الدين جزء جوهري في تركيبة المجتمع العربي / الإسلامية، وتجاهل هذه الحقيقة ضرب من العناد الفكري الذي لا طائل من ورائه، حتى قيل إن الثقا فة العربية / الإسلامية ثقافة نص، ونص ديني بالدرجة الاولى. من الصعب بل من المستحيل إلغاء مادة التعليم الديني من مناهج التربية والتعليم في العراق أو في أي بلد عربي إسلامي، الأمنيات شي والواقع شي أخر. ويبلغ هذا المقترب غاية في الخيال وعدم المعقولية ونحن نرى إن التعليم الديني يشكل أحد العناصر الأساسية في مناهج التعليم في أشهر وأرقى الأنظمة الديميقراطية، فهذه السويد وهي من أشهر وأرقى الانظمة الديمقراطية تدرس في مدارسها الابتدائية والمتوسطة المادة الدينية بشكل مثير للدهشة حقا، فهذه المناهج تقوم على فكرة عرض التصورات والمذاهب الدينية بالاستناد إلى المصادر الرئيسية المعتمدة من قبل أصحابها ، ولكن من دون إنحياز لهذا الدين أو ذاك، لهذا المذهب أ و ذاك، مجرد شاشة عار ضة، ولا تدرج في الاثناء أي دليل إيجابي أو سلبي طالما يستند إليه هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك! مجرد عرض، بيان، وباختصار مفيد، يركز على القواعد العقدية والاخلاقية والتشريعية لكل دين، وربما مع شي من تحليل فلسفي وروحي لبعض النقاط الجوهرية، من دون استعراض الجانب الدليلي والبرهاني ، وبذلك يحقق هذا المنهج قفزة موضوعية في التعليم الديني.
الدين اليوم عالمي ، وهناك من يرى أن معادلة الصراع التي تحكم العالم هي معادلة أديان، وإن كانت متلبّسة بأردية سياسية، أو إن الدين من أحد أبرز معالم الصراع الذي يسود العالم، وسلام العالم كما ترى بعض الطروحات من تحقيق مستوى راق من التسامح الديني في العالم، فلا سلام بلا حوار أديان، ولا حوار بلا إعتراف متبادلة وفهم متبادل، يدخل الدين في حياتنا اليومية شئنا أم أبينا، ثم الدعوات الدينية تنتشر بشكل مدهش حتى في العالم الذي يدعي إنه تخلى عن الدين، أو أبعده عن الدائرة الزمنية لحياة الانسان، ولا يمكن أن ننسى دعوة بعض كبار العاملين على الاتحاد الاوربي ضرورة إستلهام الانجيل في توجيه هذاالاتحاد أخلاقيا وروحيا!
هناك فرق بين إلغاء التعليم الديني وبين ترشيد التعليم الديني، وهناك فرق بين تحويل المدرسة العراقية الجديدة إلى غرفة بث ديني وبين عرض الدين بشكل موضوعي شفاف يسهم في تعمير الذات العراقية وتهذيب مواقفها من الاخر، وهناك فرق بين إلغاء الدين من المناهج وبين تحرير الدين من الخرا فات والاساطير والانحياز ، هناك فرق بين إلغاء التعليم الديني وبين الحيلولة دون استخدامه مادة قتل، ووسيلة فوضى، وآلية نفي. بالعكس، فإن تولي المدرسة العراقية الجديدة تدريس المادة الدينية وفق خطة منهجية، هادفة، ترمي إلى تنشيط الروح، وتجذير الحس الا خلاقي، وتوطين النفس على عمل الخير، وتعميم القيم المشرقة، إنما يساهم ذلك دون إستغلال الدين لأغراض شخصية وطائفية وسياسية، ويعدم فرصة تحويل الدين إلى بضاعات سياسية مبتذلة، ويخلق وعيا ساميا باهداف الدين البعيدة وأغراضه المتالقة، أقصد الجانب الروحي.
أعترف ليست المهمة سهلة، بل هي معقدة، تحتاج إلى جهود متضافرة، يقوم عليها عقال متفهمون، كما أن النظام السياسي له دور في تحقيق هذه الإنجاز الحضاري الكبير.
إن المدرسة هي الحاضن الحقيقي للطالب، وربما تأثيرها يفوق تأثير البيت والشارع والمسرح والتفلزة، وعليه، عندما تتبنى المدرسة تعليما دينيا شفافا، يركز على الجانب الروحي من الإنسان، ويتعامل مع المعنى العام للدين، إنما نهيئ تعليما مضادا لذلك التعليم الديني القائم على فهم دموي ورجعي للدين، يكون مثابة ترياق فكري يقاوم تلك السموم التي تزرَّق في ضمائر أبناءنا المساكين باسم الدين والشرع، حيث يتولى ذلك مؤسسات وأحزاب ذات قدرات مادية وروحية وا جتماعية ضخمة.
نعم، إن النظام السياسي مسؤول عن تنظيف البيئة الاجتماعية من هذه السموم، ولكن من ميادين المواجهة هي المدرسة، وعبر تعليم ديني مُرَشًّد، يصعّد من التسامي الروحي لأبناءنا، ويبني في داخلهم ا لوجداني بنيات روحية مفعمة بالحب والتسامح والتعاون واالاحسان والاحترام.
شي مهم أريد أن أشير إليه هنا، لا أقصد بحديثي هذا (الدين ) كمادة علمية، أي كمادة خاضعة للتحليل العلمي، فذاك من شأن علم الاجتماع الديني، ومن شأن علم مقارنة الاديان، بل أعني هنا ( الدين ) كمنهج تربوي أو كمادة تربوية، تلك قضية وهذه قضية أخرى.
شي مهم آخر بودي أن أنوه إليه، لا أقصد في حديثي هذا دينا بعينه، فإن العراق بلد متعدد الا ديان، الاسلام والمسيحية واليهودية والمندائية واليزييدية وغيرها من الاديان التي لها أهلها ومعتنقوها في هذا البلد الجريح، ليس العراق ملكا لأهل دين بيعنه، بل هو عراق الجميع، وبالتالي، فإن التعليم الديني في المدرسة العراقية الجديدة يجب أن يراعي هذه الحقيقة ا لقوية.
شي ثالث ينبغي أن أبينه هنا أيضا، أني اطمح في أن تكون مناهج التعليم الديني في المدرسة العراقية الجديدة ليست تربوية تقريرية، بل تربوية إصلاحية، أي تصحح المفاهيم، وتجبر الكسر الذي أحدثته القراءات الخاطئة لجوهر الدين بشكل عام، وذلك لما نرا ه اليوم من تصورات مرعبة جهلا وشعوذة واستغلالا للدين المسكين، رغم إن كل الاديان تؤكد أنها جاءت لخدمة البشرية، وعلى رأس مهامها تأسيس السلام، سلام الروح، وسلام المجتمع، وسلام الاسرة، وسلام العالم، وسلام البيئة...
إن دعاة إلغاء التعليم الديني من المناهج الدراسية ، وترك الامر للجامع او الكنيسة أو البيت أو الشارع أو الجمعيات الخيرية أو مجالس الذكر أو الاحزاب الدينية إنما يرتكبون خطا مفجعا، أمر سيئ في تصوري، فهو أقل ما يعنيه ترك ابناءنا لخيارات غير مدروسة، في قضية من أدق القضايا حساسية وخطورة، تلك هي القضية الدينية. بل المطلوب أن تكون المدرسة هي الغرفة الواقية، هي المحاولة التصحيحية للفهم المشوش للدين، الذي طالما يتلقاه أبناءها في مثل هذه الميادين، حتى المساجد!! وهل نسينا دور بعض المساجد في زرع ثقافة العنف الديني و المذهبي في ضمائر طلبة في عمر الورود ؟
أعترف أن الامر ليس بهذه السهولة، وأعترف أن الإنجاز لا يحتاج فقط إلى علماء متنورين لكتابة منهج التعليم الديني المسؤول، بل نحتاج أيضا إلى الكادر التعليمي المتفاعل مع الفهم المشرق للدين، وقبل هذا وذاك، نحتاج إلى نظام سياسي ديمقراطي حقا.