قدّم المتصوفة العرب والمسلمين اسئلةً وصياغاتٍ فكرية تثويرية في عمق النص التراثي. وبحثوا في الابعاد المضيئة لعلاقة المعرفة بالايمان، وعلاقة الذات الانسانية بمفهوم التوحيد، وعلاقة قوى الطبيعة بالكون وبذات الانسان، برؤيةٍ فلسفية ريادية استندت الى النص القرآني كنواة لتلك الرؤية المعرفية، وسعت الى منح العقل البشري اقصى مساحات النور والابداع والتحديث. وكوّنوا عبر اكثر من الف عام ارثاً فكرياً هائلاً، ولكن قد تمّ اهماله لحساب سيادة الموروث السلفي التقليدي السكوني، كما تمّ على الصعيد الايدلوجي اغفال وتهميش النواتات الاولى للصراع الفكري-السياسي-الاجتماعي، والتي كان بالامكان تطويرها والبناء عليها لانتاج اشكالٍ فكرية اكثر تفاعلاً مع البنية الجديدة للمجتمع من كافة النواحي. ونعني هنا على سبيل المثال فقط انتفاضة فقراء المسلمين وطروحات ابي ذر الغفاري عن العدالة والقانون والسلطة في عصر المؤسس الاول لشكل وفكرة الدولة الاموية الخليفة الثالث عثمان بن عفان. دون ان ننسى البوادر الاولية للنشاط الفكري الفلسفي لمنهج الشيعة وكذلك الخوارج، خصوصا فيما يتعلق بمسألة ربط الايمان بالعمل. وسعي المعتزلة الى تمييز منهج فكري مستقل ومتكامل، مروراً بالاسئلة الشكيّة الكبيرة التي اطلقها الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز حول مفهوم السلطة وحقوق العامة وشئون بيت مال المسلمين وسواها من التساؤلات التي قُطع بسببها لسان داعية الخليفة غيلان الدمشقي.
اصل التصوّف نظام تديّني يحفز النشاط الذهني لابتكار انماط جديدة سندها النص الديني، وسمتها التحليل العقلي الفلسفي المتعمق لانتاج بدائل حضارية انسانية تؤثر في مستويات تطور المجتمع العربي الاسلامي. فمارسوا الدور النقدي الفاعل داخل النص وفي عمق ذات الانسان وفي حركة المجتمع. وكان لهم الدور الاكبر في تبيان العلاقة الاشكالية بين الدين والدولة، وعلاقة السلطة بالمجتمع. كما اسّسوا لاول مرة علم الجمال العربي الاسلامي، برؤيةٍ انسانية شاملة، مثّلت ارقى الفنون الحسيّة والتعبيرية الجمالية. فحدث بسبب نشاطاتهم تلك ذلك التاثير العميق في مواضيع اللغة ومفهوم الشكل والمضمون، والمتحرر والساكن، والمألوف والجوّاني والماورائي...الخ. ولاول مرة ايضاً اصبحت السمة الكونية من صفات القصيدة الاسلامية الصوفية، وصفة الشاعركذلك، بعد ان كان ملزماً بشكلية اللغة ونفعية الاغراض وقبليّة المسعى في الشعر العربي.
المتصوفة منحوا اللغة التخيلية هويتها المشروعة في نهر القلق الذاتي، وبعدها المعرفي اللامحدود في بحر التساؤلات والبحث والمعاناة، وهي محاولة انسانية فذة لادراك المطلق ودلالته، لوصف ما لايوصف، وقول ما لايُقال، وفعل ما لايُفعل. كما استحدثوا مفردات الرمزي والايحائي والكامن في عمق وظيفة اللاوعي، واستخدموه في بحوثهم وكتاباتهم.
واعتبروا ان اللغة والفعل من مكوّنات وبنية النفس البشرية. وبهذه الطاقة التأملية سعوا الى رسم بنية جديدة للخطاب الاجتماعي-الثقافي للعرب وللمسلمين، تلتقي وتتقاطع فيه المستويات الفلسفية والكلامية في كل الحضارات والاديان والعلوم الانسانية على وجه البسيطة.
رأى المتصوفة أن [ لافاعل في كل شئٍ الا الله ]، وهو الظاهر والباطن، الاول والآخر. وان الانسان خليفته على الارض. هذه المعرفة اربكت الولاة، فاعتبروها تهديداً صريحاً لنفوذهم وسلطتهم. هنا بدأ اصحاب الامر بمعيّة فقهائهم وازلام قصورهم حملة اعلان العداء والتكفير والتأثيم والزندقة لكل من يعمل بهذا المنطق او يتأثر به.
هذا المنطق عمل على النص الاسلامي بمعرفته الاجتهادية، وقدّم قراءاتٍ متعمقة لظاهرة تمجيد العقل كما هي في القرآن الكريم اصلاً قبل كل شئ، واسندوها بالكثير من احاديث الرسول الكريم في كل مايتعلق بمسألة تأمّل مظاهر الكون واسرار الخلق. واعتبروا القلب والعقل والنفس والروح مراكز لنور الايمان، وبواعث للفكر والابداع والتطور. واشاروا الى الآيات القرآنية التي تندّد بمن لهم قلوب [عقول ] ولايفقهون بها، وهم بذلك كلانعام، لا بل اضلّ سبيلا. كما ورد في الاية 179 من سورة الاعراف : lt;lt; لهم قلوب لايفقهون بها ولهم اعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالانعام بل هم اضلّ أولئك هم الغفلون gt;gt;. وقوله في الآية 22 من سورة الأنفال : lt;lt; ان شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لايعقلون gt;gt;، وlt;lt; وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون gt;gt; في الآية الحادية والعشرين من سورة الحشر.
بمعنى ان اصل المعرفة في الاسلام مرتبطة بالعقل والتحليل وتمييزالمعاني والتفكيير والتأمّل. هذه الصناعة الفكرية الحضارية رفضها الولاة، ولاة العروش واصحاب امتيازات السلطة وازلامهم.
فمارس اولاً ابو حامد الغزالي ارهابه الفكري ضد كل المشتغلين بالفلسفة والانشطة الذهنية، وكان للغزالي تاثيرا واسعا في الرأي الديني العام، والّف في هذا الصدد كتابه الشهير [ تهافت الفلاسفة ]، الذي نشر الرعب والترويع لاجيالٍ عديدة بين مفكّري المجتمع العربي والاسلامي، لغاية ظهور فكر الفيلسوف الكبير ابن رشد، والذي ردّ على افكار الغزالي في كتابه النقدي المعروف [ تهافت التهافت ]. لكن الولاة ايضا حاكموا ابن رشد بسبب افكاره الفلسفية، وكانت عقوبته النفي، ولم يرفع عنه العقاب حتى قبيل موته بفترة وجيزة من عام 1198، العام الذي فقدنا به فيلسوفاً كونياً عظيماً. حتى تكللت المساعي التأثيمية والمواقف التعصبية السلفية بظهور فكر ابن تيمية الحرّاني، الذي رمى الفلاسفة والمفكرين والمتصوفة والعاملين بالمنطق باحكام الزندقة والكفر والالحاد والمطاردة والنفي والاعدام، كما حرّم تداول افكارهم وكتبهم وبحوثهم، وما زال هذا التوجه سائداً حتى يوم الناس هذا.

[email protected]