حرية العقيدة من الحقوق والحريات التي ضمنها الدستور العراقي وأكد عليها في نصوصه،والتي لم تكن لها وجود في ظل الأنظمة التي تعاقبت على الحكم، وفي العراق الديمقراطي اليوم يحق لأي كيان سياسي أن يعمل في الساحة العراقية بالحرية التي ضمنها وقننها الدستور، فالساحة العراقية مفتوحة للعراقيين مهما كانت أفكارهم السياسية، بشرط عدم تبني النهج الإرهابي أو العنصري أو الطائفي، حماية للتجربة الديمقراطية التي تتعارض كليا مع المناهج المذكورة، كما يحظر التحريض أو التمهيد للبعث الصدامي ورموزه بعد إن عانى العراق منه ولم يزل معاناة إنسانية كبيرة خسر العراق بها ثرواته البشرية قبل المادية والمعنوية.
وهذه الحرية التي لم تأت مطلقة، إنما جاءت لمصلحة المستقبل العراقي وضمانا لحماية الفكر الأنساني من تلك المناهج المرفوضة عراقيا وانسانيا ، مع اعتبار كل الماضي الذي الحق الضرر البليغ والجسيم بشعب العراق، من جراء تسلط البعث الصدامي على مقدراته فترة ليست بالقصيرة من عمر العراق.
والبعث الصدامي يعني المنهج البائد الذي خلفه صدام كاسلوب من اساليب السلطة التي خنقت الصوت الوطني، وساهمت بشكل اكيد في اعاقة مسيرة العراق، وارتكبت في سبيل تطبيق تلك المناهج المزيد من الحماقات والأخطاء التي أضرت بمستقبل العراق وبشعبه، ودون التقيد بأي هدف من أهداف حزب البعث ودون الالتزام بشعاراته المركزية.
وحزب البعث بالذات أعتمادا على منهج الأنقلابية، استطاع إن يستولي على السلطة بشكل غير دستوري وغير شرعي ، وسيطر على مقدرات البلاد مرتين، الأولى في شباط من العام 1963 حين تمكن من السلطة بأنقلاب عسكري، والثانية في تموز من العام 1968 بأنقلاب عسكري ايضا ، وخلال تلك الفترتين ترك خلفه آثارا من الدماء والضحايا والجرائم التي يذكرها التاريخ العراقي الحديث بمرارة ، وبالرغم من الفرصة التي توفرت للحزب في العام 1963 في قيادة السلطة وتوجيه دفة الحكم، الا إن قيادته تركت جميع الأهداف التي كانت ادبيات الحزب وشعاراته المركزية تؤكد عليها وتزعم انها ستحققها لتتفرغ في تأسيس صفحة من المجازر وحمامات الدم والمسالخ البشرية يتفنن بها القتلة ضد الحركة السياسية الوطنية المعارضة ( الشيوعيين والقوميين )، وتحول العراق بفضل القيادة المذكورة الى سجون ومعتقلات ومسالخ حصدت ارواح عشرات الالاف من الوطنيين ومقابر مجهولة وملاحقة كل معارض وتعذيب عائلته، فكان عهد البعث من اول العهود التي تعاقب العوائل بجريرة مواقف ابنائها، كما تدهور الوضع الأجتماعي وألأمني والمعيشي في العراق، وتدهور أيضا وضع حقوق الإنسان مثلما تدهور الأقتصاد العراقي بشكل عام ، ما دفع شريك البعث عبد السلام عارف للأنقضاض على السلطة بأنقلاب قاده في 18 تشرين الثاني 1963 والأنفراد بالسلطة، ويأتي انقلاب عارف بعد مضي ثمانية اشهر على حكم البعث الأول، ردا على الخطايا التي ارتكبها البعث والحرس القومي سيء الصيت ، وتخليصا للجماهير التي بقيت تعارض تلك السلطات، ولم يكن من مبرر للأطاحة بسلطة البعث لولا حمامات الدم واستغاثة المواطن الذي غرق في مسابح الدم، مع استمرار سلوك قيادة البعث سلوكا ونهجا اجراميا ودكتاتوريا بحق الحركة الوطنية في العراق، بالأضافة الى مارافق تلك الحركة السياسية من طعون وشوائب في سلوكها الوطني واستلامها السلطة بمعاونة جهات امريكية وبريطانية.
وأذ يعود البعث الى السلطة مرة اخرى بأنقلاب عسكري في تموز من العام 1968، أي بعد أكثر من اربع سنوات على نهاية الحكم الأول، زاعما في بيانه الأول اعتماده لغة تختلف عن لغة بياناته السابقة، واعدا العراقيين بانه سيستفاد من تجاربه السابقة في التعامل السياسي مع الحركة الوطنية العراقية، وأنه سيفتح صفحة جديدة في العلاقات الوطنية، بالرغم من الأنقلاب على الانقلاب الذي حصل بعد 13 يوم.
ومنذ بواكير الانقلاب برزت ظواهر داخل بنية السلطة البعثية شخصها الشارع العراقي قبل إن تشخصها قيادات الحزب، وهي انتشار المحسوبية والعشائرية بديلا عن القدرة والالتزام بالمباديء داخل التنظيم، وتم توظيف العديد من كوادر الحزب لممارسة الجريمة مرة اخرى بزعم المحافظة على استقرار السلطة الثورية، كما مارست القيادة البعثية ممارسات دموية حصدت المئات من ارواح العراقيين تحت تلك الشعارات، في حين بقيت تلك القيادة المتخلفة تبني مجدها وتعزز مواقعها حتى على حساب البعثيين انفسهم، وغطس البعث مرة أخرى في حمامات الدم العراقي وتلوثت أيادي العديد من القيادات بهذه الدماء الزكية، وصار منهج الموت سياسة تقترن بوجود تلك القيادة التي تتخذ من البعث ثوبا وشعارا، وتم تطوير اساليب الموت من الإتيالات السياسية الى وسائل التعذيب الى التفنن والأمعان في عذابات الناس.
وفي داخل العراق تمكن صدام حسين بعد ان تخلص من احمد حسن البكر المشهور بأحقاده وتلبسه بالعقد والأمراض النفسية الدفينة إن يوظف الدولة والحزب لبناء إمبراطوريته الخاصة، وأستخدم التنظيم الحزبي مطية من مطايا الهدف المذكور، وانزل القصاص والعقاب الصارم بكل من تسول له نفسه حق الاعتراض أو السؤال عن حقيقة ما يجري، وحلت المنظمة السرية بديلا عن دولة القانون، وأجهزة الأمن والمخابرات بديلا عن القاعدة التنظيمية للحزب ، وحلت عائلة صدام بديلا عن العائلة المالكة التي لايحكمها القانون ولا يحددها الدستور، وباتت تلك الأسماء سيوفا مسلطة فوق جميع المؤسسات الحزبية والأمنية والعسكرية، حتى انتهى دور الحزب فعلا، فصار مؤسسة خاملة وغير فاعلة وباهتة في الحياة السياسية العراقية، وتحول الى مؤسسة تستخدم لمراقبة الناس ورفع التقارير الامنية عنهم، ومع إن صدام لم يفرط بهذه المطية التي تعكز عليها في أحيان كثيرة باستخدام البعث درعا لحماية سلطته، الا إن دور الحزب وبمعرفة البعثيين أنفسهم لم يكن فاعلا أو حقيقيا في قيادة سلطة العراق.
وإزاء إخفاقات كبيرة في السياسة العراقية مارسها صدام بأسم البعث، منها الموقف من القضية الكوردية والموقف من المعارضة السياسية العراقية، ومنها الموقف من قضية الحرية وحقوق الإنسان، وقضية الحزب القائد والقائد الضرورة، وحقيقة التنظيم القومي للحزب، والنظرة إلى بقية مكونات المجتمع العراقي، والتطرف الشوفيني في النظرة القومية، بالإضافة إلى الحروب التي دخلها صدام باسم البعث وأدخل معها كل العراق تحت مزاعم وحجج واهية، بالإضافة إلى المواقف الخيانية التي فرط بها بالوطن وبمصالح الشعب العراقي بتنازلات ليس لها موجب ليس آخرها اتفاقية صفوان ، وكذلك الاتفاقيات المهينة التي عقدها سواء مع تركيا او مع إيران او مع غيرها من الدول، ولانريد ان نعدد في هذه المقالة القصيرة السلبيات والإخفاقات التي وقع بها البعث أثناء وجوده في السلطة سيان ان كان فاعلا او كان يتم استخدامه كغطاء او برقع لسلطة صدام.
من هذا المنطلق فرقت النصوص الدستورية بين فكر البعث وبين البعث الصدامي في العراق، وأزاء هذه الحقيقة التي باتت معروفة لكل العراقيين، انهار التنظيم البعثي بعد انهيار سلطة صدام بدقائق، ولم يدافع عن تلك السلطة أي عراقي منتم إلى حزب البعث، اعتقادا ويقينا منه ان مثل تلك السلطة لم تكن تمثل أفكار البعث ولا الحزب الحقيقي ولا القيادة الحقيقية التي أضحت بين قتيل وسجين ومطارد او مهمش من قبل سلطة صدام نفسها.
وبعد انهيار الوضع وهروب صدام إلى حفرته الشهيرة، واحتلال العراق من قبل القوات الأجنبية، وبعد ان انتهى الدكتاتور الذي سلب العراق حريته وكرامته وسلب من البعثيين صوتهم وشجاعتهم وتنظيمهم فكرا وجسدا، صار لزاما على البعثيين إعادة النظر في مسيرة حزبهم او على الأقل مراجعة الأفكار والستراتيجيات التي يتم اعتمادها فكريا ضمن أهداف الحزب بعد تخلصه من سطوة الدكتاتور والقائد الأوحد الضرورة وفكرة الحزب القائد، وبات على الحزب ان يراجع أيضا أفكاره بصدد القوميات والديمقراطية والتعددية، وبات ايضا على الحزب مراجعة شاملة لتاريخه وما حصل من تراجع مروع وتدهور خطير في الحياة العراقية يتحملها تاريخيا مما يوجب عليه الاعتذار والانحناء لما سببه من مآس وأضرار جسيمة للشعب العراقي.
غير ان أهم ما يمكن مناقشته هي فكرة عودة البعث تحت أسم (( العودة )) مما يوحي بذلك استمرار التحدي البعثي ضد الشعب العراقي، في ان تعود تلك الأساليب والنهج الذي مارسه الحزب في تجربتيه السابقتين، بالإضافة إلى اعتماد الحزب المذكور فكرة الانقلاب في الوصول إلى السلطة، حيث لم تصدر أية بادرة أيجابية أو موقف يدلل على تراجع البعث عن أخطاءه وخطاياه التاريخية بحق العراق، وهذا الأمر يتناقض مع منهج تداول السلطة سلميا عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في الدستور الذي صار اليه الحال في العراق ، وما من شك ان أسم العودة بحد ذاته يشكل هاجسا مرعبا للعراقيين، أذ يوحي بالتحدي الذي لانعتقد انه سيجدي نفعا امام بواكير الحياة العراقية الجديدة مع زمن جديد باتت فيه حقوق الإنسان الأساس الذي تعتمده السلطات في سياستها.
ويبقى على من يؤمن بأفكار البعث أن يعي حقيقة أن تجربة استلام السلطة في العراق من قبل البعث مرتين، والتي خلفت فشلا ذريعا وجراحا غائرة في جسد العراق، وأخطاء وخطايا كبيرة بالإضافة إلى الخراب الذي أوصل العراقيين لما هم عليه اليوم، لم تزل قائمة حتى اليوم، ولم يزل العراقي يتذكر بحسرة وحزن كبيرين الزمن الذي يمتد من 1963-2003 ( أربعين سنة ) خسر العراق خلالها الطاقات والكفاءات والرجال قبل خسارة الثروات المتراكمة والخراب الذي حل بمستقبله ، مع عدم تمتع العراقي بأبسط مقومات الحياة الإنسانية، وتوقف التطور ومواكبة الركب الإنساني بسبب تلك السياسة الخائبة التي مورست خلال تلك الفترة ، وإزاء فرصتين تحققتا لحزب البعث في استلام السلطة ولحقهما الفشل الكبير في التطبيق العملي والعديد من المواقف السياسية، ما عرقل وصول العراق إلى مصاف الدول الأخرى المشابهة له في الإمكانيات البشرية والمادية، يبقى السؤال أنه بأي حق تبقى قيادات البعث تريد السلطة في العراق ومن يتحمل مسؤولية الخراب الذي حصل ؟
وأذ تبقى كلمة البعث والعودة عالقة في أذهان العراقيين، فأنها وأزاء مواقف يقفها بعض من تلك القيادات ، التي لم تزل حتى اللحظة متحجرة ومعتقدة انها تستطيع تحقيق حلمها المريض، وما أبقاه لها الدكتاتور في عملية استلاب السلطة مرة أخرى، فيتم توظيف كل قدراتهم وما تم الاستحواذ عليه من أموال العراق في سبيل قتل العراقيين تحت شعار محاربة المحتل، بالوقت الذي يسجل عليهم التاريخ العراقي استمرار جرائمهم بحق الفقراء والشخصيات الوطنية والكفاءات والطاقات العراقية، وليس اكثر دلالة على تمسك بعض من يعتقد انه يتمسك بمنهج البعث من بروز اسم عزت الدوري قائدا للبعث الصدامي وهو المعروف بأنعدام شخصيته وذيليته لصدام، حيث كان الرجل بلا شخصية وبلا ملامح ودون أي كرامة او اعتبار، وكما يسجل عليهم تلك المواقف التي تدل على عقم تفكيرهم ومنهجهم في التحالف القائم مع التنظيمات الإرهابية والإجرامية تحت شتى المزاعم والحجج ، وفي هذه المواقف يتخندقون ضد شعبهم وأهلهم في موقف تاريخي مخزي حين يصيرون أنفسهم مرة أخرى مطايا التنظيمات الإرهابية بديلا عن مطايا لصدام.
أن تلك المواقف توحي بلا شك ان هذه العقليات لم تزل موجودة لم تتغير، ولم تؤثر بها الظروف ولم تستفد من فرص التاريخ ودروسه، وتلك دلالة على التحجر العقلي والفكري الذي تعيشه تلك المجموعات، كما انها حتى اليوم لم تزل تشمر سواعدها لقتل العراقيين وأرهابهم وتخويفهم، بعد كل تلك الجرائم التي جللت تاريخ وسجل البعث الصدامي الدموي في العراق، ومن الغريب ان ضحايا السلطة البائدة من البعثيين انفسهم لم يتحركوا ولم يقفوا الموقف الوطني المطلوب الذي يعبر عن وطنيتهم ووقوفهم إلى جانب شعبهم في محنته، مما سيسجل عليهم التاريخ موقفا سلبيا آخر فوق كل ما تراكم من مواقف سلبية عليهم بحق العراق.
وأذ تفر فرصة تأريخية اخرى من هؤلاء حين يصروا على ان يكون اسم حزبهم او تجمعهم ( العودة ) فانهم أنما يوحون بعودة الفكر الصدامي وعودة الجريمة المنظمة والارهاب والأغتيالات والخراب للعراق مرة أخرى، ما يجعلهم تحت طائل المادة السابعة من الدستور فلا تقوم لهم قائمة ولايحترمهم شعب العراق وسيذكرهم التاريخ العراقي مجللين بالعار.
واليوم يخطو العراق اول خطواته في الحياة الدستورية الديمقراطية، وهو يؤسس كل الوسائل لتداول السلطة عبر الوسائل الديمقراطية، لامجال لسلطة الحزب الواحد، ولامكان لعودة الدكتاتورية والنظام الشمولي المركزي، ولا مكان للشوفينية والتعصب القومي والطائفي والتكفيري، والعراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وهذه الحقيقة ينبغي التعامل معها بحرص اكيد، مع التأكيد على ان العراق الجديد يضمن كامل الحقوق في حرية العقيدة لكل العراقيين بغض النظر عن ديانتهم او قومياتهم او طوائفهم او اجناسهم، وعلى من يريد ان يعود للحياة السياسية العراقية ان يلتزم بهذه الأسس والنصوص التي اقرها الشعب العراقي وسيحرص عليها من اجل المستقبل العراقي الذي سيبدأ بعد رحيل قوات الأحتلال، وان يعي أن العراق لايمكن أبدا ان يعود الى الوراء مهما كان حجم التضحيات، ومهما كان حجم الهجمة التي تمارسها قوى الأٍرهاب والظلام ومن يقف معهم، ومهما امتدت فترة بقاء قوات الحتلال ومحنة الوجود الأجنبي في العراق.