(( إن من الضروري لكل أمير أن يكسب صداقة شعبه، وإلا فإنه لا يجد أي ملجأ له في أوقات الشدة والضائقة))

نيقولا ماكيافيلي Machiavelli 1469-1530 سياسي إيطالي ولد في فلورنسا في أسرة عملت في مجال السياسة، توجه نحو الدرس والتحصيل في مجال القانون والأدب الإغريقي، أتاحت له مؤهلاته العمل في المجال السياسي، حيث تحصل على منصب أمين عام تنظيم العلاقات بين المدن الخاضعة لسلطة فلورنسا، وعضوية لجنة العشرة المسؤولة عن الشؤون العسكرية والعلاقات الدبلوماسية، جرت عليه آراؤه السياسية الليبرالية المزيد من الضغوط، لا سيما بعد وصول القوى المحافظة للسلطة، مما حدا به أن يتجه لاعتزال الحياة السياسية والإقامة في الريف.
مثلت آراؤه السياسية صدمة للوسط الفكري، حيث قدم للعالم مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، والذي قام على تمثلات الفصل بين السياسة والأخلاق، مما شكل تصورا مسبقا عن توجهات ورؤى هذا الرجل والذي راح يوصم بالسلبية وسوء الطوية. وعلى الرغم من كتابته للمزيد من النتاجات العلمية والتاريخية إلا أن شهرة كتابه(( الأمير)) غطت على مجمل نتاجه الفكري الآخر، والذي تمثل في كتب ( فن الحرب، المباحثات، تاريخ فلورنسا). اكتسب كتاب الأمير أهمية استثنائية في تاريخ الفكر السياسي العالمي لما تضمنه من آراء جريئة وصادمة.

المدركات الذاتية
يقدم ماكيافيلي كتابه إلى لورنزو الذي يدعوه بالعظيم نجل بيارو دي مديشي، مشيرا إلى جملة من المبررات والأهداف،يضع فيها:
1.دلالة الولاء لصالح الأمير.
2.تقديم خلاصة معرفته بالسياسة.
3.التوكيد على عنصر الخبرة والتجربة الطويلة المباشرة.
4.التركيز على التاريخ باعتبار البحث عن العضة والدرس.

أما المنهجية التي يقترحها ماكيافيلي، فإنها تقوم على الآتي:
1.البحث التاريخي العميق في جلائل الأعمال التي اختطها عظماء التاريخ، سعيا لبلوغ خلاصات ونتائج يمكن الإفادة منها في التجربة السياسية المباشرة.
2.التركيز على اللغة المباشرة الخالية من المحسنات والجمل الطويلة المتداخلة، فهي محاولة لبلوغ الحقيقة، بأيسر السبل وأسهلها، من دون تركيب أو تعقيد.
3.الاعتراف الصريح بأن الكتاب يشتمل على نصائح مقدمة الأمراء، ومن هذا لم يغب عليه الإلفات بأن هذا الأمر ليس من باب الغرور، بقدر ما يقوم على الولاء وتقديم الخبرة والمعرفة.
4.الربط الصارم في العلاقة القائمة بين الأمير والرعية،فالسياسة لا يمكن لها أن تتبلور السمات الرئيسة فيها ما لم تقم على حالة التفاعل بين الطرفين.
ومن واقع الظرف التاريخي الذي أحاط بالمؤلف، فإن رؤاه وتصوراته حول أشكال الحكم، تبقى تدور في الشكل الجمهوري والذي يتخذ نوعا واحدا، والشكل الملكي الذي يعمد إلى التفصيل فيه، من حيث الوراثة، أو المملكة الناشئة حديثا، أو الممالك الملحق بحكم ملكي أكبر نفوذا وقوة سياسية. أما بالنسبة للحفاظ على الملك فإن التركيز يقوم على الملكيات الوراثية تلك التي تكتسب طابع القوة والثبات مقارنة بالملكيات الناشئة حديثا. هذا بحساب أن الحكم الوراثي يشكل عاملا داعما لاستمرار الحكم بإزاء توجهات الرعية،تلك التي تسعى نحو التكيف ومضمون الحكم واستمراريته، والشرعية هنا تبقى بمثابة الحصن الحامي للحكم، في حالة توفر التزام الحاكم بالرشاد والحكمة والبعد عن استفزاز الرعية، والعمل على كسب حبهم سعيا للخلاص من حال التبدل الذي يطرأ على الحكم، فالتبدل يفتح الطريق إلى التبدل الذي لا ينقطع.

أسباب الاضطراب
تعكس طبيعة الدولة المختلطة، إلى بروز حالة الاضطراب، فالتبدل والتغيير في الرأس السلطة يفتح الطريق نحو توسيع أفق الرغبة في الحصول على الاستقرار وتعديل الأوضاع العامة، لكن الاصطدام بالواقع يفسح الطريق أمام ثورة الرعية بحساب المقارنة المباشرة بين السيء والأسوأ. والتمييز هنا يتم عند مجال تحديد مجال القوة، تلك التي تضيع أهميتها في حال غياب تعاطف السكان معها، والأمر دائما يقوم على حالة المنافع المتوقعة من الحكم الجديد، أما خيبة الأمل فإنها تكون بمثابة المثير والدافع الأبرز لإثارة المشكلات غير المتوقعة.
قد لا يتوقف الأمر عند مجال التبدل المباشر في نظام الحكم على صعيد تغير الحاكم. بل قد تبرز الأحداث عن بروز نموذج الاتحاد، والذي يتجلى من خلال فعل الضم والإلحاق من قبل دولة أقوى على أخرى أضعف. حيث تكون الخطوة الأهم في هذا الفعل وقد استند إلى أهمية القضاء على الأسرة الحاكمة السابقة للدولة التي تم ضمها، مما يعكس حالة من السكون والترقب من قبل السكان، وتبقى مهمة الأمير الجديد تقوم على أهمية إصدار قوانين جديدة في الإدارة وتنظيم الضرائب، بما يتناسب و الدولة الأم التي تمكنت من فرض سيطرتها، بالإضافة إلى أهمية نقل مقر حكمه إلى الأرض الجديدة في سبيل أن يكون قريبا من الأحداث المفاجئة والاضطرابات التي من الممكن أن تحدث، ومعالجتها بالسرعة الممكنة. وكل هذا لا يمكن أن يتم دون الاستناد إلى استحداث مستعمرات، يتم لها استجلاب جالية خاصة، تكون بمثابة القوة المدنية الساعية إلى بث فكرة الخنوع والخضوع لصالح الحاكم الجديد، والتذكير بقوته وسلطانه. حتى يخلص المؤلف إلى فكرة مفادها (( الاحتفاظ بالحاميات بدل الجاليات يكلف الأمير نفقات أكبر تستنزف جميع موارد الدولة )) ص 63.
تبقى سياسة المحتل حاضرة في فكر ماكيافيلي، حيث الإشارة المباشرة إلى أن الضعفاء من أهل البلاد المحتلة سيقفون إلى جانبه، باعتبار حالة العداء للقوى التي كانت تتحكم بالبلاد، ومن هذا فإن التركيز يبقى على أهمية انتقاء صغار الوجهاء، والذين سيبقون في مدار من الضعف، حيث الحالة التي لا تسمح لهم بالتفوق وتشكيل تهديدا للحكم الجديد، مما يتيح للمحتل من تعزيز قوته وسيطرته ونفوذه. إنها السياسة التي اختطها الرومان في تعاملهم مع البلاد المفتوحة، حيث ثالوث ؛ المستعمرات والجاليات والاعتماد على صغار الوجهاء.
الدولة والشر المحدق بها، تلك الفكرة التي تستدعي حضورية المعرفة، سعيا إلى تحديد الشر في سبيل تلافيه، إنها المشاركة بين المتابعة الدقيقة والرقابة الحصيفة والوعي التام بإمكانات البلاد، والتحسب لكل طارئ، مما يولد حسا تنبؤيا، يكون موجهه نحو محاصرة المشكلات والعمل على معالجتها، قبل أن تتفاقم وتتحول إلى إشكال يعسر التعامل معه. إنها المعرفة المتطابقة مع وعي التجربة، فالحرب على سبيل المثال حث لا يمكن تجنبه، لكنه قابل للتأجيل، فيما يكون السؤال حول هذا التأجيل، وفائدته، في أي طرف يصب؟تبرز هنا حدة التكثيف للطبيعة النفسية والغريزة البشرية في الوصف الذي يعتمده المؤلف، حيث التركيز على ثنائية القادر والعاجز، وعقد المقارنة المباشرة في الثناء الذي يحظى به القادر والناجح واللوم والتقريع الذي يناله المخذول والخسران. وفي هذا فإنه يستدعي نماذج التاريخ الحاضرة بوصفها أدلة لا يمكن الخروج من سطوتها، إنها المحاولة الأولية نحو ترسيم معالم تاريخ عالمي عبر بوابة معياري الفشل والنجاح، هذا الذي يبقى متسيدا على فكر ماكيافيلي. بل أن تحديد معالم النماذج في سهولة الاحتلال وصعوبته بالنسبة للبعض من الكيانات السياسية المعاصرة له، تبقى حاضرة في تمثلاته المباشرة للنموذج العثماني على سبيل المثال، محددا عسر مهمة احتلالها عبر تمييز معالم القوى السياسية والاجتماعية السائدة، بل أن خارطة العلاقات تبرز لديه بوضوح ملفت، استنادا إلى الآتي:
1.قوة المكانة التي يتحلى بها أمراء البيت العثماني.
2.صعوبة قيام ثورة شعبية، باعتبار أن طبيعة العلاقة القائمة بين السلطان والرعية تقوم على تمثيل يقوم على حد زعم المؤلف بـ ( العبودية).
3.استحالة الاعتماد على القوى الخاضعة في قيادة أمر التبديل والتغيير.
4.يبقى الأمل معقودا على أسرة السلطان العثماني في التغيير، لكن القضاء على المتآمرين يبقى أمرا ممكنا وميسرا بحكم الرقابة والسيطرة المباشرة.
بالمقابل يتم تقديم النموذج الفرنسي بوصفه قابلا وبيسر للاحتلال، وبناء على المعطيات التي يطرحها وفق النسق التالي:
1.إمكانية التواصل مع أحد النبلاء، ما يمثلونه من مركز قوة في المملكة الفرنسية.
2.حالة الرفض والتنافس القائم لدى النبلاء والطموحات الشخصية في سبيل الوصول على قمة هرم السلطة.
3.تعدد مراكز القوى، يمكن أن تكون بمثابة المفتاح، للتفاهم مع القوى الأجنبية، وتسهيل مهمة التغيير، بغية الانفتاح على تفاهمات لاحقة.
4.يبقى أمر السيطرة على نموذج كالفرنسي، يقوم على تعددية مراكز القوى، صعبا ومريرا، إذ تبقى القيادات القادرة على تأجيج الثورات قائمة بشكل لا يعرف الانقطاع أو التوقف.

السبيل إلى السيطرة
مفهوم السلطة لدى ماكيافيلي، يبقى يدور في فلك الهيمنة المباشرة على الرغم من الخيارات التي يقدمها، وبالقدر الذي يحاول فيه التملص وبدهاء ملفت حول المواجهات المحتملة بين الأمير ورعيته، فإن الحسبة المنهجية، تكون وقد اتخذت مسارها الخارجي، حيث يتم اختيار نموذج خارجي قوامه السيطرة على شعب أو بلد آخر، وما على الأمير القيام به. واضعا خياراته الثلاثة، والتي لا تخرج عن قوام، تجريد الآخر من كل قوة محتملة، أو السعي إلى إقامة الأمير في مناطق التوتر بغية المباشرة بالعلاج السريع للمشكلات الناشبة، أو الاكتفاء بأخذ الجزية باعتبار دلالة الولاء دون المس بالقوانين والأعراف السائدة. ولكن تبقى مسألة الضمانات التي يبحث عنها السياسي، في سبيل السعي إلى فرض السلطان والهيمنة، ليكون التوجه نحو التبشير بالسيطرة استنادا إلى إرساء منطق المواجهة المباشرة بين طرفي العلاقة، ( اهدم أو تكون أنت عرضة للتهديم) ص 77، فن يتعرض للاحتلال لابد أن يسعى لنيل استقلاله وحريته باعتبار استدعاء الأعراف والتقاليد والمفاهيم الأساسية السائدة. وإذا أراد الأمير تسهيل مهمة الهيمنة فإن السبيل الأهم في هذا يمر عبر بوابة(( مزقهم شر ممزق، وفرقهم في كل صقيع)) فالفرقة والتقسيم ستكون بمثابة الوسيلة التي تضعف إرادة الشعب المحتل في اختيار الزعامة القادرة على قيادة التحدي، ولا يغيب عن خاطر المؤلف التوقف عند النموذج الجمهوري والذي لا يتردد عن وصفه بالحيوي والتمسك بالحرية، وعليه فإن نصيحته التي يقدمها لمواجهتها تقوم على خيارين لا ثالث فيها، حيث التدمير التام أو الإقامة المباشرة فيها وإحكام السيطرة والمراقبة عليها.

مشاكل النظام الجديد
بين التنظير والتنفيذ يتبدى عنصر الفشل بثقله على الواقع، وهذا ما يواجه المصلح صاحب الرؤية الجديدة، تلك العلاقة المتداخلة بين أصحاب المصالح القديمة، والذين يمثلون نذر الخطر الداهم، وخور العزيمة والتردد الذي يغلب على الأنصار والأتباع الجدد، والخوف من الأعداء، والمبرر الذي يستند إليه المؤلف يقوم على فرضية( شكيّة الجنس البشري في كل ما هو جديد، إذ أن الإنسان لا يؤمن بالجديد، إلا بعد أن يختبره اختبارا علميا وحقيقيا) ص 82. إنها العلاقة التي يترسمها حول العلاقة بين النموذج الإصلاحي الجديد والاعتماد على القوة سعيا إلى النجاح ونأيا عن الفشل، فالمصلح يتعرض إلى الهجوم من قبل الرافضين والأعداء، فيما يكون أنصاره في أشد حالات الخور والضعف، ومن هذا يكون عرضة لمداهمة الخطر. وما بين الرجاء والقوة تبقى القدرة على تنفيذ الإصلاح رهنا بإرادة القوة, (( وهكذا أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلحين قد احتلوا وانتصروا، بينما فشل الأنبياء غير المسلحين)) ص 82. إنه المبحث الساعي نحو تحليل الذهنية المحركة للمجتمعات والشعوب، حيث الاختلاف القائم، وطريقة السعي نحو طرح الأفكار وإقناع الشعوب بها. لكن هذا الاقتناع يبقى في غاية العسر، ومن هذا يتبدى مبدأ القسر والفرض والإرغام، في سبيل الحصول على احترام الناس للأفكار الجديدة.

النظام الممنوح من الآخرين
فرصة الوصول إلى سدة الحكم، قد تتوفر لصالح أحد أفراد الرعية من عامة الشعب، لكن هذه الفرصة تبقى مرهونة بطبيعة التحديات الكبيرة التي يواجهها الحاكم الجديد. ولعل المفارقة تكمن في ظهور المشكلات لا في بداية الحكم، بقدر ما تظهر عندما يتم ثبات الحكم وظهور ملامحه، لتظهر الاعتراضات والتي تمس دائما شرعية الحاكم الجديد. النوع الآخر من الأنظمة يقوم على بروز حالة المساعدة من الآخرين، حين تقدم دولة إلى إقامة دولة جديدة عن طريق التحالفات السياسية، أو عن طريق شراء العلاقة بالمال. ذلك النموذج الذي يقى يعاني وبشكل دائم من عدم الاستقرار والفوضى والاضطراب، هذا بحساب انعدام القدرة في المحافظة على السلطة، باعتبار أن الوضع الذي باتوا فيه، لا يؤهلهم لمواجهة التحديات، بحساب ((النقص الفاضح في معرفة طريقة الحكم)) تلك المعرفة التي يجعل منها ماكيافيلي بمثابة المفتاح الأصل في العلاقة الساعية للمحافظة على السلطة بالنسبة للنظام الجديد. ، ليضيف إليها عوامل لاحقة من نوع؛ الحاجة إلى قوات داعمة تمتاز بالوفاء والإخلاص، لكن طبيعة النشأة السريعة، تجعل منها عرضة للأخطار واحتمال النهاية السريعة.

الوضيع حين يصل إلى سدة الحكم
يربط ماكيافيلي بين السلطة و الأصول الأخلاقية وليس الطبقية للحاكم، ليعمد إلى تحميلها المزيد من الشرور والمخاطر، مستندا في هذا إلى الشواهد التاريخية التي يستحضرها بمثابة الدليل على صدق مقولته. إنه الترصد للشر والقسوة البالغة التي يتميز بها الرجل الطموح في سبيل بلوغه أعلى المراتب السياسية. ، فيما يكون الصعود وكأنه الغاية القصوى والهدف الأسمى في نظر الطامح، حتى وإن مارس العنف البالغ، موجها جل قواه نحو الإفلات من معونة الآخرين، وساعيا بكل ما يستطيع للخلاص من تبعات الدستور، والذي يمثل قيدا يجب الإفلات منه، إنه الغدر الذي يميز مجمل الفعاليات المصاحبة للعهود والوعود، بل وحتى المناقشات مع الأطراف المقابلة. وهي الخطى الطامحة من دون التفكير بالعواقب، وهكذا يكون النزاع الداخلي سمة لحكم الوضيع، الساعي نحو تحقيق الانتصار وبأي ثمن. العلاقة القائمة بين الوضيع والسلطة بحسب ماكيافيلي، تقوم على التناقض الفاضح الذي يستشعره الوضيع، حتى لتقض عليه مضجعه، ومن هذا فإن توجهاته القصوى تقوم على تكريس روح المغامرة، والتطلع نحو خلق المشكلات ولا ضير من اصطناع التهديدات والمخاطر، الوضيع هنا يتم تلخيص صفاته الرئيسة في ؛ قتل مواطنيه، خيانة أصدقائه، عدم احترامه للعهود والمواثيق، عدم تمسكه بدين أو عقيدة. تلك السمات قد توصل صاحبها إلى ما يروم ولكنها تبقى بمثابة اللعنة (( قد يصل المرء إلى السلطان، ولكنه لن يصل إلى المجد)) ص 98. تبرز روح الإدانة من قبل ماكيافيلي لنموذج الوضيع، بل أن الصورة النمطية التي شكلها جمهور المتلقين حول ماكيافيلي بوصفه مفكرا براغماتيا لايقيم للأخلاق وزنا، سرعان ما تتهاوى، بفعل روح العاطفة الملفتة للنظر، التي يقوم عليها المبحث المتعلق بالوضيع والسلطة.

الحكم المدني
الوصول إلى سدة الحكم بوصفها تجربة تقوم على التنوع، حيث يتم ترصد المزيد من الأنواع، فيما تكون أساليب الوصول إليها لا تعتمد فقط على القدرة والكفاءة بقدر ما يحتل المكر مساحته الواسعة في طريقة الوصول. لكن الداعم والراعي يقوم على طرفين، الأول ويتمثل في النبلاء الذين يعمدون إلى اختيار أحدهم وإيصاله إلى منصب الإمارة، في سبيل مواجهة قوة الشعب وضغوطه، إنها المحاولة الساعية لفرض النفوذ والهيمنة، داخل المصالح الواحدة، لكن هذا النوع من الإمارة يبقى رهنا بإرادة النبلاء، الذين يشعرون بفضلهم على الأمير، ومن هنا يتبدى عنصر العجز لديه، في عملية التوفيق، بين الرغبات والغايات التي تعن على مجموع النبلاء، حتى يكون احتفاظه بسلطته في غاية العسر والصعوبة. أما بالنسبة للأمير الذي يرقى إلى الإمارة بمساعدة الشعب، فإن الغاية الأصل فيها تقوم على محاولة الشعب للإفلات من هيمنة وطغيان النبلاء أصحاب المصالح الكبرى. إنها الرغبة بالحصول على الحماية عن طريق السلطة من البطش وتنامي قوة المتنفذين الساعين إلى الاستغلال، وهكذا يكون الأمير المنتخب من قبل الشعب في موقع أقوى وأكثر رصانة، حيث تخف المنافسة، فيما تكون مساحة العدالة أوسع في سبيل الحصول على رضا الشعب، ومن هذا تكون الخلاصة التي يضعها المؤلف؛ (( إن هدف الشعب أنبل من أهداف النبلاء، فهؤلاء يريدون أن يظلموا، وأولئك يريدون مجرد وقاية أنفسهم من ظلم الآخرين)) ص 104.

القانون والقوة
(( القوانين توجد حيث تتوفر الأسلحة القوية)) ص 117. القوة التي يترصدها المؤلف تقوم على قدرة الأمير في التوفيق بين قواعد الدفاع والهجوم بصورة متوازنة، أما في حال فقدان هذا التوازن فإن المآل لن يكون سوى الخراب والدمار. ويبقى السؤال عن الحفز والتحريك، فمن ذا الذي يؤثر بمن ؟ ومن يكون له التوجيه والقدرة على الحسم؟، فالتجارب التاريخية تفصح عن توجه البعض من الأمراء إلى إعداد الجيش الخاص والذي يكون قوامه من المرتزقة، تلك القوة التي يقوم ماكيافيلي بتعداد مساؤها، ما بين الخطورة، وتهديد الاستقرار، والانقسام، والطموحات البعيدة عن النظام، والنكث بالمواثيق والعهود، وادعاء الشجاعة في السلم والجبن في الحروب، عدم مراعاة دين أو حرمات، وفقدان الولاء، والعبء الثقيل الذي تمثله على الأمير. القوة التي يترصدها المؤلف تبقى مرهونة بكفاءة الأمير وقدرته على المبادرة، فالقيادة لا بد أن تكون بيد الأمير، وعلى الجمهوريات اختيار قادتها من بين أبنائها لا من الغرباء، لكن الأهم في كل هذا يبقى مقترنا بتحديد صلاحيات القائد من خلال القانون. (( فتجارب التاريخ تشير إلى أن الأمير المسلح هو القادر على تحقيق التقدم)). ص 120.

الاستعانة بالأجنبي
لا يختلف وضع جيش المرتزقة عن الاستعانة بالقوات الأجنبية في سبيل تحقيق البعض من الأهداف، فالخطر الداهم يبقى دائم الحضور(( إذا خسرت فأنت المهزوم، وإذا انتصرت، فقد غدوت أسيرها)) ص 125. هما الخياران اللذان لا يستبان منهما سوى المرارة والخذلان باعتبار الخضوع لسيطرة الأجنبي. وتبقى مسألة الاستعانة بالأجنبي تقوم على سيطرة الأجنبي، تلك السيطرة التي تكون عواقبها أشد خطورة من تداعيات الاعتماد على المرتزقة، هذا بحساب اتحاد تلك القوات وولائها لصالح قوة أخرى، مما يعني الدمار العام والشامل. والأمير الحصيف الذي يسعى إلى التروي والتعقل عليه أن يرضى بخسارة المعركة، بدلا من الحصول على انتصار يحققه له الآخرون، الذي يطالبون بحقوق وامتيازات، تجعله يتحسر أيام القوة السابقة.

بين المديح واللوم
في المسعى الذي يميز تطلعات الإنسان نحو ارتباطه بالصفات الحميدة، تبرز حالة من التداخل في التوفيق بين الشجاعة الكرم والفروسية والنيل والسماحة والإيثار، ومحاولة البعد عن صفات الشح والمكر والبخل والأنانية، وبين المديح واللوم يبقى الأمير يعيش حالة السعي نحو التحلي بالفضائل، لكن الواقع يبقى يفصح عن الطبيعة الإنسانية، ومن هذا تتبدى أهمية مسعى الأمير إلى البعد عن الفضائح، تلك التي تكون بمثابة الوسيلة التي يوجهها المناوئون والمعارضون لحكمه، في سبيل التشهير به، والنيل منه. فالكمال أمر عسير بلوغه كونه يتقاطع والطبيعة الإنسانية، وعلى الأمير أن يعي بما يتطابق وملكاته وامكاناته، التي تؤهله للإمارة الناجحة والمتماسكة. فالسخاء على سبيل المثال قد ييتحول من فضيلة إلى رذبلة في حال تمسك الأمير بهذه الصفة، فقد يعمد إلى التضحية بالمزيد من الفضائل في سبيل تعميق هذه الدالة، والتي قد تحوله إلى فارض للضرائب الثقيلة، وربما يقوم بالإبتزاز، أو قد يقدم خدماته لصالح فئة صغيرة على حساب الأغلبية، مما ينجم عنه تصاعد الاعتراض من قبل الشعب، وتحول عاطفتهم نحوه إلى كراهية. والبعد عن التوصيفات الجاهزة، تأتي من خلال العمل والوقت، بل أن الأمير يستطيع القيام بالمزيد من المشاريع من دون أن يعمد إلى إثقال شعبه بالضرائب. فمن ينفق من أموال الآخرين يكون في منأى عن المخاطر، في حين أن الإنفاق المباشر من الأموال الخاصة قد تجعل من الأمير عرضة للخطر(( ومن الأفضل أن تكون بخيلا، فهذا يعرضك للتحقير دون الكراهية، على أن تكون مرغما أن تصبح لصا سلابا، مما يعرضك للتحقير والكراهية معا)) ص 141، إنها الإشارة إلى البحث عن أخف الأضرار، من خلال التمعن العميق في العلاقات التي يفرزها الواقع، من دون التطلع إلى ركوب الصورة المثالية، والتي قد تكلف الأمير حكمه.

بين الرحمة والقسوة
لا يتردد ماكيافيلي من الوقوف إلى جانب الرحمة في سياسة الأمير، لكنه يستدرك حول أهمية استعمالها، فالقسوة تأتي بالنظام والوحدة انطلاقا من القراءة التاريخية لمجمل التجارب السياسية التي يستقرؤها. بل أن المسعى نحو الوحدة والولاء تكون فيها القسوة في أشد الحالات رأفة إذا ما قورنت بالرقة والتردد، تلك التي ينجم عنها الفوضى والاضطراب وسفك الدماء.
السؤال المركزي هنا يقوم على (( إذا كان من الأفضل أن تكون محبوبا، أكثر من أن تكون مهابا)) ص 143. لتكون الإشارة إلى أهمية تفضيل الخوف على المحبة، هذا بحساب حالة التقلب التي تميز النفس البشرية، فالناس تحاول تجنب الخطر، والأمير الذي يركن إلى وعود الناس يعرض مستقبله السياسي إلى الخطر، فالمتزلفون إلى الحكم لا يتورعون عن النكث بالعهود إذا ما أحسوا بالخطر الذي يداهم الأمير، والانفضاض من حوله، بل أن الإساءة تكون سهلة من قبل الناس تجاه الأمير المحبوب، في حين يتردد الناس ألف مرة في توجيه الإساءة نحو الأمير الذي يخافون.
في وسع الأمير تجنب الكراهية، حين يتعامل مع الرعية بما ينسجم ومصالحهم، ودون التعرض لما يملكون(( من السهل على الإنسان أن ينسى وفاة والده، ولكن من العسير أن ينسى ضياع إرثه وممتلكاته)) ص 145. والطريق نحو وحدة الإمارة وتنظيمها وقدرتها على أداء الواجب، إنما يمر عبر بوابة الصرامة التي يتحلى بها الأمير. (( فالناس يحبون تبعا لأهوائهم، ويخافون وفقا لأهواء الأمير)) ص 146.