ليس فقط الأحداث الدامية التي أدمت القلب ضمن دائرة قرى ومدن الأيزيدية ما يثير الأنتباه، وليس فقط البيان الذي اصدره من يسمي نفسه والي الموصل في دولة العراق ألإسلامية الذي يذكر فيه إن كل الأيزيدية سواء حربا لله ورسوله وللمؤمنين.
ما يثير الانتباه المنافذ الرخوة التي تسللت منها الجماعات الأرهابية والمتطرفة للنيل من الوضع الأمني في كوردستان وما حولها، ومامن شك إن أكثر من يتم استهدافه ضمن مجال الأرهاب والتطرف هم أتباع الديانات غير الأسلامية في العراق.
فقد جرت حملات ضد الصابئة المندائيين تمت بصمت مطبق، وبأستنكار خجول تم ذبح وقتل العشرات منهم، وتم تهجير المئات، ولاذت عوائل اخرى في حماية شعب كوردستان، دون أي رادع معقول أو يتناسب مع خطورة الهجمة عليهم، ودارت الدائرة على المسيحيين في العراق، فصاروا بين مهاجر ومهجر، وبين قتيل ومستباح، وبين مجبر على اعتناق الأسلام أو بين من يعطي الجزية ليضمن حياته وما بقي له من العمر في العراق، غير أن الأيزيدية ولظروف تجمعهم في قرى ومدن تقع ضمن شريط أقليم كوردستان أو تحادده، لم يطل الضرر سوى العمال الفقراء والطلاب الدارسين في الجامعات والمعاهد البعيدة عن اهاليهم، والذين اضطرتهم الظروف الى ترك دراستهم والأحتماء ببيوتهم دون إن يجدوا من يستمع لمحنتهم أو يعالج اوضاعهم، وهم يخسرون سنوات من اعمارهم و من تحصيلهم العلمي.
حين نصت المادة السادسة من القانون الاساسي الصادر في العام 1925 بناء على قرار المجلس التأسيسي العراقي على المساواة بين العراقيين بغض النظر عن قومياتهم أو اديانهم أو لغاتهم، فان النص يؤكد التطابق العملي لما كان يدور في الحياة العراقية، وحقا لم يشعر العراقي بتلك الفروق التي جاءت منسجمة من النص الدستوري، مع إن جمرات تحت الرماد موجودة داخل بوتقة العراق الجميل، ولكن المكانة العراقية والعمل الوطني العراقي كان يلغي كل الفوارق والحواجز التي يمكن إن تكون إمام مساواة العراقيين المختلفين في الدين.
ويمكن للمتابع للتاريخ العراقي الحديث إن يطالع تلك السماء البهية والتي اعطت للعراق، وساهمت في بناءه ورصف كيانه، من اليهود والمسيحيين والمندائيين والأيزيديين.
تلك هي الأديان التي تنتشر بين اهل العراق، والتي كانت وستبقى منسجمة أزليا ما بقي الإنسان في العراق، والتي هي جميعا دعوات للخير والمحبة والسلام والتآخي بين الناس، والتي هي جميعها تدعو لأن تحل المحبة والتفاهم والأنسجام بين البشر، مثلما تدعو جميعها لعبادة الله الواحد الأحد.
ومع إن الدساتير العراقية التي تسلسلت تباعا أكدت على مساواة العراقيين بغض النظر عن دياناتهم، الا إن الأيزيدية والمندائية وحدهما من لم يكن لهما أعتراف رسمي بالرغم من الوجود الفعلي والعملي في الحياة العراقية، وتلك المفارقة شكلت اغماض للعيون ومخالفة لحقيقة الكينونة العراقية، حيث منح القانون حقوقا للديانتين اليهودية والمسيحية أن يكون لها قانونها الخاص في المواد الشخصية، وحرم دون معنى أو منطق كلا الديانتين المندائية والأيزيدية من ذلك، وبقي الحال حتى حل زمان انتهت فيه الدكتاتورية، وصار الأمر إن يقم العراقيون بأصدار دستور يؤكد ليس فقط على المساواة بين العراقيين بصرف النظر عن دياناتهم، بل اورد ضمن الفقرة ( ثانيا ) من المادة الثانية ضمان كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والأيزديين والصابئة المندائيين.
وعلى هذا الأساس فقد وضع الدستور الغطاء والحماية القانونية الكاملة للفرد العراقي من غير المسلمين في ممارسه عقيدته وطقوسه، وأسباغ الحماية القانونية على تلك الديانات العراقية.
ولكن هل غير ذلك شيء إمام الممارسات المخالفة للدستور التي مورست من قبل إفراد وتجمعات وميلشيات متطرفة، تقتل ابناء تلك الديانات تارة، وتطالبهم بالرحيل عن بيوتهم تارة اخرى، وتهجرهم مرات، وتطالبهم بتغيير ديانتهم في مرات اخرى تحت ذرائع الأسلام دون إن تجد رادع أو من يطالب بتطبيق نصوص القانون التي اوردها الدستور بحق المجرمين أو القائمين بتلك الأفعال .
يتعرض اليوم المسيحيين والمندائيين والأيزيديين في العراق الى حملة بشعة وظالمة، ليس من باب حرص المتطرفين على أجبار ابناء تلك الديانات على الدخول جبرا في الاسلام، وانما بقصد اشاعة الخراب والتخريب والهلع والرعب في نفوس الناس، وما بيان من يطلق على نفسه لقب والي الموصل لدولة العراق الاسلامية الى ما يحدث في بقية مناطق العراق الا مثالا بسيطا، وما انتشر من شائعات وقصص بحق الأيزيدية الا مثالا آخر، فقد كانت تلك المجموعات المتطرفة تبحث عن منفذ أو جحر يمكن إن تنفذ من خلاله لتنشر التخريب والأرهاب في مساحات لم تتمكن من الوصول اليها قبل ذاك.
والجميع مستهدف من قبل الإرهاب دون استثناء، كما الجميع مستهدف من قبل المتطرفين، فكيف يمكن إن نفهم ما يجري تحت انظار السلطة، والمسيحي يرحل مع عياله هربا من الموت أو اجباره على تغيير الدين، والمندائي يترك حاله وماله ويفر بجلده الى كوردستان أو دول الله يستجير بها، والأيزيدي المذبوح دوما سيان إن كانت هناك تهمة ام لم تكن، واليهودي الذي الغي وجوده عمليا بالرغم من عراقيتة وأصالته التي سجلها له التاريخ.
تفيد آخر الأخبار الواردة من منطقة الدورة ببغداد، الى تزايد جرائم تهجير المسيحيين منها، وتهديدهم بالذبح إذا لم يدفعوا الجزية، أو يشهروا إسلامهم علنا في الجوامع، وذلك بالرغم من مناشدة رؤساء الكنائس المسيحية الحكومة العراقية وضع حد لهذه الجرائم.
وبحسب المعلومات تقوم الجماعات الأرهابية المسلحة التي تتخذ من الدين الأسلامي ستاراً لتنفيذ جرائمها قبل أيام 14 أجبار عائلة مسيحية في الدورة على ترك منازلها عنوة تحت تهديد السلاح، دون السماح لها بأخذ أي شيء معها سوى الملابس التي كان أفراد هذه العوائل يرتدونها.
فيما قامت مجاميع أرهابية أخرى بإجبار عدد آخر من هذه العوائل على ترك منازلها ومغادرة الدورة تحت التهديد بالقتل.
وتتمكن بعض هذه العوائل إيجاد أماكن سكن آمنة وقتية في بعض مناطق بغداد، غير أن الآخرين يتجهون إما الى أقليم كوردستان العراق، او السفر الى سوريا والأردن، في ظل أوضاع معيشية سيئة للغاية.
أوليس الله يقول في كتابه المجيد ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ))
فكيف يمكن لأحد إن يتعرض للمندائيين وهم ملح العراق ؟ كيف يمكن ليد إن تتعرض لهم بسوء وهم الذين افنوا اعمارهم من اجل خدمة العراق ومستقبله، وهم اهل السلام والمحبة والوداعة، وكيف يمكن إن يتم ترحيلهم وهروبهم دون إن يجدوا من يقف وقفه شجاعة بحق المتطرفين والأرهابيين من اعداء الأديان وأعداء الله !!
وأذ يتعرض الأيزيدية اليوم الى هجمة بشعة وتلتحق بالهجمات والمذابح التي سجلت في تاريخهم ، فان هذه الهجمة لاتطالهم فحسب، بل تبغي الى النفاذ الى الأمن الكوردستاني وخلق الشروخ بين ابناء هذا الشعب النبيل، وكما تحاول إن تجد لها أسباب تتعكز عليها لأحداث خلافات بينهم ، وبالتالي فأن تلك التجمعات الشريرة التي تقتل العامل اليزيدي والشرطي الفقير المدافع عن القانون، انما تريد الخراب لكل كوردستان والعراق، وبالتالي فأن أمر التصدي لها بحزم وبوحدة الموقف أمر بات ضروريا.
البيانات التي تصدرها التنظيمات الأرهابية لاتجد لها أثرا أو قيمة أزاء توحد المواقف وأزالة الخلافات، والهجمات الأرهابية والمتطرفة لن تجد لها أثرا أمام تكاتف الناس من المسيحيين والمندائيين والأيزيديين، وأن بقوا في الساحة وحدهم فان العديد من الاصوات الوطنية والمعتدلة تقف معهم وتدافع عنهم، وماهي الا فترة عصيبة من فترات العراق سنعبرها سوية ويعود العراق سليما معافى كما عهدناه، نتباهى بمسلميه ومسيحييه ومندائييه وأيزيدييه، وسنضمن حتما حقوق المساواة بين العراقيين بصرف النظر عن دياناتهم، ولا أكراه في الدين ولامجال لكل تلك الأصوات المبحوحة التي تبشر بالأرهاب والشر والدم ليعم الخراب في كل ثنايا العراق.
يقول أبن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ** إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صـار قلبي قابـلا كل صـورة ** فمرعى الغزلان وبيت لأوثان
وديـر لرهبـان وكـعبة طـائـف * * والواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحـب أنـى توجهـت ** ركائبه أرسلت ديني وإيماني
وأذ يغيب العقل وينعدم الوجدان في مواقف تخجل منها المروءة ويأباها اهل العراق النجباء، في جرائم يرتكبها ممن لاذمة ولادين ولاضمير بأسم الأسلام بحق ابناء تلك الديانات، وأذ تتجمع بؤر الشر كله تريد النيل من تلك الديانات واهلها تحت شتى الذرائع، وتحت اغطية تبان حقيقتهم من تحتها، لابد من وقفة عراقية يتكاتف بها رجل الدين قبل السياسي، ويتوحد بها المسلم قبل الأيزيدي من اجل دفع الضرر عن الناس، ومن اجل أن لاتتشوه قيم ومعاني الأسلام الجميلة في أذهان الناس وفق أعمال المتطرفين والإرهابيين، وستبقى يقينا المسيحية في العراق أعتزازا منا نحن اهل العراق بتلك القوافل الطيبة التي ما ارتدت غير اغصان الزيتون في حياتها، علامة وأشارة منها لكل مفاهيم الحياة، والى طهارة الماء التي اعتمدها المندائيون الذين كانوا ولم يزلوا جزء من طهارة القلب والضمير العراقي، وطيبة الايزيدية وتقشفهم وبساطتهم وقناعتهم في حياتهم العراقية منذ اقدم العصور.