(1من 2)

ملاحظة منهجية: تتجه هذه القراءات إلى نبش الموروث فيما يتعلق بفترة التكوين الإسلامي، أي صدر الاسلام التي احددها من البعثة الكريمة وحتى سنة مئة للهجرة، وهي قراءات تشكيكية بكل صراحة، وتحتل مكانة مركزية من إهتمام الكاتب، وسبب الاهتمام أن هذه الفترة هي أس التاريخ الاسلامي، وأس التشكل المذهبي الواسع العريض،وهذا الصراع الدموي الهائل الذي شغل المسلمين يرجع في أسبابه إلى الموروث المزعوم عن تلك الفترة، وهي الفترة التي تعد عند الكثيرين أوثق قطعة زمنية من تاريخ المسلمين، وتشكل قطعة التألق الديني والروحي بل والعاطفي، فيما هي عند الكاتب أكثر الأزمنة الإسلامية غموضا، وتشوشا، واضطرابا. تعتمد قراءاتنا لهذه الفترة على جملة مصادر، أولها الكتاب الكريم، ومن ثم الروايات الشفاهية المزعومة عن نبي الرحمة، وكتب السيرة التي هي الاخرى نقلت شفاها في البداية، ويشكك العلم اليوم بوثوقية الشفاهية، على أقل تقدير، لا يوجد دليل أن اللاحق ينقل عن السابق عينا، ونصا، من يدرينا؟ فكيف إذا تعدد الرواة، من يدرينا أن ما ينقله الراوية في وسط السلسلة هو عين ما نقله الراوي في صدرها؟ وذلك حتى لو أن الرواية ثقة حسب معايير علماء الدراية. على أن الشفاهية تفتقر إلى مصدر كتابي للاحالة عليه، فيما مصادرنا الكتابية هي لاحقة للشفاهية، أصلها شفاهي. لا أريد هنا أن اطيل بهذه القضية، وسوف التقي مع قراءي الاعزاء على مائدة بحث حول تدوين الحديث النبوي في عصر النبوة الكريمة، حيث سنلتقي بمفارقات كبيرة، تحتم علينا أن نتعامل مع فترة التكوين بشك كبير، حتى حادثة السقيفة! وهي الحادثة التي سأتناولها بالتفصيل لاحقا، مع احتفاظي بحق علي بن أبي طالب عليه السلام بأن يكون القيادة البديلة للنبي العزيز.
أرجو من القاري أن لا يستعجل، ولا ينهال بالسباب والشتائم، فالمسلمون اليوم يمرون بمحنة طاحنة، ليس الخروج منها إلا بالنقد أولا. وفي عقيدتي أن فترة التكوين غامضة، مبهمة، سوى ما جاء في الكتاب الجميل، ولكنه لا يغني كما نعلم، وإن ما نقل لنا من موروث حول هذه الفترة محل شك عميق، وريبة كبيرة، رغم ما تسبَّب به هذا الموروث من بلاء ما زلنا نعاني منه، نحن ضحايا موروث مشكوك فيه إلى حد اللعنة، نحن ضحايا وهم، وأي وهم...؟

مسجد قباء
تكاد تجمع المصادر التاريخية والروائية على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما نزل قباء في بيت أم كلثوم بن الهدم من بني عمرو بن عوف بادر إلى بناء مسجد هناك، وكان ذلك قبل كل شي، ففي صحيح البخاري برواية عروة بن الزبير (فلبث رسول الله صلى ا لله عليه وسلم في بنو عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسَّس المسجد الذي على التقوى وصلى فيه...) ـ 1 71 ــ وهذا الذي يرويه عروة بن الزبير يرويه جمع من الرواة والمؤرخين والباحثين ، ففي السيرة الهشامية (... وقال بن اسحق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء في بني عمرو بن عوف وأسس مسجده) 2 ونقله الطبري 3 ـ والكامل 4 وغيرهما من المؤرخين، وفي سيرة بن كثير (وقد أسَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم... مسجد قباء...) 5 ــ وفي زاد المعاد (فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسَّس مسجد قباء وهو أول مسجد بعد النبوة) 6 ــ زاد المعاد 3 / 58 ــ وفي صفوة الصفوة (... فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسّس المسجد الذي أُسِّس على التقوى) 7 وفي طبقات بن سعد أكثر من رواية في الموضوع 8 ــ الطبقات 1 /244 ــ والرواية الشيعية منسجمة مع هذا الاتجاه، ففي المناقب (فأسَّس رسول الله بقباء مسجدهم) 9 ـ البحار 19 / 121، 122 ــ وفي ا لمنتقى (... إنه لبث صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشر ليلة و أسس المسجد الذي أُسس على التقووى) 10 ــ نفس المصدر 145 ــ وفي فروع الكافي (... عن أبن أبي عمير عن حمَّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام: سألته عن المسجد الذي أُسِّس على التقوى فقال: مسجد قباء) 11 ــ المصدر 1 / 81 ــ وفي طبقات بن سعد (وكان أيوب الأنصاري يقول: هو المسجد الذي أُسِّس على التقوى وكان أُبي بن أبي كعب وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أ صحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) 12 ـ المصدر 244 ـ وفي الطبقات أيضا (قال ابن عمر: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد عمرو بن عون وهو مسجد قباء. قال: فدخلت عليه فيه الأنصار يسلمون عليه) 13 ـ ا لمصدر 1 / 244 ــ وقد إستظهر بعضهم انه تاسس قبل مجي رسول الله صلى ا لله عليه وسلم 14 ـ أنساب الأشراف 1 / 264 ــ وقد يكون هذا صحيحا ولكنه لم يكن مسجدا بالضرورة، فجاء الرسول الكريم فزاد عليه وجعله مسجدا، ومهما يقال، فإن أكثر الروايات أنه هذا المسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما في أول يوم من وصوله 15 ـ سيرة بن كثير 2 / 292 ــ وتشير بعض المصادر إلى أن عمار بن ياسر كان هو صاحب فكرة التأسيس، ففي السيرة الهشامية (قال هشام: ذكر سفيان بن عيينة، عن زكريا، عن الشعبي، قال: أ ن أول من بنى مسجداً عمار بن ياسر) 16 ـ ا لمصدر 2 / 143 ــ وأصل الفكرة أن عمارا قال (مال رسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يُستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء) 17 ـ السيرة الحلبية 2 / 55 ـ ويوضح الحلبي ذلك بقوله (أي أنه لما جمع الحجارة ـ عمار ـ أسَّس صلى الله عليه وسلم وأستتم بنيانه عمار بن ياسر) 18 ـ نفس المصدر وا لصحفة ــ ونقرا في أنساب الأشراف (... عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: كان أول من أفشى القلرأن بمكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وأول من بنى مسجداً يُصلَّى فيه عمار بن ياسر) 19 ـ المصدر 1 / 162 ـ وأصل الرواية ينتهي عند الشعبي أو ا لقاسم بن أبي القاسم،عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكلاهما ليسا من الصحابة، فالشعبي ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والآخر أي القاسم بن أبي القاسم بن عبد الله بن مسعود ولد في صدر خلافة معاوية بن ابي سفيان 20 ـ سيرأعلام النبلاء 5 / 195 ــ فلابد أن نضع في الاعتبار هذا الفراغ السندي في المدة المحصورة بين لحظة وقوع الحدث (بناء المسجد) وتاريخ الناقل (الشعبي، عبد الرحمن)، فإن مثل هذا الفراغ يزعزع الثقة بالمنقول، سواء كان حدثا أ و كلاما أو أي شي آخر، وذلك حتى إذا كان الناقل ثقة ثبتا عينا، لأننا نجهل مصدره وفق مقاييسنا التي ربما تكون أنضج من مقاييسه في إختيار المصدر أو الأحالة، ولا ننسى الإشارة هنا، أن عبد الرحمن المذكور رغم ما يذكره الرجاليون عن تقواه وتحرزه، إلاّ كان معروفا برواية المراسيل عن أبيه وجده وكثير من الصحابة 21 ـ تهذيب التهذيب 8 / 321 ـ ومن تضاعيف رواية الشعبي نصادف إشارة مرتبكة، إذ توحي بحق السؤال لتالي: تُرى هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يستيقظ صباحا يجلس في الشمس ويصلي تحت أشعتها ا لحارقة؟ فإن ذلك مما توحي به الرواية، وهو غير معقول إلى حد ما، على أنه قد يكون لعمار بن ياسر مساهمة في التأسيس، ولكن ليس في أختراع ا لفكرة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أ ولى من الجميع في الإلتفات إلى هذه الفكرة العظيمة.

مسجد المدينة

تصادفنا ثلاث روايات ريئسية تدور حول بناء مسجد المدينة...
الرواية الأولى: (عن الزهري، عن عروة بن الزبير... وكان المربد ـ مربد للتمر لِسُهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحتله: هذا أن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فسار بهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى أبتاعه منهما ثم بناه مسجدا) 22 ــ البخاري 1 / 71 ــ
الراوية الثانية:عن أبي التياح، عن أنس بن مالك... وأنه أمر ببناء مسجد، فأرسل إلى الملأ من بني النجار، فقال: يا بني النجار تأمنوني بحائطكم هذا؟ قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا الله) 23 ـ ا لمصدر 1 / 156 ــ
الرواية الثالثة: (عن أبي اسحق... وسأل عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يارسول الله لسهل وسهيل بن عمرو، وهما يتيمان لي وسارضيهما منه فاتخذه مسجدا) 24 ـ السيرة الهشامية 2/ 141.
ونظرة فاحصة للروايات تكشف أن كل رواية عبارة عن حكاية، ولكل حكاية أبطالها وأجواؤها وخصائصها، فالذي حاز على شرف المفاتحة مختلف فيه، الغلامان أم بنو النجار في ملأهم أم معاذ بن عفراء؟ وهي مسألة ليست سهلة لأفاضتها الشرف والتاريخ، ولأكتساب أسبقية الإسهام في صناعة البداية الميمونة للمجد العظيم، ويضيع الثمن بين قبول اليتمين بعد تمنع وبين تبرُّع بني النجار طمعا في الثواب، فيما تبرز بطولة معاذ كوسيط بين الرسول ا لكريم وبين اليتمين، والتقرير الأخير يتزعزع نقديا إذا علمنا أ ن الغلامين في أخبار أخرى ينتسبان إلى غير حجر معاذ المذكور، ففي صحيح البخاري وطبقات بن سعد (... وكانا في حجر أبي أمامة أ سعد بن زرارة...) 25 ــ البخاري 3 / 71، الطبقات 1 / 239 ــ وفي السيرة الحلبية أن المتبني كان أبو أيوب الأنصاري، ومهما يكن من أمر، فقد حاول الحلبي أن يجمع بين هذا الشتاب على نحو الضربة القاضية ، فهو في سيرته يقول (... ثم أنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سأل أسعد بن زرارة أن يبيعه تلك البقعة... فأنها كانت في يده ليتيمين في حجره، وهما سهل وسهيل، وقيل كانا في حجر معاذ بن عفراء... وقيل كانا في حجر أبو أيوب الأنصاري، قال بعضهم: والظاهر أن الكل، أي من أسعد ومعاذ وأبو أيوب كانوا يتكلمون لليتيمين لأنهم بنو عم، فنسبا إلى حجر الكل...) 26 ـ المصدر 2 / 65 ـ
وهو جمع شتات لا دليل عليه أبدا، جمع على طريقة المسامحة بكل شي، لا قيمة لأختلاف الأسماء، ولا أهمية لهذا التردد بين أكثر من أثنين، ولو فتشنا عن ضابط يسوغ مثل هذا الجمع بهذه الطريقة القاضية لما عثرنا على أي أ ثر له.
الروايتان الأولى والثانية كلاهما موجودتان في البخاري، ولكنهما تضطربان في تحديد بطل الاتصال الاول (اليتيمان أم الملأ) وتضطربان في قضية الثمن بين أن يكون حقا مرفوعا في هذه الدنيا إلى صاحبي المكان، أم أجرا مضمونا في الآخرة، غامر به الملأ من بني النجار.
إذا قلنا أن اليتمين قبضا الثمن ترتسم في الأفق خريطة مضطربة أخرى، فظاهر رواية البخاري أنهما قبضا الثمن رأسا من يدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي طبقات بن سعد(... قال محمد بن عمر، وقال غير معمَّر عن الزهري: فابتاعه ـ أي المربد ــ منهما اليتمين بعشرة دنانير، وقال: قال معمر عن الزهري: وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك...) 27 ــ الطبقات 1 / 239 ــ وفي سيرة أبن هشام (... فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا) 28 ــ ا لمصدر 2 / 141 ــ وفي السيرة الحلبية نقلا عن مصدر (وقد عرض أبو أيوب عليه صلى الله عليه وسلم أن يأ خذ تلك الأرض، ويغرم لليتمين قيمتها، فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبتاعها بعشرة دنانير أدّاها من مال أبي بكر...) 29 ــ المصدر 2 / 65 ــ
حقا، أن القاري يتيه بين يدي هذه الخارطة المشوشة المضطربة الهائجة... ولكن رواية أنس بن مالك فيها شي من التفصيل.
يقول أنس (... وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة،ويصلي في مرابض الغنم، ثم أنه أمر بالمسجد،فارسل إلى ملأ من بني النجار، فجاؤه، فقال: تأمنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله ، لا نطلب ثمنه إلاّ إلى الله ، قال أنس: فكانت فيه قبور المشركين ، وكان فيه نخل، وكانت فيه خرب، فأمر رسول لله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت،قال: فصفُّوا النخل فيه قبله، وجعلوا عضاديه حجارة،وكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، هو يقول: ـ
لا خير إلاّ خير الآخرة فأنصر الأنصار والمهاجرة 30 ـ البخاري 1 /155
ورغم أن رواية أنس بن مالك في مفرداتها الأولى لا تنسجم مع المفردات الأولى لرواية الزهري وابن اسحق، إلاّ أن هناك سؤالا...
أن أنس بن مالك يزودنا بتافصيل دقيقة عن بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، ولكن أنس كان عمره أنذاك عشر سنوات! فقد جاء في سير أعلام النبلاء (... وكان أنس يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بن عشر سنين) 31ـ المصدر 3 / 396 ــ
لقد كان منخرطاً منغمسا في عالم الطفولة فقد كان يقول (... إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد...) كما جاء في مسند أحمد.
هذا هو أنس بن مالك في تلك القطعة الزمنية من تاريخ الهجرة، فكيف ا طلع على الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين بني النجار؟ وكيف أ حاط علما بهذه التفاصيل حول مجريات عمل المسجد؟ وقد يلجأ بعضهم إلى مقاييس العبقرية المبكرة وغيرها! ولكن نحن نتعامل مع ا لمقاييس العادية، وربما يقولون أنه ينقل عن صحابي،وكل صحابي عدل، ثبت، وهو ما فيه نقاش يطول.
في تصوري أن مما ينسجم مع قواعد المنطق العادي،وخلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الصورة الأ ولى، وعليه جمع من الباحثين والمحققين، فقد قال الشبلنجي (... وكان برك ناقته صلى الله عليه وسلم مربداً للتمر... ليتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فدعا بهما، وكان جالسا في دار أبي أيوب، وساومهما على المربد، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله... ثم بنى مسجدا) 32 ـ نور الأبصار 23 ــ
قال الكازروني اليماني (... ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين اليتيمين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: نهبه لك يا رسول الله، فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، حتى إبتاع منهما، ثم بنا مسجدا) 33 ـ حياة النبي وسيرته 1 / 296 ـ
لا أعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى أموال أبي بكر رضي الله عنه ليدفع، وأذكِّر أصحاب هذه الرواية بروايتهم عن الراحلة، فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها من أبي بكر رضي الله عنه بلا ثمن، وقد كانت عنده أ موال خديجة.

حول دور عمار بن ياسر
حديث البخاري:
1: [1 ـــ ا ] (... عن عكرمة قال: قال لي أبن عباس والأبنه علي:انطلقنا إلى أبي سعيد فاسمعا حديثه، فأنطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فأجتيى، ثم أنشأ يحدثننا حتى أتى على ذكر بناء المسجد ، فقال: كنَّا نحمل لبنة لبنة، وعمَّأر يحمل لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، ويدعوهم إلى الجنة ويدعوه إلى النار، قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن) 34 ــ الصحيح 1 / 161 ــ
2: [1 ــ ب ] (... فقال أبو سعيد: كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة، وكان عمَّأر ينقل لبنتين لبنتين، فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح على رأ سه ا لغبار وقال: ويحّ عمار تقتله الفئة الباغية، وعمِّار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار) 35 ـ نفسه 2 / 309 ــ

في سيرة ابن هشام:
3: [ 2 ـــ ا ] (قال ابن اسحق... قال: فدخل عمَّار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن، فقال: يا رسول الله قتلوني، يحلمون عليَّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: فرأ يت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده، وكان رجلا بعدا وهو يقول: ويح ابن سمية، ليس بالذين يقتلونك،إنما تقتلك الفئة الباغية) 36 ــ ا لسيرة الهشامية 2 / 144 وقد وصل انقطاعه مسلم وغيره كما سنرى ــ
4: [2 ــ ب ] (أن عماراً بن ياسر كان يرتجز:
لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيه قائما قاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا) 37 ـ نفسه ص 142 ــ
وتستمر الرواية تقول: أ ن أحدهم أدرك أنه هو المقصود بالرجز فقال (سمعت ما تقول منذ اليوم يابن سمية، والله أني لأ راني سأعرض هذه العصا لأنفك... وفي يده عصا) 38 ــ نفسه 142 ــ فغضب رسول الله كما ينقل أبن اسحق وقال (... ما لهم وعمار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، أن عمارا جلدة بين عيني وأ نفي) 39 ــ نفسه 143 ــ
ولم ترد جملة (تقتله ا لفئة الباغية) في روايتي أبي ذر والأصيلي عن البخاري، وهذا لا يضر أصلا،إذ في صحيح الترمذي عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار(أبشر تقتلك الفئة الباغية 3802)، وفي صحيح مسلم حديث (2916) عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار (تقتلك الفئة الباغية) بروايته عن أم سلمة 40 ـ صحيح مسلم 4 / 2236 كتاب الفتن واشراط الساعة ورواه عن أبي سعيد أيضا ــ وقال بن حجر في الإصابة (وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عماراً تقتله الفئة الباغية) 41 ـ ا لأصابة 4 ص 274 رقم 5699 ــ وفي معجم الطبراني ا لكبير جمع من الصحابة رووا هذا الحديث، منهم قتادة بن النعمان، وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وأبو هريرة وأم سلمة وغيرهم، وأ كثر طرقه صحيحة.

أن قراءة متأنية لمتن البخاري تكشف عن إضطراب في تضاعيفه، إذ لا توجد علاقة منطقية واضحة بين جهد عمار المتميز من جهة وقول رسول الله صلى الله عليه وآله (يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)، من جهة أخرى، أقصد لا بد أ ن من حدث وقع أنذاك كي يبرر هذا الا نتقال من المشهد إلى القرار، وذلك كي ينسجم المتن مع نفسه، فإن سياقات الكلام تأتي وفق تداعيات ذهنية تتأثر بأ حداث خارجية في كثير من الأحيان، فلابد من حافز أدى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإعلان عن هذا المستقبل ا لسعيد لعمار بن ياسر رحمه الله، وبالتأكيد ليس هو هذا الجهد الإضافي في حمله لبنتين بدل لبنة، ولا هي الشكوى، بل أجزم أن الشكوى غير و اردة في حساب عمار بن ياسر وهو يحمل اللبنة واللبنتين في سبيل الله، ولا هو بالجبان ا لذي لا يستطيع أن يرد أو يعترض على أ هانة أو تمييز، وتحميله وحده ما لا يُطاق لا مبرر لها، ويقيني أنه وحده بادر إلى حمل لبنتين لبنتين بدل لبنة لبنة، والوسط ا لذي استدعى رسول الله إلى إطلاق هذا القرا ر الخطير (يدعوهم إلى الجنة ويدعوهم إلى النار).
أن موضوع (العصا) في رواية اسحق تصلح إلى حد كبير لتوضيح هذا الالتباس، وترفع ذلك الخلل المنطقي النسقي في متن البخاري، وموضوع العصا يرتبط بقضية الرجز المروي عن ابن اسحق أيضا، وذلك أن عمار بن ياسر في مجرى الحادثة تعرض لإهانة مرفوضة في منطق الدين و الإسلام، وهو لم يقترف ذنبا، أ و خطيئة، بل كان يحث على عمل الخير، وكان ناقدا حصيفا، مثيرا لغرائز العمل الصالح، في ظرف حرج وملح، رغم أنه كان مقلدا في الرجز لعلي بن أبي طالب كما تذكر الرواية، والتهديد بالعصا يعبر عن استعلاء،ولانه صادر من موقع الترفع ومن شعور بالمكانة المادية والدنيوية إزاء رجل ملأ الإيمان روحه وقلبه، وهو من طبقة مسحوقة، ولذا فإن التهديد المذكور بلحاظ أجواءه يجسد دعوة إلى النار، فيما عمل عمار يكل أجوءه يجسد الدعوة إلى الجنة.

جاء في هامش السيرة البنوية: ــ
قال السهيلي (وقد سمَّى بن اسحق الرجل وكره ابن هشام أن يسيمه كي لا يذكر أحدا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكروه، فلا ينبغي البحث أبداً عن إسمه، وقال أبو ذر: وقد سمَّى ابن اسحق الرجل فقال: أن هذا الرجل هو عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي المواهب اللدنية أنه عثمان بن مضعون) 42 ـ السيرة الهشامية 2 / 144 ــ
أما (النبوءة) فلها مجال أخر إن شاء الله تعالى.