أولا: مدخل نظري

مقدمة ليست افتراضية
قدم بيتر نوفاك في اواخر التسعينات نظرية مهمة في quot; الانقسام quot;، وحلل ظواهر عدة نالها الانقسام، علما بأن اغلب الفلاسفة اكدوا على ظاهرة الانقسام.. صحيح ان الانقسام هو المولّد للحياة، بمعنى ما نجده من انقسام الخلايا وصولا الى انقسام الكون، الا ان التكامل او التوحّد هو نقيض للانقسام والتجزؤ.. وهنا تصبح الجزئيات نقيضا للكليات، وان القوة تخلقها الكليات في حين ان الضعف والهشاشة يقترن دوما بالانقسامات. هذا هو منطق اغلب الفلاسفة الذين درسوا تاريخ الانسان بشكل خاص، في حين يؤكد البعض من البنيويين على الوحدات الجزئية في تركيبها للوحدات لكلية. ويعد الانقسام الاجتماعي اخطر انواع الانقسامات، لأنه يمزق العناصر الاساسية لأي بلد، واذا كان الانقسام السياسي يعالج بسرعة وباساليب غاية في البساطة، فان الانقسام الاجتماعي لا يمكنان يلتئم بسرعة.. ان مجتمعات عدة قد انقسمت على نفسها لاسباب متنوعة، ومنها مجتمعات عربية تسودها القبلية، ولكن ليس كالانقسام الذي يعيشه العراق، اذ يبدو انه انقسام تاريخي حاد بين العناصر السكانية التي زرعت فيها عوامل الكراهية والاحقاد بشكل لا يمكن تخيله، فثمة حقيقة تؤكد الانقسام الحاد بين طائفتين عراقيتين كبيرتين (= السنة والشيعة ).. ولن تتوحدا الا اذا تنازل احدهما ليس عن ثقافته للاخر، بل عن اجندته السياسية! او ان ينسجما معا في مشروع وطني علماني كالذي عاشا عليه في مراحل تاريخية مضت .

هل ثمة استفادة من النظرية الانقسامية؟
ثمة نظريات عدة في دراسة المجتمعات عموما، منها: البطريكية، والنظرية الفسيفسائية ونظريات أسلوب الإنتاج الآسيوي، فضلا عن السلطانية ونظرية السوق ونظرية الصراع الطبقي وغيرها.. والمنبثقة كلها من خصائص النظرية المبكرة التي يؤكد فيها كارل ماركس على فائض القيمة.. وقد أكد كل من دوركايم وميرتون وبارسونز على الوظيفة البنائية.. في حين يؤكد ماكس فيبر على الفعل الاجتماعي والتفاعل الاجتماعي والتي اسماها بالتفاعلية والرمزية والظواهرية.. ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط لا يمكننا البتة ان نطبّق عليها مثل هذه النظريات بحكم اختلافاتها عن المجتمعات الاوربية.. وهي بأمس الحاجة الى عدة نظريات تخدمها تماما وتتعرف عليها وتحول ان تجد ما يمكن استخدامه من وظائف. ويبدو ان النظرية الانقسامية فيها الكثير مما ينطبق على مجتمعاتنا عموما.
وتعد النظرية الانقسامية واحدة من النظريات الجديدة في الفكر السياسي الحديث، والتي تعتمد الوحدات الجزئية على اساس انثربولوجي. وهي نظرية سياسية لمجتمعات بلا سياسة، وهي المجتمعات التي يتم تعريفها بـ quot; تلك المجتمعات الانقسامية او الفوضوية التي اصابها التخلخل السياسي والفكري لاسباب عميقة الجذور او صدمات قاسية الارتجاجات quot; ـ كما يحلو لاصحاب تلك النظرية ان يصفوها ومنهم ارنست غلنر ـ. وقد حظيت هذه النظرية باهتمام بعض الاقسام الاكاديمية في العالم، نظرا لما تفرزه نتائجها التطبيقية من فوائد وتطابق للفرضيات التي تطلقها.. لقد تبنى جون واتربوري في تحليله للنخبة والحياة السياسية المغربية وفي رصد سيرورتها quot;النظرية الانقساميةquot; التي تستعمل أساسا في الحقل الأنثروبولوجي (= علم الإنسان)، وذلك للوصول إلى نتائج مسبقة اعترى الكثير منها الخطأ وعدم الحياد.
وانني اعتقد بأن النظرية مهمة لما تحمله من تحليلات واسئلة فيها تجاوزات على المجتمعات القبلية التي تمثل حالة انقسامية والتي وضع اسسها ابن خلدون، فضلا عن مجتمعات طائفية هلامية ومجتمعات طفيلية تعج بالعلاقات المريضة المهترئة.. وثمة مجتمعات انقسامية تتصاعد فيها روح الكراهية والانتقام الى درجات بشعة وهي مؤهلة للصراعات الدموية التي لا تبقي ولا تذر.. ونكاد نجد مجتمعاتنا العربية في منطقتنا وفي العديد من مجتمعات افريقيا العليا والوسطى مرشحة بانقساماتها الى ان تعيش تواريخ متخلخلة وفوضوية لثلاثين سنة قادمة.. ان نماذجَ كالتي نألفها في تجارب لبنان والجزائر والعراق وفلسطين واليمن والسودان والباكستان وافغانستان.. حلقة وصل بين ما عاشته راوندا والصومال مثلا وما آل مصيرهما وبين ما سيجري في مجتمعات انقسامية لابد ان ننبه الى تعرضها الى مخاطر الانقسام وفي مقدمتها ايران وتركيا والسعودية والاردن وموريتانيا.. وغيرها من مجتمعات لم تنجح الى حد الان ان تختفي منها الانقسامات.
لقد نجحت اسرائيل على مدى خمسين سنة ان تخفي كل انقساماتها، اذ كان من المفترض ان يعيش مجتمعها تخلخلا انقساميا رهيبا اثر الخلطة السوسيولوجية السريعة التي عاشتها منذ العام 1947، ولكنها الوحيدة في المنطقة التي تعيش بلا اية فراغات.. والدليل عملية الاندماج التي جعلت من فلسطينيي الداخل العام 1948 مؤهلين للتعايش وهم بذلك يختلفون عن فلسطينيي الشتات اختلافا جذريا.. ولم ينتبه أحد من المفكرين العرب الى تباينات الطرفين حتى الان، كما ان اسرائيل لم تؤسس نفسها على مبادئ انقسامية، بل على منظومتها الاندماجية ضمن ايديولوجية التمركز لا التشتت. انني اتساءل اليوم وبعد مرور اكثر من نصف قرن على النكبة بتأسيس اسرائيل: لماذا يمثل فلسطينيو 1948 درجة معينة من الاندماجية وهم في الدواخل الاسرائيلية مقارنة بفلسطينيي الضفة والقطاع الذين تنهكهم انقساماتهم الصعبة؟ ولماذا لم تعالج مثل هذه الناحية وتشبع بحثا واستقصاءا؟

الانقسامات السياسية نتاج الافتراقات الاجتماعية
اما الانقسام السياسي الذي تشهده منظوماتنا السياسية في المنطقة، فهو اليوم نتاج الافترافات الاجتماعية التي برزت فجأة بعد ان كانت مختفية ومطوية طوال عقود طوال من السنين، او بالاحرى طوال اربعة قرون من العصر الحديث، واذا كانت قد تبلورت في لبنان منذ زمن طويل، فانها احتدمت اليوم في العراق ونخشى ان تمتد الى مجتمعات اخرى.. وينبغي القول ان الانقسامات التي شهدتها المجتمعات العربية في منطقتنا كانت تنتج المزيد من الصراعات الداخلية التي لا تعرفها اليوم الاجيال الجديدة، بسبب السكوت عنها ولزوم الصمت ازاءها! ان ما يشهده العراق من انقسامات ليست كتلك التي تحدث عنها ماكس فيبر محددا سمات الصراعات التي تستهدفها المصالح والسلطة والقوة في عالم السياسة، بل ان الصراعات العراقية اليوم تمّس المبادئ العراقية نفسها، اي انها وصلت الى حافات الجوهر الداخلي للمجتمع العراقي، وبدأت تضرب عليه بقوة لم يألفها في الماضي من اجل مصالح تافهة.. اي بمعنى: ان افتراقا جوهريا قد حصل بين ما يحمله الفرقاء ليس لاسباب طبقية او جهوية او قبلية بل لاسباب طائفية! ولعل ابرز من يمثّل قوى الصراع الداخلي هي التي افرزها تاريخ العراق السياسي والاجتماعي متمثلة بكل من ثنائية السنة والشيعة.. ويختلف كل من الطرفين في مرجعياتهما الطائفية.. ان مجرد الاعلان عن تسّلم احزاب طائفية حكم العراق.. بدأت الارادة السياسية لكل من الطرفين تعبّر عن نفسها في مجال مختلف عن الاخر! وهذا امر طبيعي في الصراع على السلطة.
وهذا ما كان قد افصح عنه دوركايم في نظريته الاجتماعية، فلقد توقف عند الانقسام الاجتماعي محددا جملة عوامل اساسية لحدوثه وقد شمل بذلك كل من الاعراق والاديان والطوائف والجماعات.. ان كل الذين يخرجون ليحللوا هذه quot; الظاهرة quot; القاتلة من العراقيين ينفي حدوث اية انقسامات او مظاهر لأي صراع، بل ويقدّم رؤية مزيفّة للواقع الذي غدا عليه العراق.. ان اغلبهم لا يقولون الحقيقة.. اي انهم يغيبون الحقيقة بقصد ام من غير قصد ويقطع على كل الذين يريدون كبح جماح الانقسامات وبحثهم عن علاجات واقية بعد كل الذي جرى من تهتك وتشظي في البنية الاجتماعية العراقية.
ينبغي القول قبل ان احلل هذه quot; الظاهرة quot; في العراق اليوم، ان مجتمعاتنا العربية قاطبة ليست مختلفة عن العراقيين في انقساماتهم اليوم، فالفرص التاريخية الصعبة ان هيأت عوامل الانقسام في اي مجتمع عربي من مجتمعاتنا قاطبة، فانها سنشهد ولادة صراعات محلية لا اول لها ولا آخر نظرا لحدة التناقضات التي يطويها المجتمع العربي في اعماقه، وسيصبح عرضة للتهتك والتشرذم.


ثانيا: تحليل الظاهرة

الفوضى المتهتكة للعراق
ليس هناك من أمة ناضجة تصارع نفسها بنفسها بالشكل الذي امسى عليه العراقيون.. ويخطىء من يقول ان ليس هناك اية انقسامات في ما بينهم.. ويخطئ من يقول انها ازمة حكم! ويخطئ ايضا من يقول بأن المشكلة تكمن في العملية السياسية.. ان العراقيين اليوم ينقسمون انقسامات حادة ومعقدة، ليست سياسية فقط، بل اجتماعية وثقافية، والانكى من كل هذا وذاك انها انقسامات حقيقية على ( المبادئ الاساسية فضلا عن المصالح الفئوية ) او كأي انقسامات تافهة على الالقاب. ان العراقيين حتى يومنا هذا لا يمكنهم ان نعتبرهم احرارا، فلقد انتقلوا من دكتاتورية الفرد الى دكتاتورية الجماعة، ومن استبداد الحزب الواحد الى استبدادية الشارع.. ولم يكن ذلك محض مصادفة تاريخية او مجرد تبدلات في الوعي.. انها حالة من الفوضى العارمة التي خلقتها ظروف وعوامل لا اول لها ولا آخر فضلا عن الاغراق في اللاوعي، اضافة الى انتقال الجماعات المرعبة من دوائر السلطة المرعبة الى سلطة الشوارع البشعة. ان فترة النقاهة التاريخية التي طالبنا بها منذ العام 2003، غدت منذ اللحظة الاولى فترة من الفوضى المتهتكة والتي انتجت كل هذا الوباء وعلى ايدي اناس لم يعرفوا من العراق غير اسمه، ولم يعرفوا من العراق الا مصالحهم النفعية فقط.

صناعة التفكك الداخلي
تتحمل الولايات المتحدة الامريكية مسؤوليتها التاريخية امام التاريخ عن كل ما حصل في العراق من مصائب نتيجة خططها ودعايتها.. كما انه نتاج تاريخ صعب من التفكك الداخلي الذي لم يكن مسؤولا عنه سبب واحد. لقد اشترك الجميع في صناعة هذه المعاناة والانقسامات ليس على مستوى الدولة والمؤسسات، بل على مستوى منظومات المجتمع والقوى والاحزاب والسياسات العابثة بالمجتمع. وان حلها لا يمكن ان يأتي بمثل هذه الوسائل التي تستخدم اليوم بغباء منقطع النظير، فهي وسائل دعائية كاذبة لا تمت للواقع بصلة ابدا، والكل يؤمن بأن فرصه في تحقيق الانتصار قريبة المنال.. ولكن هذا الكل لا ينشد الانتصار لكل العراق والعراقيين، بقدر ما يناشد مصلحة كل جزء من الاجزاء، والانتصار له وحده، وينتظره له نفسه.. ذلك ان المصالح العامة قد ضاعت خيوطها، فالكل يعمل لمصلحته الشخصية او الطائفية او القومية او الدينية او الجهوية. لم نجد اي روح حيادية تسود لا لدى الحكام الجدد ولا على مستوى المواطنين في مجتمع مشتت الارادة، فكل فريق يريد الاستئثار بالمصالح والقوة والمال والنفوذ.. أي بمعنى ان القوة قد تحولت من مركز المستبد الواحد الى مراكز قوى لا تعد ولا تحصى.. انها ليست حالة انتقالية من السيئ الى الحسن، بل من السيئ الى الاسوأ.. والعراقيون بين مطرقة ما يقرره الاحتلال الامريكي وما يخطط له اصحاب القرار.. وبين سندان الارهاب وما تشعله القوى المتمردة ليس على الاحتلال نفسه، بل على الذات نفسها من نار!

مجتمع التمايزات
ولقد تحول مثل هذا quot; النهج quot; من الانقسام المفضوح بعد ان كان خفيا لعشرات السنين الى جزء من الاخلاقيات السيئة المتعارف عليها.. ان من اسمعهم يتخاطبون او من اصغي الى الذين يتحاورون ,, وثمة آخرين يتصايحون ويتشاتمون اكاد اجزم انهم لا يعنيهم العراق ولا يعنيهم كل العراقيين بقدر ما تعنيهم الخطوط التي وضعوا عليها للسير في حدودها فقط والقائمة على quot; التمييز quot;، واذا كان التمييز في العهد السابق على اساس الولاء للحزب والثورة ثم غدا على اساس الولاء لذات الرئيس المقدسة والمقربين له، فقد اصبح اليوم يتم على اساس الولاء للطائفة والقومية والدين وبشكل رسمي مفضوح للعلن باسم المكونات العراقية ( شيعي / سني.. كردي / عربي / تركماني / مسيحي.. ألخ ).. واذا كان هذا quot; التمييز quot; في الماضي مرتهن باسم نظام سياسي معين، فانه بات اليوم يستخدم بشكل مباح وبشكل اعلامي وباتجاهات اجتماعية لا اول لها ولا آخر.. تمييز ديني وتمييز طائفي وتمييز عرقي وتمييز مناطقي وتمييز ثقافي وتمييز اجتماعي وتمييز سياسي وتمييز عشائري.. الخ

معالجة الاستلابات
لقد اصبحت جغرافية العراق حالة مهلهلة بتفككها الذي لم يستطع الاخوة الذين جعلتهم الاقدار على رأس المسؤولية من ادارة المتغيرات والتحولات الصعبة بتجرد ونزاهة وذكاء.. ولا ادري ان كانوا يدركون بأن الانقسامات سترحل او ستختفي ان مورست علاجات وقائية في مقدمتها تحريم استخدام الطائفية الدينية في حكم العراق من قِبَل من يمثّلها.. ومن اهم الشروط التي ينبغي توفرها لدى الحكام الصالحين انهم لا يميّزون بين ابناء الشعب، والا اعتبر ذلك ازدراء واستفزازا وتمييزا.. وتلك لعمري هي خطيئة الحكام العراقيين القدماء والجدد الذين يظهرون تحيزهم ويتبجحون بولاءاتهم، فيفقدون جمع الميول والاتجاهات من كل الناس.
انهم جميعا لم يقتصروا على معاداة نظام دكتاتوري سابق، بل اجد اغلبهم يعادون كل الماضي العراقي.. انهم جميعا لم يجتمعوا على حدود دنيا من العلاقة القيمية التي ينبغي الاشتراك فيها والمؤسسة على quot; مبادئ quot; راسخة لا يمكن للعراق ان يحيا من دونها، ومنها: الوطنية للجميع (= الوحدة الترابية ) والشراكة الصامتة (= تنوعات المجتمع الواحد ) ووحدة المصير ( = المستقبل المشترك ) والعلمنة الحقيقية ( التجارب المدنية بعيدا عن الاسلام السياسي والطائفي ) ) وسيادة القانون ( = الدستور المدني ) واحترام حقوق الانسان ( = بأي حدود من الديمقراطية المدنية )، والوقوف تحت مظلة علم البلاد.. وهذا لم يتحقق بعضه او جلّه، بل ازداد الشرخ من خلال الافتراق على مصالح التجزأة وضربوا تلك quot; المبادئ quot; عرض الحائط.. وهنا علينا ان ندرك بأن اية تنازلات عن المبادئ العليا، سيفكك البلاد شئنا ام ابينا. المشكلة اليوم مكرسة باساليب لا حدود لها، اذ ان هناك خلط بين ما يستلزم من اجماع العراقيين عليه كضرورة اساسية لا يختلف حولها اثنان وهي مبادئ العراق التي يجتمع كل العراقيين عليها وبين ما يختلف عليه العراقيون في وجهات نظرهم وآرائهم وافكارهم..

لعبة التناقضات وازدواجية المعايير
صحيح ان الاحتلال الاجنبي عام 2003 قد خلق فراغا سياسيا وأمنيا هائلا، مما انتج بعد اسابيع من الصدمة ولادة تناقضات عراقية بدأت تتورم بسرعة هائلة.. وهذا لا يعني ان المجتمع العراقي لم تكن له تناقضاته على مدى خمسين سنة يمكن رصدها ببراعة، ولكنها كانت مختفية لا يمكن تبيانها لسطوة نظام الحكم، ويا ويل اي طرف في المجتمع ان يعلن عن اجندته بسهولة. هكذا لعب تراكم التناقضات والانجذاب بفوضى عارمة للولاءات دورها كلها في تمزيق المجتمع بعد ان كانت الدولة قد ضعفت وهزلت مؤسساتها ( حتى الحزبية ) ولم يبق الا جيشها وسطوة اجهزتها الامنية والمخابراتية.. ولقد تبخّرت كلها في 21 يوما من امتداد الاحتلال.. لقد انسحبت من الواجهة لتترك المجتمع يتفكك.. ان المسؤولين العراقيين من السابقين واللاحقين كانوا وما زالوا يراهنون على السلطة بديلا عن المجتمع. والمعلوم ان الرهانات عليها في العراق لم تكن وليدة اليوم، بل ان مشاكل العراق كلها منذ خمسين سنة لا تخرج عن كونها نتائج صراع على السلطة من قوى واحزاب وتمرد ضباط وتآمر جماعات ومواقف مرجعيات ومسيرة مظاهرات وحدوث انتفاضات.. الخ
ان الصراع على السلطة في العراق هو الذي شكّل خطاب العراقيين الناطق باسمها مهما كان صنفها، اذ يصل الخطاب الى حالة تأليه وتقديس او ينزل الى مستوى من الاحتقار والبذاءة.. يقول (ميشيل فوكو): quot;.. وهنا ينبغي الانتباه إلي إن للسلطة في الأساس مفهومين.. يهيمنان على دراسة الخطاب وهما السلطة كقدرة علي الفعل بسيطة من الناحية الكمية، والسلطة بالاعتماد علي الإجماع والتي تتضمن بناء علي ذلك أيضاً الحق في ممارسة الفعل وكلا هذين المفهومين ضروري لمزيد من الفهم الموسع لتشكل الخطاب quot;.

ما الاستنتاجات التي سنخرج بها؟
اننا ان تأملنا في حالات معينة تبلورت ولم تزل سائدة حتى الان سنخرج ليس بنتائج واضحة، بل بتساؤلات مطلوب الاجابة عليها، ومنها: هل يعقل ان يتحالف علمانيون لهم مبادؤهم مع دينيين لهم مبادئ من نوع آخر؟؟ هل بامكانهم ان يتحالفوا في لعبة سياسية مشتركة كما يسمونها؟ ذلك انهم يفسرونها لعبة مصالح وانا افسرها ازدواجية معايير! هل يمكن الجمع بين خيارين لا يمكنهما ان يلتقيا ابدا: مصدر ديني وحالة ديمقراطية في نص دستوري واحد؟ انهم يسوقونها لاسباب معينة وانا اجدها اكذوبة لا معنى لها! هل يمكن فرض الامر الواقع بحق تقرير المصير في مكان مع ادانة الانظمة السياسية السابقة انها سمحت بتغيير البنية السكانية لمنطقة معينة او مناطق معينة اخرى؟ هل يستقيم الامر في ان تدين انظمة الحكم السابقة بما مارسته من اساليب دموية وانت تقبل كل الاساليب التي تتبع اليوم في كل العراق؟ انك تسأل العراقيين: ماذا يريدون؟ فلا يمكنك ان تقف على اجابة شافية واحدة وواضحة ومحددة.. هل يمكننا ان ندين البعثيين عندما رفعوا شعار ( جئنا لنبقى ) عام 1968، ونحن اليوم نعلن بأن (السلطة) قد وصلتنا على طبق من ذهب، فهل نتركها؟ ان ذلك من رابع المستحيلات!

www.sayyaraljamil.com
للمقال صلة بالجزء الثاني منه وسيعالج المنظور الثالث الخاص باقتراحات لحلول ومعالجات

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه