كم يفعل جبروتُ الزمن والأحداث في ملامح الفلسطينيين والعراقيين! أتأمل بحياء وجوه أصدقائي، فتنتابني الغصة والاختناق. سبع سنوات من عمر هذه الانتفاضة، جعلت الشاب منهم كهلاً. سبع سنوات لعينة، أطاحت بألق واندفاع الحياة في أرواحهم إلى الجحيم. وما حدث معنا لا شك حدث مع العراقيين بالأخص. وأكيداً، على نحو أبهظ. فمن حصار طويل وبيل عاشوه إلى حرب إلى مقاومة إلى إرهاب إلى فوضى إلى حال غرائبي عجائبي يستعصي توصيفه حتى على اللغة. آلام وضيق وحصر وانعدام أفق وموات مستقبل. كل هذه الأحداث المريرة العاصفة، لا غرو تركت أثرها الفاجع في وجوههم وأجسادهم ونفسياتهم هم أيضاً. إنها الحرب وإنه الحصار وإنها الفوضى يا سيدي. يدفع الكائن البشري المُسالم ثمنها باهظاً، من عمره وصحته ومن أحلامه أيضاً. فأنا ألاحظ أن الفلسطينيين لم يعودوا يحلمون. حتى الأدباء والفنانين منهم لم يعودوا يحلمون! فما بالك بالناس العاديين؟ ما بالك ب [ الودعاء الطيبون ] الذين اكتشفوا مبكراً بأنهم، على خلاف الرواية المقدّسة، لن يرثوا الأرض، وأبداً لن يرثوها؟ لقد تنازلوا _ طوعاً أو قسراً، فالنتيجة واحدة _ عن حقهم في الحلم وفي أن يحلموا بما هم بشر. فالآن لديهم هموم أخرى، وضرورات أخرى، تبدو الأحلامُ بجانبها ترفاً : ضرورات هي الأكثر إلحاحاً من قبيل توفير لقمة الخبز، يوماً بيوم، وضمان الأمن الشخصي حتى داخل حدود البيت _ يوماً بيوم كذلك. فأنت لا تعدم اختراق رصاصة طائشة لغرفة نومك، لتقتلَ أو تجرح أحد أفراد العائلة. مَن كان يتصوّر منا أن يأتي علينا يومٌ، فتصلَ بنا (ثقافةُ الطخطخة)، التي أشاعتها وعمّمتها تنظيماتنا المسلّحة، إلى درجة أنّ مّن يحوز على وظيفةٍ، يُطخطخ؟ وأنّ العريس الذي ينجح في أخذ وجه عروسته يطخطخ هو أيضاً أو أحد أفراد عائلته؟ قبل أسبوع، تزوّج شاب من جيراني. ويبدو أنه تأخّر في فضّ غشاء البكارة يوماً أو يومين. وفي اليوم الثالث، وفي الساعة الثالثة فجراً، أنجزَ المهمة التاريخية الكبرى، فانفتحت أبوابُ الجحيم دفعةً واحدة! مئات الرصاصات من مختلف أنواع الأسلحة، انطلقت في الفضاء، بأحمرها وأصفرها وأخضرها، لتخبرَ القاصي قبل الداني، بأنّ العريس المحترم قد [ دَخَلْ ]!

ظننت أنا الغافل الأبدي، أنّ حرباً عائلية قد وقعت. فقمتُ مرعوباً عن حاسوبي، وأطفأت الراديو المفتوح على الموسيقى الهادئة، لأتفقّد بيتي وأبنائي. لم يكن ينقص تلك الرصاصات الليلية سوى الهتافات والرايات والتكبير!
ذهب الاحتلال عن كل قطاع غزة، لكن ثقافة الطخطخة لم تذهب ولن تذهب قريباً. فقد صارت جزءاً أصيلاً من تقاليد الفلسطيني المناضل والمقاوم والمجاهد. تُرى مِن أين يأتون بالرصاصات؟ إنّ ثمن الرصاصة الواحدة، في السوق السوداء، أكثر من ستة دولارات، فمن أين يأتون بالمال الكثير وهم الفقراء المعدمون؟ سؤال معلّق مثل آلاف الأسئلة المعلّقة.

أما العراقيون، فيا لهف قلبي على هذا الشعب النبيل. منذ ربع قرن لم يروا يوماً عليه العين. من حرب إيران إلى حرب الكويت إلى حصار قاتل إلى حرب أخرى إلى تقتيل يومي إلى فقر وجوع وتفخيخ، فكيف لا يشيخ الكهل منهم وكيف لا يكتهل الشاب؟
ترى هل يفكّر سياسيونا الأشاوس، هنا وهناك، بما يحدث للوديع الطيب؟ لملح الأرض هذا؟ المواطن البسيط العادي الذي أخذ على عاتقه من قديمٍ، واجبَ عمارة الأرض، وواجب منحها بهاءَ المعنى؟
كلا! فنحن شعوب لم يولد الفردُ بين جنباتها بعدُ، ولا ولدت تلك الثقافة التي تؤهّله وتقدّسه. بل أبعدَ : لا قيمة ولا حساب حتى ل [ المجموع ] ومصالح المجموع. إنّ لدينا، وهذا تعميم يجوز على كل شعوب المنطقة، طبقة سياسية، هي عبارة عن لصوص، في جانب، وبقية مجموع الشعب أو الشعوب، في الجانب المقابل.

لم يولد الفرد في تاريخنا العربي والإسلامي. ولا أظنه سيولد عما قريب. فإذا كان المجموعُ هو عملياً خشبُ المحرقة، وهو الخادمُ وهو العبد لطبقة سياسية قليلة العدد، فكيف لنا حينئذ أن نتحدث عن الفرد العربي، بوصفه مولوداً تاريخياً أنجزنا ولادته أو نحن في الطريق لإنجاز هذه المهمة التاريخية الأعظم؟يكتهل ويشيخ العراقيون والفلسطينيون، ولا يحتاجون إلى سنوات كثيرة، كما يحدث مع نظرائهم في بقية بلدان العالم. ذلك أنّ يومهم شهرٌ وشهرهم سنة وسنتهم بضع سنين مما تعدّون. يكتهل ويشيخ الأصدقاء، القريبون والبعيدون، فأرقب تحوّلات الزمن على وجوههم، وأذهب إلى عزلتي لأفكّر في الأمر وأمتلئ بالغصة.
الغصة لأنه لا حياة ثانية للكائن البشري. إنه وإنهم يعيشون مرة واحدة، فإن ساءت حياتهم (هذه الهبة الممنوحة لمرة واحدة، من سوء الحظ) فقد ضاعت عليهم فرصةُ أن يعيشوا ويستمتعوا إلى الأبد! إنها حقاً أمور وأشياء لا تُعوّض. والأسوأ في الموضوع، أنّ سياسيينا الأشاوس، لا يخطر على بالهم هذا النوع من التفكير. لا يفكّرون على نحو ما نفكّر. فهم لديهم مقاربات جد مختلفة للموضوع وللأحداث وللمأساة.

إنّ كون العراقي أو الفلسطيني يشيخ قبل الأوان : كونه لم يعد قادراً على الحلم (بالأحرى لم يعد مقتنعاً به، بوصفه وهماً سرعان ما يسخرُ منه الواقعُ) لهو أمر جد سيء. بل لهو أمر تراجيدي بامتياز. فكما يقول كارل بوبر، فإنّ [ كل ما يحيا يبحث عن عالم أفضل. البشر والحيوانات والنباتات، وحتى الكائنات وحيدة الخلية، كلها في حالة نشاط دائم، كلها تحاول أن تحسّن وضعها، أو هي على الأقل تحاول أن تتجنّب التدهور ].
إلا هنا إلا في هذين البلدين المنكوبين بيد الأعداء وبعض الأبناء!