كان كافياً سماع ما ورد في الخطاب الأخير للسيّد حسن نصرالله الأمين العام لquot;حزب اللهquot; في لبنان الأحد الماضي، للتأكد من مدى أهمية ما أقدم عليه نوّاب البلد عندما بعثوا برسالة الى الأمم المتحدة يؤكدون فيها الرغبة في قيام المحكمة ذات الطابع الدولي للنظر في قضية أغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى التي شهدها لبنان منذ التمديد للرئيس أميل لحود بفعل الضغط والتهديد خلافاً لأرادة الشعب. قطع النواب اللبنانيون الذين يمثلون أرادة الشعب بذلك الطريق على الذين عملوا منذ البداية على منع قيام المحكمة مستخدمين quot;حزب اللهquot;في عملية تغطية الجريمة، جريمة أغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى بدءاً بمحاولة أغتيال الوزير مروان حماده وأنتهاء بأغتيال الوزير والنائب الشيخ بيار أمين الجميّل.
عكس خطاب نصرالله، أضافة ألى الرغبة في تغطية الجرائم المرتكبة في لبنان، مدى تضايق النظام السوري من المحكمة ذات الطابع الدولي وذلك بشن هجوم عنيف على النوّاب وعلى المحكمة ذاتها من دون أن يوضح في أي وقت مآخذه على نظامها، معتبراً المآخذ سرّاً عسكرياً. لكنّ الأمين العام لquot;حزب اللهquot; ما لبث أن كشف هدفه الحقيقي المتمثّل في الأنقلاب على الدولة اللبنانية ومؤسساتها. أنّه رأس الحربة للمحور الأيراني - السوري الذي يسعى ألى التحكّم بمقدرات الدولة اللبنانية وألحاق لبنان واللبنانيين بهذا المحور ذي الطابع المذهبي ليس ألاّ... أنّه محور لا يصبّ في نهاية المطاف سوى في خدمة المشاريع الأسرائيلية الهادفة ألى شرذمة المنطقة العربية، بدءاً مما حصل في العراق!
لو كانت، ما يسمّى المعارضة اللبنانية، صادقة في موقفها من المحكمة ذات الطابع الدولي المتوقع أن تنظر في أغتيال الرئيس رفيق الحريري وفي سلسلة الجرائم التي شهدها لبنان منذ التمديد للرئيس أميل لحّود، لما كانت هذه المعارضة، على رأسها حسن نصرالله، أعترضت على الرسالة التي بعث بها نوّاب لبنان ألى الأمم المتحدة تأييداً لأنشاء المحكمة ومطالبين بها . كلّ ما في الأمر أن المعارضة تنفّذ تعليمات النظام السوري القاضية بعمل كلّ شيء من أجل عرقلة قيام المحكمة. لذلك، تعتبر خطوة تقديم العريضة في غاية الأهميّة نظراً ألى أنها تندرج في سياق تأكيد أن لا تراجع عن المحكمة ذات الطابع الدولي التي تصبّ في عملية أستعادة لبنان لحريته وأستقلاله وسيادته... وهذا الأمر مرفوض سورياً وأيرانياً وحتى أسرائيلياً.
يتبين لدى العودة الى تسلل الأحداث، أنّه كان مطلوباً تغطية جريمة التمديد لأميل لحّود بسلسلة من الجرائم بدءاً بمحاولة أغتيال مروان حماده وأنتهاء بأغتيال بيار أمين الجميل رمز الشباب اللبناني المتمسك بأرضه ووطنه والرافض لعودة نظام الوصاية، مروراً بأغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما والحبيب سمير قصير والمناضل العربي الحقيقي جورج حاوي والزميل جبران تويني. وكان لا بدّ أيضاً من السعي ألى أغتيال الوزير الياس المرّ والزميلة ميّ شدياق التي رفضت الرضوخ لأملاءات الأحتلال. حصل كلّ ذلك، أضافة ألى سلسلة من التفجيرات بهدف أخضاع لبنان وتأكيد أن لا حياة للبلد ولأهله من دون نظام الوصاية... والأكيد أنّ ليس في الأمكان الفصل بين عملية أخضاع لبنان من جهة وأستقالة الوزراء المنتمين ألى quot;أملquot; وquot;حزب اللهquot; من جهة أخرى. أنها استقالة مرتبطة ألى حدّ كبير، بل على نحو مباشر، بالمحكمة ذات الطابع الدولي وبفشل الحزب في جعل الحرب التي أفتعلها مع أسرائيل الصيف الماضي تثني الحكومة عن المطالبة بتلك المحكمة. أكثر من ذلك، وجه quot;حزب اللهquot; سلاحه ألى الداخل اللبناني وألى اللبنانيين نتيجة نجاح حكومة فؤاد السنيورة في أستعادة المبادرة، بعد حرب الصيف، والتركيز من جديد على موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي. ولذلك كان لا بدّ من الأعتصام في وسط بيروت بغية تعطيل الحياة في العاصمة. وكان لا بدّ من أثارة الغرائز ذات الطابع المذهبي في مناطق مختلفة من المدينة، بغية متابعة الضغط على الحكومة بكلّ الوسائل غير المشروعة من أجل الوصول ألى فراغ سياسي في البلد. وبكلام أوضح، أن المطلوب ألاّ تكون هناك حكومة لبنانية شرعية يعترف بها العالم، كما هو حاصل الآن، حكومة تطالب بالمحكمة ذات الطابع الدولي وتكون في الوقت ذاته مرجعيّة لها في المكان الذي أُرتكبت فيه سلسلة الجرائم.
من هذا المنطلق، تعتبر رسالة النواب اللبنانيين ألى الأمم المتحدة حدثاً أستثنائياً وذلك ليس لأنّها تعكس عزم اللبنانيين على المقاومة فحسب، بل لأنّها تظهر أيضاً أن هناك أكثرية حقيقية في البلد ترفض الأستسلام وتعرف ما تريده تماماً. هذه الأكثرية تعرف بكلّ وضوح أنّ quot;حزب اللهquot; مع ادواته المستأجرة، من ميشال عون ألى وئاب وهّام وما بينهما، يعمل من أجل كسب الوقت لمصلحة النظام السوري الذي لا يستطيع حتّى مجرّد السماع بأسم المحكمة ذات الطابع الدولي. لقد اظهرت رسالة النوّاب وردّ فعل حسن نصرالله عليها أن المناورات التي يستخدمها الحزب المذهبي ذي المرجعية الأيرانية، لم تعد تنطلي على أحد. لكنّ ذلك يجب ألاّ يعني في أي شكل أن الحملة الشرسة على لبنان واللبنانيين ستتوقف. على العكس من ذلك، سيكون هناك تصعيد كبير ردّاً على رسالة النوّاب، خصوصاً أنّها جاءت بعد أنعقاد القمة العربية وأعلان غير مسؤول سوري أن القمة كانت نجاحاً كبيراً، بل منقطع النظير، لدمشق... في حين أنّ الحقيقة عكس ذلك تماماً. تظهر الرسالة بكلّ بساطة أن النوّاب اللبنانيين لا يتمنون ألاّ الخير لسوريا ورئيسها، ولا يتمنون له تحديداً سوى النجاح في فكّ عزلته العربية والدولية بما في ذلك أقامة أفضل العلاقات مع الأدارة الأميركية، شرط ألاّ يكون ذلك على حساب لبنان واللبنانيين. لكنّ فكّ العزلة يظلّ شيئاً والأستمرار في عملية تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي شيء آخر. هذا هو بيت القصيد في كلّ الموضوع. وهذا ما أظهرته رسالة النوّاب اللبنانيين الذين يدركون أن حياة كلّ منهم في خطر.
قرر نوّاب لبنان خوض التحدي ألى النهاية. المحكمة ذات الطابع الدولي تعني لهم كلّ شيء على الصعيد الوطني. تعني أوّلاً أن هناك أرادة لبنانية صلبة تعمل بكدّ في سبيل أستعادة الحرية والسيادة والأستقلال. وتعني أيضاً أن لا بدّ من أن تكون هناك عدالة في نهاية المطاف وأن موجة الأغتيالات يجب أن تتوقف. وتعني خصوصاً أن الوقت ليس وقت المناورات السياسية والحوارات العقيمة التي لا تستهدف سوى أضاعة الوقت خدمة للنظام السوري الذي يعتقد أن هذا العامل يصبّ في مصلحته. يبدو رهان النظام السوري، ومعه حسن نصرالله، على عامل الوقت واضحاً كلّ الوضوح، أذ يعتقدان أن كلّ المعطيات الدولية ستتغيّر بمجرد ألاّ يعود جاك شيراك رئيساً لفرنسا وجورج بوش الأبن رئيساً للولايات المتّحدة. جاءت رسالة النواب لتقول أن العالم يريد أحقاق العدالة في لبنان وأن المسألة مرتبطة بالنظام الدولي ممثّلاً بالأمم المتحدة، أي بمؤسسة لا علاقة لها بالأشخاص... لا بشيراك ولا ببوش الأبن. هل من يريد فهم الرسالة وأبعادها وما تعنيه بالنسبة ألى لبنان؟ أنّها تعني اوّلاً أن البلد قابل للحياة لأن أبناءه على أستعداد لتقديم كلّ أنواع التضحيات وتعني ثانياً أن العالم يريد مساعدته وهو جدّي في ذلك، على الرغم من كلّ الحملة الشرسة التي يتعرّض لها والتي لا تستهدف سوى الشرفاء من أبنائه الذين أستشهدوا في معركة الأستقلال الثاني...
ربّما ثارت ثائرة الأمين العام لquot;حزب اللهquot; لأنّه فهم الرسالة جيّداً. فهم خصوصاً أن اللبنانيين مع ثقافة الحياة وليس مع ثقافة الموت التي ينادي بها هو وحزبه ومرجعيته لا أكثر ولا أقلّ.