لم يبق إلاّ وقت قصير لمجزرة مؤلمة ومصير مرعب ربما ستحدث، وفق تهديد بيان مسلحين يطلقون على انفسهم اسمquot; كتائب سهام الحقquot; . ستذهب ضحية امرأة بريئة مسنة ارتضت ان تتزوج طبيباً عراقيا وتنجب له ابناً قبل عشرين عاما اسمته سنان، وقبلت أن تعيش في بلد ينزف دماً.
انه نبل كبير وعظيم، كما أنه تضحية منها أزاء معانات الغربة واللغة وشحة أبسط مقومات الحياة. هذة السيدة النبيلة ـ الأم تعيش في العراق قرابة عشرين عاماً. وبالتأكيد كان نبلها وسعة قلبها تبارك زوجها الطبيب وهو يخفف آلام العراقيين في محنتهم، فيما تدمع عيناها لمشاهد العنف والموت والمعاناة.

ما أشد وحشية الخاطفين عندما سيعاقبون الرهينتين بالموت ليسددوا بالدم ثمن النزاهة والكرم ويعلنوا الانتصار على ضحايا باردة لا يملكون إلاّ الرجاء وهم يرفعون شعارات ضخمة تريد انقاذ البشر بقتل الناس الابرياء.

في السادس من فبراير/ شباط خطف مسلحون ( عراقيون) في بغداد المواطنة الألمانية هانالوره ماريانا كراوزه وابنها سنان . وفي شريط فيديو طالب الخاطفون لقاء إطلاق سراح الرهينتين انسحاب القوات الألمانية من أفغانستان ، وحددوا تاريخاً معيناً سيجري فيها قتل المخطوفين ما لم تنفذ الحكومة الألمانية مطالبهم .
في شريط لاحق بثّ يوم السبت الأسبق هدد المختطفون الحكومة الألمانية بقتل الرهينتين في غضون عشرة أيام إذا لم تسحب قواتها من افغانستان. جاء التهديد في شريط فيديو جرى بثه على أحد المواقع الاسلامية على الانترنت تحت عنوان quot; نداء للحكومة الألمانيةquot; ظهرت فيه السيدة هانولوره وابنها تطالب الحكومة بتنفيذ مطالب المسلحين وتقول بانكسار مؤلم وكأنها لا تفهم العالم الذي يدور من حولهاquot; أرجوكم ساعدونيquot;.

في الشريط التلفزيوني ظهر ثلاثة ملثمين قرأ أحدهم بيانً يحمل التهديد للحكومة الألمانية جاء فيه: quot;نمهل الحكومة الألمانية عشرة أيام من تاريخ بياننا هذا للإعلان وبدء سحب قواتهم من أفغانستان، وإلا فقد أعذر من أنذر ولن يروا حتى جثة واحدة لهذين العميلين والله أكبر والعزة للإسلام والمسلمينquot;.

بأي منطق تحولت الرهينتان إلى عملاء؟
وما دخل الله وعزة الإسلام بقتلهما ورمي جثتهما؟
إنه انتصار وضيع، إنتصار العاجزين، بل إنتصار المقهورين من دولة يواجهونها بمواطنين عراقيين أكثر من كونهم ينتمون الى الدولة المعنية؟
إنه انتصارٌ لصوص الحرب وسماسرة الدين، لو نفذوا تهديدهم وقتلوا الرهينتين اللذين لا حول لهما ولا دخل لهما بالحكومة الألمانية.

كان عرض الشريط للضحيتين مؤلماً للغاية ، ثلمَ شرف من يدعي النضال ويريد تحرير العراق ورفع شأن الاسلام. من شاهد بكاء ونواح الضحيتين، الأم والأبن، وهما يستجديان المستشارة الألمانية انجيلا ميركل لتلبية طلب الخاطفين، دارت الدنيا حوله واغرورقت عيناه بالدموع:

أم عجوز تبلغ 62 عاماً متزوجة من دكتور عراقي تعيش في بلادناالعراق حوالي عقدين من الزمن وقد تأقلمت وأصبحت أماً عراقية شربت من ماء نهريها وولدت إبنها الذي سمته سنان وربته عشرين عاماً ، يتحدث العربية وباللهجة العراقية. هذان هما الضحيتان، المرتبطتان بالعراق أكثر من ارتباطهما بألمانيا، يريد المسلحون قتلهما وتحميلهما وزر موقف حكومتهما وكأن كل مواطن في بلد ما يتحمل تبعات سياسة حكومته.

أليس من السذاجة أن نحمّل سياسات الحكومات العربية، على سبيل المثال، على كل فرد من مواطنيها؟ وهل هو مشروع أن يتم خطف لاجئين عرب أو مواطنين من أصل عربي في بلدان العالم لفرض مطالبهم على الحكومات العربية؟ هل هو ضيق أفق وقصور في التفكير لأن نستدرج رهائن عاديين لا ذنب لهم ثم نقتلهم إذا رفضت تلك الحكومات تلبية مطالبنا؟

في هذا السياق يستطيع أي شخص حصيف أن يكتشف بسهولة انه لم يجر حتى الآن أن امتثلت حكومة ما إلى مطالب الخاطفين. ويبدو أن المسلحين يفتقدون لأية معلومات سياسية عن طبيعة البلدان التي يريدون أن يفرضوا عليها مطالبهم . لا يخفي على أحد أن البلدان المعنية تتخذ قراراتها عبر برلمانها ووفق دستورها وبموافقة أكثرية المواطنين الذين انتخبوا البرلمان ، ويعني هذا أن لا أحد من المسؤولين بمقدوره تغيير القرارات ، وبالتالي من العبث أن تفرض املاءات ومطالب على تلك الحكومات . ولكن يبدو أن جهل المسلحين يورط الرهائن ويجعلهم ضحايا حسابات خاطئة، أو ان حسابات المسلحين لا تعني سوى ارتواء الدم بغض النظر عن تحقيق المطالب. ولربما للخاطفين أغراض مادية كأية زمرة لصوص سرسرية تقايض حياة الناس الابرياء بحفنة من الدولارات.

لقد جرى حتى الآن خطف حوالي 200 من المواطنين الأجانب في العراق ، تمّ إطلاق سراح حوالي الثلث منهم، ولم يؤثر منظر الدم بقتل البقية من نهج الحكومات، فيما طبع قتل الضحايا المسلحينquot; المناضلينquot; كذا بالوحشية وبالتعطش للدماء ، ومسح فيهم سمة السياسة ليكونو أمام الناس مجرد ارهابيين يوغلون في دماء الأبرياء، أو أنهم قطاع طرق ولصوص يحترفون الابتزاز للحصول على الاموال.

وفي هذا المجال أكدت التايمس اللندنية quot; أن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا دفعت حوالي 40 مليون دولار فدية لتحرير الرهائن . ومن أجل إطلاق سراح رهينة واحدة دفعت ما بين 2,5 إلى 10 ملايين دولار. ربما هذه الأخبار التي تناقلتها الصحف فتح شهية الخاطفين أكثر من مما تفتحه المباديء.

ويبدو أن ملف الرهائن الألمان ملف مغر بالنسبة إلى الخاطفين: في 25 نوفمبر خطفت الآركيولوجية سوزانه اوستهوف ثم اطلق سراحها في 18 ديسمبر . وفي 14 يناير 2006 خطف المهندسان رينيه برونلش وتوماس نيتشكه في منطقة بيجي، ثم اطلق سراحهما بعد 14 اسبوعاً. ومع أن نداءات الخاطفين كانت سياسية، ورجت شخصيات سياسية واجتماعية وفكرية ونداءات رجال دين مسلمون ومسيحيون إطلاق سراحهم ، إلاّ أن رائحة المقايضة بالمال، كما أشيع، انتشرت لتغطي السياسة والنداءات الانسانية.

نأمل هذه المرة من quot; كتائب سهام الحقquot; التي تحتجز الرهينتين أن تنظر بتبصر ولا تضع اللصوصية هدفاً لها، وأن تتأمل بموضوعية وبعقل لمطالبها التي رفضتها الحكومة الألمانية، فلا تجازي ذلك بقتل الرهينتين البريئتين، وهما لا يملكان، لا بالبكاء والنواح ولا بالرجاء قرار تغير سياسة بلدهما، وسيذهبان ضحية باردة للعبة الشيطان بين المحتجزين وحكومات دول لايقرر حتى الرؤساء سياساتها، فيضيع الحق والحقيقة بسهم طائش.

لتعد هانالوره المرأة العراقية المسنة وابنها سنان إلى حياتها الخالية من الرعب لتعد إلى زوجها الطبيب العراقي، فالرحمة أكثر غنى من النقود وأرحب من السياسة. هكذا تقول الأديان وتؤكد الأخلاق الفاضلة.