-1-
منذ أربع سنوات، وفي مثل هذا اليوم من التاسع من ابريل/نيسان، سقط هُبل العراق الأكبر، وهُبل العرب الأضخم، الذي ما زال العرب يبكون عليه حتى الآن.
كذب الخرّاسون الذين قالوا بأن بغداد سقطت في ذلك اليوم المجيد.
بغداد نهضت، في ذلك اليوم، ولم تسقط.
سقط هُبل العراق ونظامه فقط.
بغداد قامت من تحت الرماد، في مثل هذا اليوم، منذ أربع سنوات، وهي تنفض عنها رماد ليس ثلاثين عاماً أو أكثر من ديكتاتورية حزب البعث الفاشي، ولكنه رماد قرون طويلة عاشتها بغداد تحت ديكتاتورية الخلافة الأموية، والعباسية، والعثمانية.

-2-
العرب والعجم من جيران العراق ومن غير جيران العراق، لم يريدوا لبغداد أن تكون بيروت أخرى. بيروت ما قبل 1975. بيروت الحرية، وبيروت الصحافة، والكتاب، والحداثة، والذوق، والفن، واشعاع الثقافة.
العرب والعجم، كما عملوا على تحطيم أسطورة بيروت، عملوا الشيء ذاته مع بغداد.
لبنان قبل 1975 كان شوكة ناعمة، ولكنها موجعة في حلق وخاصرة الأنظمة العربية.
كان الليبراليون في كل بلد عربي، يريدون أن تكون عاصمة بلادهم أشبه ببيروت الحرية والحداثة. ولذا تخلّصت الأنظمة العربية والعجمية من بيروت (ست الدنيا) عندما أشعلت بالسلاح والذهب الحرب الأهلية، ودمّرت بيروت، ثم هيّأت التربة اللبنانية في الجنوب لزراعة لبنان بأكثر الأحزاب الدينية تخلفاً وتهوراً وولاءً للخمينية، لكي يسعى هذا الحزب جاهداً لاقامة دولة ملالية في لبنان، كما قال نعيـم قاسم ndash; الأمين العام المساعد لحزب الله - صراحـة في كتابه عن حزب الله.
فأقرأوا لتعرفوا وتفهموا، لعلكم تعقلون.

-3-
من دمّر بيروت، وفضَّ بكارة (ست الدنيا) من العرب والعجم بالسلاح والمال والمرتزقة والجواسيس، هو نفسه الذي لم يُرِدْ لبغداد أن تنعم بفرحة وسعادة التحرير من عهد الطغيان الفاجر.
مدن العراق الأخرى، كمدن الشمال، حيث العقل والعقلاء هناك، نعمت بهذه الفرحة وهذه السعادة. وبدت مدن شمال العراق في عيد مستمر منذ أربع سنوات، في حين حُرمت بغداد وحُرمت مدن الجنوب العراقي من هذه الفرحة. بل هم حَرَموا بجهلهم وتخلفهم وغفلتهم أنفسهم بأنفسهم، من هذا النعيم الذي تعيش فيه مدن الشمـال العراقـي الآن.
إن الجنون الذي اجتاح وسط العراق وجنوبه، حيث الجهل والفقر والفكر الأسطوري وثقافة القرون الوسطى والعلمانية المنفية وسيطرة رجال الدين الكذّابين والدجالين، الذين يضحكون على عقول الناس بشعارات زائفة وخطابات بلهاء، أدّت الى ما أدّت اليه الآن بالنسبة لمدن الوسط والجنوب العراقي.

-4-
إيه يا بغداد الحزينة.. يا ذهب الزمان كما أنشدتك فيروز، قبل سنوات.
ما الذي كان يمنعك يا بغداد.. يا ذهب الزمان، من أن تكوني كما هي اربيل الآن، مدينة مزدهرة آمنة، يتسابق المستثمرون في العالم للعمل، واشعال الحياة فيها من جديد، بعد أن دمرها حكم الطغاة في عام 1991 وهجّروا منها أكثر من مليون مواطن، في حملة الأنفال، ووحوش الأدغال؟
ما الذي كان يمنعك با بغداد.. يا ذهب الزمان، من أن تكوني آمنة مطمئنة مثل السليمانية الآن، تنامين قريرة العين، زاهرة، بحيث جذبت الآلاف من العمالة العراقية والعربية، وبأجور مرتفعة، وتدفقت عليها رؤوس الأموال من كل صوب؟
ما الذي كان يمنعك يا بغداد.. يا ذهب الزمان، من أن تكون باقي مدن العراق في الجنوب والوسط كباقي مدن كردستان في شمال العراق كله؟
ما الذي كان يمنع أن ينعم العراق كله بما تنعم به كردستان الآن؟
هل كانت الحملة الأمريكية للعراق حملتين، وليست حملة واحدةً؟
هل كانت الحملة الأمريكية بيضاء على كردستان، وسوداء على الجنوب والوسط؟
هل كانت الحملة الأمريكية عسلاً لكردستان، وحنظلاً للجنوب والوسط؟
أن الجنون والجهل والارهاب قد أخذ بعقول أهل الوسط والجنوب، ورفضه أهل الشمال؟

-5-
إن التاريخ يكرر نفسه، ولكن بتحفظ شديد.
بل نحن الذين نكرر وقائع التاريخ.
أنظر ماذا فعل الاحتلال الفرنسي في لبنان، وماذا فعل المصريون بالحملة الفرنسية؟
لبنان ظاهرة حداثية مُستهجنة في العالم العربي، رغم عيوبه الطائفية وديمقراطيته المنقوصة. لذا، تسعى كل الأنظمة الديكتاتورية والظلامية في العالم العربي والإسلامي الى تدميره والقضاء على مؤسساته الدستورية، حتى لا يُستنسخ الى أمثلة أخرى، تهدد النظام السياسي العربي القائم، والمعابد الثقافية العربية.
تأملوا جيداً وضع شمال العراق، وتأملوا وضع وسطه وجنوبه، وقولوا لنا ما الذي بنى الشمال وأزهاه ونمّاه وطوّره على هذا النحو الآن بحيث تتمكن جريدة عراقية كـ quot;المدىquot; من أن تقيم في كل عام، وفي هذا الشهر، من كل عام منذ سنوات، أسبوعاً ثقافياً حاشداً، تدعو فيه كوكبة كبيرة من المثقفين العرب، يذكرنا بالمربد، وبأيام بغداد الثقافية في العصور الخوالي.

-6-
بغداد.. يا ذهب الزمان.
لا أريد اليوم أن أتغزّل بكِ أكثر. فلم يترك لي الشعراء الكُثر مجالاً في هذا.
ولكني اليوم أريد أن أذكّر العراقيين، وأقول لهم: لا تحزنوا، ولا تيأسوا، فبغداد ظلت على مدار الزمان، غواية المغول في الماضي والحاضر. والمغول القتلة الذين أرسلهم لكم الجيران من العرب والعجم، لن يفعلوا في بغداد ما فعله مغول القرن الثالث عشر (1258).
هولاكو الشام، وهولاكو طهران، لم يحضرا بأنفسهما لتدمير العراق، كما فعل هولاكو المغول قبل ثمانية قرون، بل أرسلا سياراتهما المفخخة وانتحارييهما والمتحزمين بالأحزمة الناسفة لتدمير العراق.
إنه الغزو المغولي الحديث، غزو القرن الحادي والعشرين.
فهؤلاء هم الطامعون الحقيقيون في العراق.
ولكنا كعرب لا نعترف بكل هذا، ونلقي اللوم على الآخرين المُحرِرين. فإذا كنا على حق في لوم غير المغول الجدد، فلماذا لم ينجح المغول الجدد في تدمير الشمال، كما نجحوا في تدمير الوسط والجنوب فقط، حيث عملاء مغول الشام وطهران؟
لماذا نجح المغول الجدد بسياراتهم المفخخة وبانتحارييهم وعملائهم في تدمير والوسط والجنوب فقط، واستعصى عليهم الشمال بأكمله.

-7-
ذلك هو السؤال، الذي يغفل ويتغافل عنه الأعراب، والأعاجم، وبعض رجال الدين، وفلول البعثيين الفاشيين والنازيين، وكل من طفح عسلاً من جرّة العهد البائد المهشمة.
فلا تحزنوا أيها العراقيون اليوم، في عيدكم الأكبر، يوم التاسع من نيسان/ابريل المجيد.
وكما عادت بغداد بعد المغول ذهب الزمان، فستعود أيضاً بعد المغول الجدد المُحزّمين بالأحزمة الناسفة، والممتطين للسيارات المفخخة، والخاطفين، واللصوص، ذهب الزمان من جديد.
بغداد.. يا ذهب الزمان، لك البقاء وحدك، لأنك تنشدين الحرية، وبالحرية وحدها ستعيشين خالدة.
السلام عليكم.