95 شاعرا عربيا من فترة ما بين 1950 و1982، فهاجمنيرهط من quot;الشعراءquot;، العراقيين لحما ودما، بشتى النعوت بل بعضهم أصبحوا وشاة للمخابرات السورية حد انهم كتبوا باني أزور تل أبيب كل يوم!!! طبعا لم ير واحد منهم الأنثولوجيا وانما شتموني بمجرد علمهم انهم غير موجودين.. وأتذكر عندما ذهبت إلى القدس (وهي المرة الوحيدة) للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي عام 1997 وكتبت مقالة من خمس حلقات نشرتها quot;الحياةquot; اللندنية آنذاك، أخذ عدد من كتاب العدل العراقيين (الذي كانوا معارضين لصدام)يتنافسون بينهم على من سيكون الأول في ايصال تقريره لمخابرات اللاتطبيعأو لمكاتب منظمة فتح... quot;لابادتيquot; كما كان يتمنى شاعر فاشل...والجميل في الحكايةأن أحد اعضاء منظمة فتح نهرهم قائلا: هذا شيء يخصه، عرفات أيضا هناك ويتحدث مع إسرائيليين. لم يقاطعني أي عربي أو فلسطيني وانما فقط ابلغوني باحترام شديدعدم موافقتهم على المشاركة في مهرجان الشعر العالمي المنعقد في القدس المحتلة. ربمايقول قائل: إن العرب لهم أيضا هذه الطباع...لكن عنصر الوشاية متجذرة بالتأكيد في العرق العراقي أكثر من أي عرق آخر! والبرهان أنالمآساة الحقيقية فيالعراق اليوم هي أن أي عراقي يتحول برمشة عين إلى واش وبالتالي إلى قاتل: انعدام الثقة والميل إلى الغدر عنصران أساسيانفي حياةعراقيي اليوم.

على أني أعترف بأن الشعراء العرب الذين لم استطع ضمهم بسبب المساحة المحددة لي (390 صفحة) وبسبب كون بعضهم لاينتمي إلى الفترة الزمنية التي اخترتها للأنثولوجيا، لم يوجه ليأي واحد منهمشتيمة او لوما، باستثناء الشاعر الصديق شوقي بزيع الذي كتب رسالة عتاب جد جميلة مما شعرت بالخجل أمامه.

كم كانفعلا ملهما ما كتبه أنسي الحاج، في quot;النهارquot; قبل أكثر من ربع قرن، محذرا دار العودة من إصدار مجموعة أعماله الشعرية. جرأة كبيرة، لأنه الموقف المطلوب الذي لا يأبه بالعواقب، وإنما بهيبة الشعر...بات هذا الفعلبالنسبة إلي قوتا دفاعيا، حتى يومنا هذا،أمام دجل بعض الانثولوجيات وبعض الدعوات التي لاغرض لها سوى المقايضة: أنشرْ لي أنشرُ لك... مما أرفض دوما الاستجابة للطلبات التي تأتيني (وأنا متأكد بحكم وظيفتي في إيلاف كمسئول عن الصفحة الثقافية) من أفراد عرب وعراقيين... بل وصل بي الأمر أني حذّرت أمّيا، قبل سنوات،من استخدام قصائدي في أي مشروع يحمل اسمه، وإلا سأقاضيه قانونيا.

وذات مرة كتب السوريالي الراحل جان شوستر رسالة، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، إلى الشاعر الكبير رونيه شار يطلب فيها السماح بنشر بعض قصائده في أنثولوجيا للشعر السوريالي كان يعدها شوستر لكي تنشر في برازيل باللغتين الفرنسية والبرتغالية. أجاب شار وعلى نحو قاطع بالنفي ومنعه من استخدام اية قصيدة في أي انثولوجيا تتعلق بالشعر السوريالي، فرغم كل احترامه لأندريه بروتون احتراما لايتزعزع، فهو لايعتبرشعره سورياليا رغم أن قصائده الأولى كتبت إبان انتمائه للسوريالية في شبابه. وقد فهم شوستر الأمر وشكره.هذا هو خوف الشعراء الحقيقيين: أن لا يتشوه مشروعهم في كشكول خارج السياق... تصوروا لو تم الطلب عندنا:لتوسل حتى السلفي الرجعي التافه الانضمام كشاعر سوريالي!

أية أنثولوجيا مهما كانت مشغولةلا تزيد من حقيقة الشعراء المختارين فيها، (فقط الصغير والفاشل يتصور هذا)، لكنها قد تنقص من قدر شاعر.. لذا يجب انجاز انثولوجيات إما شخصية فتعبر عن ذائقة شاعر فرد وهنا له كل الأعذار في أن يختار بضعة شعراء زملاء له، فتؤخذ اختياراته كبيان شعري خاص به... أو مؤسساتية أي عمل مدروس تصدر عن جهة ثقافية لتسليط النور على تجربة شعر في بلد ما أو شعر تيار ما. وهنا تكمن الخطورة: إذ يجب أن تُدرس الأسماء المختارة من جميع النواحي.. حتى تخرج أنثولوجيا شعرية معبرة، الغبن قليل فيها... وإلا إذا أعطيت لأيٍ كان، فستكون فعلاانثولوجيا أيٍ كان على طريقة الأخوانجيات الشائعة في الوسخالعراقي. يمكن إيقاف مشاريع تشويهية كهذه، ما إن يرفض شعراء حقيقييون أُستخدِموا للتمويه؛ شعراء يعرفون حق المعرفة أن قصائدهم ستكون إلى جانب أسوأ قصائد في نظرهم هم، وهذه قمة الإهانة التي توجه لهم! فمسكن الشاعر هو المقام الذي ستحل فيه القصيدة.

إن القصيدةالتي يختارها شاعر تافه تعود بالتأكيد تافهةً؛ فاقدةلكل ما كان يميزها كقصيدة. ومن هنا يجب أن يكون جواب الشاعر الحقيقي كالتالي: من قال لك، أيها الحقير، أنا شاعر بالمعنى الذي تعطيه للشعر!

خلاصة كلمتي تتضمن التالي: ممنوعنشر أية قصيدة لي في أي انثولوجيا تتناول الشعر العراقي.. وهذا الانذار موجهللجميع بلحتى لصديقي الشاعر هاتف جنابي وآمل أن يأخذ هذا التحذير مأخذ جد، رغم قناعتيبقدرته على انجاز انثولوجيا جدية ومعبرة بالبولندية...

فالعراق اليوم ليس إلا مستنقعا تحرسه كلاب اللغة الطائفية، وأي انتماء لهذا العراق الضحل هو عملية سحق لكل شظايا الحلم الصغيرة تلك التي كان يتغذى منها عراق آخر. وأن الشاعر العراقي، خصوصا،بات اليوم جبانا مزدوج اللسان، تارةيتشدق بشعارات العَلمانية والمدنية، وتارة يتخفى وراء أقنعةالأمر الواقع...غير قادر على أن يبصق علنا على هُويته الشيعية، السنية، الآشورية، الكردية، التركمانية... إلى أخر هويات مجتمع الكذبة الكبيرة. نعم العراق اليوم مستنقعليس بفضل الاحتلال الأمريكي، كلا!وإنما بسبب الشخصية العراقية نفسها (انظر مقالتي: عراقيون من هذا الزمان). ولم تكن مجرد مصادفة شعرية أني كتبت القصيدة التالية ونشرتها في ملحق النهار الثقافي قبل اندلاع حرب إسقاط نظام صدام بشهر، واخترت لها عنوانا: quot;بلد لن أرىquot;... ويبدو فعلا أنه بلد لن أرى.. وأنه محكوم بالموت وعليه أن يولد من موته هو:


بلد لن أرى


يَنبتُ في الرأسِ
ملامِحُهُ تَتضخّمُ
وكأنّهُ ضوءٌ عائمٌ في الأنهارِ
يحرسُه السَّوسنُ والرمادْ
يكبو ويَنهضُ في أقبيةِ ماضيهِ.
بَلدٌ جالسٌ على مَصْطَبةٍ
يَموءُ تحتها عالمٌ أتذكّرُهُ:

كنتُ أبحثُ عنهُ
فوق صواري السفرْ
في مدنِ القراءةْ
في مقاهي البعيدْ
بين الشراشِفِ والكراسي
يَطفو مع الليلِ
يُولَدُ مع النورْ
أشبَهُ بالأثيرْ
يتلاشى وضباب الفجرِ
في دياجير النظرْ.

بلدٌ يَموتُ في نَثرِه
في الحبرِ الذي أسالَهُ
لا وميضَ يناديهْ
لا أمَّ تبكيه
ولا قاربَ له في آجِنْدةِ الماءْ.

بلدٌ...
أنْ يولَدَ
بالموت الذي فيه. (ملحق النهار الثقافي عدد 571 الأحد 16 شباط 2003)