كان العام القضائى 1983 ndash; 1984 أول مرة أعمل فيها رئيساً لمحكمة الجنايات ورئيساً لمحكمة أمن الدولة العليا . وهذه المحكمة الأخيرة (أمن الدولة العليا) تـُشكـّل وفقاً لقانون الطوارىء، ويصـّدق على أحكامها أو يلغيها لاعادة المحاكمة أو يعدل فيها الحاكم العسكرى العام (وهو رئيس الجمهورية، أو من ينيبه، وهو ينيب فى مسائل الاعتقال وزير الداخلية) فى المحكمة قلم للتصوير، يتولى تصوير أوراق القضايا، ورقة ورقة، ويرسل صورة من كل قضية إلى رئيس وعضوى المحكمة، ويبقى الأصل لدى سكرتير الجلسة، فإذا أراد رئيس المحكمة أو أحد المستشارين الإطلاع عليه، أحضره إليه السكرتير بنفسه.

كانت ثمة قضية معروفة أمام المحكمة، منذ عام سابق على رياستى لها، وهى قضية متهم فيها سبعة أشخاص، اثنان منهم كانا من المتهمين فى قضية اغتيال الرئيس السادات، والمتهمون الخمسة الآخرون كانوا متهمين بإيوائهما واخفائهما بعد هروبهما من الحبس أى إن القضية كانت متفرعة عن قضية اغتيال الرئيس السادات، وتعد فرعاً منها أو امتداد لها . وكان يدور فى كواليس المحكمة أن زميلى الرئيس السابق كان يزمع الحكم بسجن جميع المتهمين، ولما استشعر المتهمون ذلك، أو تسربت إليهم كلمة من الحاجب أو من شرطة الحراسة أو عامل البوفيه، وصل تهديد إلى الزميل ndash; باعْـتزام خطف ابنه، وخشى هو أن ينفـَّذ التهديد بالفعل، فأجل الدعوى (القضية) حتى وصلت إلىّ . قرأت صورة القضية بكل أوراقها، ثم عّن لى، لأهمية القضية، أن أطلب الملف الأصلى، فأحضره إلىّ سكرتير الجلسة (كالنظام المتبع فى المحكمة) . وبالاطلاع على هذا الملف تبين لى أنى كنت مُحقاً فى طلبه، لأنى تأكدت أن قلم التصوير فى المحكمة كان قد أغفل تصوير أوراق صغيرة، لكنها مهمة. وبعد القراءة يكون على كل مستشار أن يحرر ملخصاً بكل ما فى القضية، حتى يكون أمامه عند نظر الدعوى، وفيه رقم الصفحة التى وردت فيها أقوال كل متهم وأى شاهد، وهكذا بشأن باقى الأدلة من معاينات أو تقارير طبية أو غيرها.

ذهبت إلى المحكمة صباح يوم نظر الدعوى، وليس فى نفسى أىّ خوف أو شك، مما كان قد وصل إلى مسامعى عما حدث مع زميلى السابق . وفهمى للقضاء أنه ولاية وليس سلطة، يرفع الميزان ويحق الحقوق، وهو معصوب العينين عن أسماء وصفات الخصوم، وعن تأثير حكمه على السلطة مهما كان، لأنه إن لم يفعل لا يستطيع أن يقضى فى خصومة مهمة أو يحكم فى دعوى حساسة .
لا تنعقد محاكم الجنايات ولا محاكم أمن الدولة العليا إلا بحضور المحامين عن المتهمين، ذلك أن الدستور (وهو قانون القوانين) ينص على أن يكون لكل متهم فى جناية محام، فإذا لم يحضر المحامى لم تستطيع المحكمة أن تباشر إجراءات المحاكمة حتى يوكل المتهم لنفسه، أو تندب المحكمة له، محاميا. تأخر إنعقاد الجلسة ذلك اليوم، والسكرتير يدخل علينا فى غرفة المداولة ليقرر أن المتهمين لم يُحضروا من محابسهم، كما أن هيئة الدفاع لم تكتمل.

انتظرنا على مضض حتى الساعة 11.30 صباحاً (ونحن حضور من الساعة التاسعة) وأخيراً دخل علينا سكرتير الجلسة ليخطرنا بإحضار المتهمين جميعاً (من السجن) واكتمال هيئة الدفاع . خلعنا السترات العادية ولبس كل منا الرداء الرسمى للمحكمة، وهو الردنجوت الأسود ووضع الوشاح الخاص به، ثم دخلنا إلى قاعة الجلسة.
تبدأ الاجراءات بسؤال رئيس المحكمة (أىْ شخصى)، كل متهم عن إسمه وعمره وعمله، ثم يواجهه بالاتهام الذى نسبته إليه النيابة العامة، على نحو ما جاء فى قرار الإتهام. فـَعلتُ ذلك فتم الأمر بسهولة ويسر، وأذكر كل متهم ما نسب إليه.

لم يكن ثمة شهود. فبدأ الدفاع، وكان أولهم محام من جماعة الأخوان المسلمين، كنـّا (هو وشخصى) قد تعارفنا وتجالسنا أكثر من مرة فى بيت صديق كان من رجال القضاء ثم خرج منه، وكان من جماعة الإخوان المسلمين. كال المحامى المديح للمحكمة، لعلمها وعدالتها، وأكثر من الثناء على هيئة المحكمة، ثم دخل فى الموضوع حتى استكمل مرافعته، وطلب البراءة لموكله . استمرت المرافعات ثلاثة أيام، وكان ضمن المحامين إثنان من كبار رجال القضاء السابقين، الذين يعرفانى معرفة جيدة . أفسحت المحكمة صدرها للدفاع، لكنه لم يستغل سماحة المحكمة فالتزم الحدود فى كل ما قال، وانتهى كل محام بطلب الحكم ببراءة موكله.

خلونا للمداولة، وكنت حريصاً للغاية على ألا يدخل علينا حاجب أو شرطى، أو عامل البوفيه ؛ حتى لا يسمع كلمة أو تعليقاً ينقله إلى نفوس تتعطش لمعرفة رأى المحكمة، فهو بالنسبة اليهم إما السجن وإما البراءة، وهما نقيضان . عندما يقرأ القاضى ملف الدعوى فإنه يكوّن رأيا أوليّا، ويكون الرأى قابلا على الدوام للتعديل، ولو إلى النقيض، إن حدث فى الجلسة أو بدى من أقول الشهود أو ظهر من المرافعات ما يقتضى ذلك. فى هذه الدعوى كان رأيى المبدأى هو ضعْف الأدلة بالنسبة إلى من أّتـُّهموا بالايواء والإخفاء، وثبوتها فى حق المتهمين الذين فرا من وجه العدالة.

بدأنا المداولة فى سلاسة، بلا خوف من تهديد المتهمين (للزميل السابق، كما علمنا) ولا رغبة فى ارضاء السلطة، وانتهينا إلى الرأى الذى كنت قد كوّنته ابتداء، فنطقت المحكمة بالحكم ويقضى ببراءة خمسة متهمين وبإدانة اثنين (هما اللذين كانا قد فرا من وجه العدالة) وبحبس كل منهما ستة شهور، وراعينا فى ذلك أنهما كانا قد امضيا فى الحبس تسعة شهور، فكان من المتعيّن الإفراج عنهما فوراً.

بعد أن دخلت هيئة المحكمة إلى غرفة المداولة كانت نفوس المتهمين والمحامين قد هدأت من توتر دام طويلا، وظل المتهمون يهتفون بهتاف الأخوان المسلمين (الله أكبر ولله الحمد) . ولما نبهنى إلى ذلك أحد الزملاء، وكنت أسمع الهتاف، قلت له وماذا عسانا أن نفعل، دعهم يفرحون ويشعرون بأن العدالة الحقة لا تميز بين الأشخاص والأفكار أو المعتقدات، فلقد اعطيناهم بالبراءة حقا لهم ولم نمنحهم هبة، وكان حقا علينا أن نفعل.

كانت كتابة الأسباب (أى حيثيات الحكم) من نصيبى فكتبتها (كما نشرت فيما بعد فى كتابى quot; على منصة القضاء quot;)، وأخذْت على النيابة العامة ثلاثة أمور (1) أن بعض المتهمين سـُلموا اليها بعد أيام، من سبعة إلى خمسة عشر يوماً، من وقت ضبطهم، فى حين أن القانون يوجب عرض المتهم على النيابة بعد 24 ساعة من القبض عليه، ولم تحقق النيابة فى هذه المخالفة الصريحة، والثابتة فى الأوراق (2) أنها لم تـُجرْ معاينة لمكان معين، وأصبح من المتعذر على المحكمة أن تجرى المعاينة بنفسها لتغيرُّ معالم المكان بمرور الوقت (3) أنها لم تعرض المتهمين الذين قرروا أنهم تعرضوا للتعذيب على الطبيب الشرعى مُباشرة، ولا بعد أن أمرت بذلك هيئة المحكمة التى نظرت أمر تجديد حبس المتهمين، لكنها تراخت حتى وهنت أدلة التعذيب، ومع ذلك فقد قرر الطبيب الشرعى الذى وقـّع الكشف على هؤلاء المتهمين بعد ثلاثة أشهر، وجود آثار يمكن أن تشير إلى وقوع تعذيب على المتهمين، على النحو الذى قرروه.

نشرت بعض الصحف أسباب الحكم تحت عنوان مثير (محكمة أمن الدولة العليا تنتقد نيابة أمن الدولة العليا) وساء ذلك رئيس نيابة أمن الدولة العليا، وكان صديقاً لى، لكنه لم يفرق بين حق الصداقة وقدسية الواجب. وطفق يشكونى إلى كل الزملاء وهو يقول: إن محكمة النقض قضت بعدم جواز توجيه المحكمة انتقادات إلى النيابة عن التحقيق، فقلت لكل من نقل إلىّ هذا القول: ان باقى حكم المحكمة يعنى (ما دام فى إمكان المحكمة ان تجرى تحقيقاً تستكمل فيه ما تراه نقصا فى تحقيق النيابة) والمعاينة غير ممكنة إلا وقت التحقيق لأن حالة المكان تغيرت، فضيعت النيابة بذلك دليلاً مهماً. أما عدم التحقيق فى تأخير عرض المتهمين على النيابة العامة، وتعمد تأخيرهم فى العرض على الطب الشرعى، فقد راعت المحكمة أن التحقيق فيها يطال وكلاء نيابة أمن الدولة، وقد حرصت على تجاوز ذلك لأنها قصدت التنبيه إلى الخطأ كى لا يتكرر، ولم تقصد إيذاء وكلاء النيابة، أو وضعهم فى موضع التحقيق.
بعد عامين من صدور هذا الحكم، علمت أن سبب تأخير انعقاد الجلسة يرجع إلى أن المحامى، الذى جالسته وحادثته أكثر من مرة فى بيت صديق مشترك، كان يُصّر على ردّى عن نظر الدعوى، لآختلاف آرائى عن آراء الجماعات الإسلامية وأولها جماعة الأخوان المسلمين، لكن المحامين جميعاً رفضوا ذلك بشدة، وصلت بهم إلى التشاحن معه، وقالوا له إنه لا يوجد قاض غيره (شخصى) يعطى كل ذى حق حقه ويشتهر بالعدل والنزاهة. ولما احتدم الخلاف بينهم اتفقوا على انتظار احضار المتهمين وسؤالهم فى هذا الأمر، ذلك أن رد المحكمة لا يكون إلا من المتهم نفسه أو بتوكيل خاص منه، فلما أُحضر المتهمون حسموا الأمر ورفضوا بشدة فكرة ردى عن نظر الدعوى، وقالوا إن ما سمعوه عن رئيس المحكمة (شخصى) يبشر بالخير، لأن شهرتى ndash; كما قالوا ndash; تفيد أنى عادل وأن ميزان العدالة لا يهتز فى يدى أبداً، من رغبة أو عن رهبة.

وصح التقدير، وصارت حكاية تـُروى للتدليل على العدالة، وكيف ينبغى أن تكون.

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه