-1-
تقول الإحصائيات غير الرسمية، بأن هناك ما يقارب من أربعة ملايين عراقي في الشتات، منتشرين في العالم العربي (سوريا والأردن على وجه الخصوص) وفي أوروبا والدول الاسكندنافية وكندا واستراليا وأمريكا الشمالية والجنوبية. وأن غالبية هؤلاء من النخب الفنية والثقافية والاقتصادية والتعليمية. ورغم أنهم يعيشون في الشتات الحريري المريح، وخاصة من يعيش منهم في الدول الغربية وفي الدول الاسكندافية، إلا أنهم يشكون من الغربة، ويتألمون من هذه الغربة، كما يشكون من سوء المعاملة، وقلة الموارد المالية. ومنهم من وقف بالأمس في السليمانية أمام الرئيس مام جلال في quot;مهرجان المدى الثقافيquot;، وطلب المعونة والغوث. وعجبت من الرئيس مام جلال، كيف تجاوب مع طلبهم، ووعد بمساعدتهم. وكنت أتوقع بدلاً عن ذلك، أن يطالبهم بالعودة الى وطنهم وإلى الأماكن الآمنة فيه وما أكثرها.
فالارهاب لا يجتاح كل العراق، وأماكن العنف والارهاب -كما رأيت وسمعت - ليست في كل العراق، وانما في أماكن محصورة ومحددة فقط، وهي في طريقها الى الزوال.

-2-
عجبت من عدد العراقيين الكبير، الذي نزح من العراق ومعظمهم كما قلت من النخب ومن طبقة الأفندية.
لم يهاجر الفلاحون العراقيون من العراق، وتمسكوا بالأرض والحقل.
ولم يهاجر العمال العراقيون، وتمسكوا بالشاكوش والأزميل العراقي.
ولم يهاجر الفقراء والمعدومون والمسحقون من العراق.
هاجرت الأموال، وهاجر أصحاب الثروات. وهاجرت العقول، وأصحاب الكلمة والريشة والقلم. وتركوا جميعاً العراق ورائهم للارهاب الديني، والارهاب الطائفي، وراحوا يبكون على العراق من بعيد، ويندبون ويتحسرون على العراق من بعيد.

-3-
بعد التحرير، وبعد التاسع من نيسان المجيد 2003 ،كنا نتوقع عودة الكثير من النخب السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية الى العراق. ولكن يبدو أن جمال الطبيعة، ودعة الحياة، ونظام المجتمع والديمقراطية في الغرب، قد أغرى هذه النخب بالبقاء حيث كانت في عهد الطغيان الديكتاتوري السابق، وبعد زوال العهد الديكتاتوري زاد عدد العراقيين في الشتات نتيجة للتعصب الديني وارتفاع وتيرة العنف والارهاب.
بعد التحرير، كنا نتوقع من كبار الشعراء والفنانيين والرسامين والكتاب العراقيين أن يعودوا الى العراق ليثروا الحياة الثقافية العراقية، ويكتبوا بأقلامهم ويرسموا بريشهم العراق الحر الجديد، وأن تعثرت العودة الى مناطقهم ومدنهم، فهذا بلدهم اقليم كردستان الجميل والخلاب الآمن. ولكن يبدو أنهم استملحوا دعة الحياة في الدول الغربية على الحياة العراقية. فلم تعد بغداد بغداداً بعض أن انفجرت القنبلة الدينية الاجتماعية، وارتدت أغلب السيدات العراقيات العباءات السوداء والحجاب الذي ازدادت نسبته في العراق بعد التحرير، نتيجة لطغيان الشارع الديني. وكأن العراق تخلص من الطغيان السياسي لكي يقع في الطغيان الديني المتعصب والمتشدد الذي حول اجزاء من العراق الى دولة طالبان أخرى، بحيث لم يعد أحد قادراً على الجلوس في مقهى أو في مطعم في شارع أبي نواس ببغداد، يأكل السمك quot;المسقوفquot;، ويشرب، ويغني الموال العراقي، والمقام العراقي، ويشاهد مختلف زفات الأعراس العراقية، وعروض الأزياء، كما فعلنا نحن أمام نافورة فندق الشيراتون في اربيل، وكأننا في عراق آخر.

-4-
طبعاً، أنا لا أدعو كافة العراقيين في الشتات الى العودة الى اقليم كردستان العراق، فهذا الاقليم - في ظني ndash; بامكاناته السكنية والصحية والتعليمية الآن، لا يحتمل كل هذا الكم الكبير من العراقيين في الشتات، كما أن لبعض العراقيين في الشتات ارتباطات ومصالح. اضافة الى أن نظام الحياة العام المريح في الغرب خاصة، قد عوّد العراقيين على طراز معين من العيش، من الصعب أن يلقوه الآن في اقليم كردستان. ولكن العراقيين الذين يعيشون في الجوار العربي وفي مصر، سوف يلقون في بلدهم كردستان العراق راحة واطمئناناً وأماناً أكثر مما يلاقونه في دول الجوار التي بدأت تجأر بالشكوى مما سببه العراقيون من ارتفاع اسعار العقار والمواد الاستهلاكية وزحمة الطرقات. في حين أن اقليم كردستان بمساحته الواسعة (80-85 ألف كم مربع) وبعدد سكانه الحاليين (5 و 3 مليون) وبطبيعته الخلابة، وبأمنه وأمانه، قادر على استيعاب ما لا يقل عن اثنين مليون من العراقيين في الشتات، وخاصة الذين يعيشون في دول الجوار تحت تهديد الترحيل، أو عدم تجديد الاقامة، أو المنع من دخول هذا البلد أو ذاك. وكأن المواطن العراقي الآن قد أصبح الآن طاعوناً، أو سُلاً، ينأى عنه الجميع، بعد أن كان سمناً وعسلاً يُلحس حتى اللحسة الأخيرة، من رأسه حتى أخمص قدميه.
السلام عليكم.