حاجة معرفية إنسانية تتواصل وتتطوّر مع تناسل الجنس البشري، الثقافة بوصفها / 1
لذا فهي تمثّل الذاكرة الحية للشعوب. وثقافة أيّ شعب لا تموت ولا تستنسخ مهما تواجه من محاولات محوٍ وتشويه. بل على العكس من ذلك تستعيد عافيتها حتما، لتولد من جديد - كما العنقاء - بعد كل متغير عاصف بما هو مدني أو حضاري وفي كل زمان ومكان. وما حدث في بلادنا من متغيرات جديدة، دعانا لقراءة المستقبل الثقافي الذي يعتمد على طبيعة العلاقة بين المثقف والدولة. باعتبار أن ما يجري الآن من علاقات فوضى مرعبة سيفضي حتماً إلى علاقات دستورية آمنة. أن العمل من أجل مستقبل ثقافي نيّر، يستدعي قراءة جديدة لطبيعة العلاقة بين المؤسسات الثقافية للدولة وبين المثقفين والمشتغلين في القطاع الثقافي. وهذه العلاقة تتطلب أدوارا ومهمّات عاجلة وآجلة لكلا طرفيها الفاعلين-الدولة والمثقف- .
2/ وحري بالمثقفين الغيارى الأكفاء توحيد كلمتهم ليقولوا للمتلاعبين بمقدرات شعبنا وتطلعات مثقفيه: كفاكم تصرفات لا مسؤولة. دعونا نمر لنعيد بناء مؤسساتنا الثقافية بقلوب عامرة بالمحبة لا بالضغينة والحقد والعنف. نودّ أن نلتقي على مائدة واحدة ونتحاور بالكلمة الطيبة لا بالفتنة والقتل. دعوا حرابكم وبنادقكم جانبا، كي نتعانق على محبة الله والمعرفة والوطن. تعالوا معنا لنقرأ ونتدارس مواد وفقرات الدستور العراقي الجديد، لا مواد وفقرات الخطب الرنانة ووصايا وأفكار هواة انهار الدم. لنعمل معا من اجل إثارة الوعي بالوطنية الجديدة ونشر ثقافة جديدة هي ثقافة حماية الدستور والمؤسسات الدستورية. ولنتكاشف غير هيابين من بعضنا. كفانا تلقيا سلبيا من الما فوق. ولنكن فاعلين ومؤثرين في صنع القرارات التي تخدم مصالحنا جميعا، لا مصالح جماعة دون أخرى. فديمقراطية المجتمع المدني لا تأتي بالتمني والسحر، بل تتطلب منا تضحيات من نوع آخر وجديد. تضحيات تقوم على مبدأ إنساني عام، هو احترام الآخر والإصغاء لرأيه، حتى لو كان على خطأ. كفانا قمعا لبعضنا ولنتفق على ما هو عام وإيجابي ومفيد، بدلاً من تبني خطابات تعبى ونصوص مغلقة جافة، لمصادرة حرية الآخرين ودحض آرائهم. والاعتداء على الناس وعلى ممتلكاتهم دون واعز من ضمير أو عرف أو دين. ولنتوحد على أساس اجتماعي تعاوني إنساني عام لإيصال صوت العراق النبيل الهادئ والحضاري، بعيدا عن المتاريس ومفازات التناحر والصراخ والزعيق. وليكن صوتنا كمثقفين هادئا وجميلا كجمال أهوارنا وجبالنا وآثارنا العظيمة. ولنتصرف جميعاً
بمعرفة ودراية وحكمة بدل الخبل والجهل والتخلف. ولننشر بذور الخير والنماء بدل الفتن والضغائن والاحتراب. ولنرفع باقات الورد بدل البنادق. ولنعمل بروية وتأن لاستشراف آفاق المستقبل العراقي المشرق. ولنشتغل بجد ومسؤولية لتحويل العراق إلى فردوس محبة، لا إلى صحراء ضغينة وخصام ودم.
3 / رغم أن مهمة الدولة في تطوير العمل الثقافي عامة والإبداعي خاصة، تتطلّب رسماً جاداً لسياسة ثقافية طويلة الأمد في البلاد. وهذا ما يستدعي تشريع قوانين مستمدة من دستور وطني ذي بعد إنساني. إلاّ أن ذلك لا يحول دون أن تلعب دورها الحاسم في رعاية عنقاء الخراب الثقافي الشامل. كيما تشرع للانطلاق صوب آفاق المستقبل المشرق. من خلال وضع برامج وخطط ثقافية مرحلية تسهم في دحض ثقافة العنف والهدم، وتدعو إلى ثقافة السلام والبناء. وهذه الخطط يجب أن تنطلق من جوهر الفلسفة الإنسانية الذي يخدم حتما الإنسان العراقي مدنيا وحضاريا. وصولا لاستيعاب وممارسة القيم الوطنية والإنسانية التي تتطلبها مرحلة التحول الديمقراطي- رغم ضبابيّتها ودمويّتها- كالحرية وحقوق الإنسان والتعددية واستيعاب الآخر وغيرها من مفاهيم. وذلك من خلال جملة مهام منها:
*الإفادة من التحولات المدنية والحضارية العالمية في تطوير عمل المؤسسات الثقافية
والإعلامية للدولة.
*تحسين علاقات مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية مع الأنشطة الثقافية للمجتمع.
*إعادة تأهيل العاملين في تلك المؤسسات بدورات داخل وخارج الوطن.
*النظر في إدارة هذه المؤسسات على أساس النزاهة والكفاءة والولاء للوطن لا غير.
*فتح قنوات اتصال ثقافي بين الوزارات كافة، لرفع كفاءة أداء الأنشطة الثقافية.
*توطيد علاقة جديدة بين قطاعي الثقافة والإعلام وعلى أساس مهني وديموقراطي.
*مطالبة مجلس الوزراء بإعادة النظر في الميزانية البائسة لوزارة الثقافة.
*دعم ورعاية الدولة للأنشطة الثقافية لتجمعات المجتمع المدني الفنية والأدبية.
*التعاون بين الدولة والتجمعات الثقافية لإعادة قراءة التاريخ العراقي وفي شتى الميادين، وبحيادية تامة، ومن دون أيّ تخندقٍ ديني أو طائفي أو عرقي أو سياسي.
*الاهتمام بالتراث والفلكلور والسياحة والمتاحف والنصب وكل ما يعيد إشراقنا المعرفي.
*التقليل من هيمنة الثقافة المركزية سلطة العاصمة وذلك بدعم المهرجانات الثقافية في المدن الحضارية المهمة، لخلق بؤر ثقافية متنوّعة، تحقيقاً للتنافس الإبداعي. وهنا أدعو إلى دعم مشروع(مهرجان أور الإبداعي)الذي سبق أن دعونا له، ونجدّد الدعوة له الآن، ليكون واحة إبداعية سومرية تعبق بالمعرفة مع واحات الإبداع الأخر في عراقٍ جديد فعلا.
*توفير ما يمكن من مناخات ديموقراطية لإنتاج وتسويق المنجز الإبداعي.
*الإفادة من تجارب دول المنطقة في دعم المشاريع الثقافية مثل/ مجالس الثقافة والفنون/ البيوت الثقافية/ النوادي الثقافية وغيرها وتحويلها إلى واحات إبداعية لا إسقاط فرض.
*دعم ورعاية الأدباء والكتاب والفنانين من خلال الرواتب والمنح والسكن الملائم والدراسة والسفر والتفرغ الإبداعي وغيرها.
*المساهمة في تعضيد ونشر المطبوع الثقافي/ مجلات/ كتب، بعدالة وبدون رقيب شمولي .
*إيلاء الاهتمام الحقيقي بثقافة المحافظات ومبدعيها الذين تضرّروا كثيرا من هيمنة ثقافة المركز، ومنحهم حقوقهم أسوة بأقرانهم القريبين من المؤسسات الثقافية المركزية للدولة.
*العمل على تشريع قوانين تكفل حقوق المبدعين الاجتماعية والإنتاجية.
*دعم عمل وأنشطة تجمعات المجتمع المدني الثقافية والإعلامية/ اتحادات/ نقابات/ جمعيات/ روابط، ومساعدتها في الحفاظ على مهنيتها واستقلاليتها ونزاهة انتخاباتها بعيدا عن تدخل الحكومة والأحزاب، وسن القوانين التي تنظم آليات تشكيلها وإقرار أنظمتها الداخلية وتكفل مشروعية سعيها للدفاع عن حقوق منتسبيها في العيش الكريم والإبداع المتواصل.
4/ ما دعانا للكتابة، هو انحسار دور الدولة في المجال الثقافي، لأسباب سياسية وأمنية ومالية وإدارية. وبروز نشاط ملحوظ ومؤثّر لمؤسسات ثقافية أخرى مثل (مؤسسة المدى الثقافية) في أنشطتها المتميزة ومهرجاناتها الأدبية والفنية المتواصلة ودعمها المادي والمعنوي للأدباء والفنانين. بينما الوزارة مصابة بالشلل الطائفي، ودورها ضعيف في دعم أنشطة أخرى، مثل /ملتقى السياب/ مهرجان المربد/ مهرجان المتنبي/ مهرجان الحبوبي/ مهرجان الجواهري وغيرها إضافة إلى غياب دورها العربي والعالمي. وفي الوقت الذي نشد أيدينا على الجهود الجبارة لهذه المؤسسات الثقافية، ندعو الدولة ممثلة بوزارة الثقافة، لدعم أيّ جهدٍ ثقافي واعتباره واحة نيّرة يبدّد من ضبابية المرحلة. وأن تعيد النظر في سياساتها المقبلة على أساس تعدد مواطن البوح الثقافي، لأن هذا يغني المركز وليس يضعفه كما يرى البعض. وأن تكون راعية عادلة للنشاط الإبداعي في كل مكان لا داحضة للتنوع الثقافي.وهذا لن يتم إلاّ بتوفير أسباب خصبه ومناخات تلاقحه لإنعاش الذاكرة الإنسانية للثقافة العراقية.