مهزلة أو مأساة أو كليهما معاً أن تتساءل أمة عمرها أكثر من خمسة آلاف عام عن هويتها، ولا ننتوي في هذه السطور محاولة حسم أو إسدال الستار على تلك المأساة الهزلية بالتشيع لأحد الإجابات المطروحة بالساحة، فالحسم مرتهن بحركة الواقع المادي والمعاش، والذي يُعتبر الفكر أو الخطاب الثقافي مجرد أحد المكونات الفاعلة فيه تأثيراً وتأثراً، وأقصى ما نطمح إليه هنا أن نستعرض تلك الإشكالية الملتبسة، مفتشين منقبين في ركامها، علنا نجد أيضاً سر بقاء سؤال الهوية معلقاً على مر تلك الدهور، مع تحفظ مبدئي واجب، هو أننا نفهم سؤال الهوية على أنه مرادف لتساؤل 'من نحن وماذا نريد، وكيف نرى أنفسنا ونرى العالم من حولنا؟'، دون أن نقر بمفهوم الهوية كجوهر جامد، مدفون في مكان ما في بطن التاريخ، والذي يرى البعض أن علينا استرجاعه لنعيش على هداه.
المقاربة الابتدائية للموضوع تضعنا أمام مستويين من جدل الهوية المصرية يكادا يكونا منفصلين، مستوى الخطاب الثقافي السائد بكافة أجنحته المتناحرة، ومستوى واقع الحياة اليومية للناس، وبين هذين المستويين تتردد وتترضض سياسات وتوجهات الطغمة الحاكمة، وهنا بالتحديد مكن الخطر على مستقبل أمة أمامها الكثير لتنجزه، قبل أن تصير مهيأة لدخول العصر والتوافق مع حضارته، على أمل أن تصل يوماً لأن تكون فاعلاً فيه، وليس مجرد مفعول به، وهنا قد نكون أيضاً عثرنا ومنذ البداية على أحد عناصر لغز بقاء سؤال الهوية معلقاً كل تلك المدة، وهو ما يتسم به غالبية الخطاب والفكر السائد بمصر من انفصال عن حقائق الواقع، فالمفترض أن الفكر هو انعكاس للواقع، سواء الفعلي الراهن، أو الموجود بالإمكان، والقابل للنضج والتحقق في المستقبل ببعديه القريب والبعيد longamp; short term، وبهذا يعبر الفكر عن الواقع ويقوده أو يوجهه في آن، أما حين يفارق الفكر الواقع، ليسبح في سماوات الإيديولوجيا والميتافيزيقا، فإنه لا يفقد فقط وظيفته الحضارية الضرورية، لكنه أيضاً يشكل عائقاً لاتساق حركة الواقع، فحركة الفكر الحرة سواء قيمناها على أنها للخلف أو للأمام من منظور حضاري لا تسبب غير الاضطراب في الواقع، مادامت منبتة الصلة بإمكانياته المتجلية أو الكامنة، أو كانت تتظاهر بالانتساب إليه، فيما هي في الحقيقة تحمِّله فوق ما يحتمل، إذا كان انتسابها المزعوم للواقع يقوم على مجرد التهويل والتضخيم، وعلى سوء قراءة القوى والأحجام النسبية للعناصر الداخلة في معادلة تشكيل الواقع.
فالخطاب الشائع الزاعق عن هوية 'مصر العربية' مثلاً هو نتاج فكري أيديولوجي متسام، لا يربطه بالواقع غير خيوط واهية وزائفة إلى حد بعيد،، والتزييف لا يكون فقط عبر مقولات لا أساس لها، فهذا النوع من التزييف سهل الافتضاح، فالتزييف الشائع والأكثر فاعلية هو الذي يعتمد واحداً أو أكثر من أساليب التعميم والتضخيم والتجاهل، ويتميز زعم 'عروبة مصر'، أو دعوة القومية العربية عموماً، باستخدام أساليب التزييف الثلاثة معاً في دعاواها.
من أهم حجج دعاة العروبة كهوية لشعوب المنطقة ما يقولون أنه لغة عربية واحدة يتحدث بها الجميع، وفي هذا وحده تتمثل لنا الأساليب الثلاثة للتزييف، أولها التعميم بالحديث العمومي عن لغة عربية افتراضية درجنا على تسميتها بالفصحى، وهذه لا يكاد يتحدث بها أحد من شعوب المنطقة، فلغة الإنسان الحقيقة والمسماة بلغة أو لسان الأم هي ما يتعلمه الإنسان تلقائياً منذ الطفولة من أسرته، حيث يتعرف الفرد على كل من مفردات اللغة وأجروميتها، أي كيفية بناء الجملة والتعبير عن الأفكار من مجموعة المفردات المتاحة، وفي مصر -التي هي محور هذه المقاربة- لا يتعلم المصري تلك 'العربية الفصحى' من أمه، وما يعرف بالعامية المصرية لا علاقة لها بالعربية الفصحى إلا عبر جزء من مفرداتها، أما باقي المفردات فترجع إما للغة المصرية القديمة (الديموطيقية)، سواء كانت ذات الألفاظ أو محورة عنها، أو مفردات من لغات أخرى، يستخدمها المصري في كلامه، أو مفردات نحتها المصري عبر مراحل تاريخه، لتعينه على التعبير عن نفسه واحتياجاته الحياتية المتزايدة مع تطور الحياة والحضارة،، أما أسلوب بناء الجملة فتشير العديد من البحوث والدراسات إلى أنها ذات بناء جملة اللغة المصرية القديمة (الديموطيقية)، وبعيداً عن تلك البحوث يستطيع أي متشكك في هذه الحقائق أن يجرب الحديث بالعربية الفصحى إلى أول رجل أو امرأة يصادف في أي شارع من مدن مصر أو قراها، وسوف يفاجأ بجملة واحدة في كل مرة يكرر فيها تلك التجربة، حين يقول له المصري بضيق واستنكار: 'يا عم كلمني عربي!!'، ويمكن لهذا المتحذلق بالفصحى أن يرمي هذا المصري بالجهل، لكن الحقيقة أنك إذا ما طرأ لك اتهام أي إنسان بالجهل بلغة أمه، فإنك شخصياً تكون عندها في أزمة لا تحسد عليها، وهذا بالطبع ما يقوله علماء اللغات.. فاللغة العربية في عرف الإنسان المصري لا علاقة لها بلغة صاحبنا الفصيح في بناء جملتها، مما يجعله غير قادر على فهمها، حتى لو تعرف على معاني المفردات، ومن هنا كان ما ندركه جميعاً من صعوبات تعترض مصر في محو أمية أبنائها، فالمطلوب ليس تعليمهم كيف يكتبون ويقرأون لغتهم، وإنما تعليمهم لغة جديدة من الأساس، ثم تعليمهم كيفية كتابتها وقراءتها، بل ربما كان الأمر هنا أكثر تعقيداً وإرباكاً، فلو تم تعليم هؤلاء لغة مفارقة تماماً مثل الإنجليزية، لكان الأمر أيسر على الدارسين والمدرس بنوع ما، لخلو ذهن الدارسين تماماً منها، مما يسهل عليهم الاستيعاب نسبياً رغم بعد الشقة بين اللغتين، أما في حالتنا هذه فاستخدام الأمي لبعض المفردات العربية ولكن بطريقته الخاصة يسبب له إرباكاً، وهنا أيضاً نلاحظ ما يمكن اعتباره عجز اللسان المصري عن نطق حروف الثاء والذال وتعطيش الجيم بتلقائية ودون المجهد من الاصطناع في حديثه.
أما عنصر التضخيم في ادعاء اللغة الواحدة، وتأثيره على وحدة الوجدان أو الهوية، فإننا نتبينه في حقيقة التنوع الهائل في المخزون اللغوي المستعمل في الحياة، وهو التنوع الحادث ليس فقط بين شعوب مختلفة ضمن ما نتصوره الدائرة العربية، بل وأيضاً داخل الشعب الواحد، والمتحدث رسمياً بنفس اللغة وقد يكون بنفس اللهجة، مادام أي شعب لابد وأن يتوزع على بيئات متنوعة، يتعرف فيها الناس فقط على ما يحتاجون إليه في بيئتهم، بالإضافة إلى أجزاء أخرى يحتاجونها خلال اتصالاتهم بالبيئات المجاورة، وحتى هذه مرتهنة بطبيعة وظروف كل بيئة من تلك البيئات ونوعية التواصل مع غيرها، ويترتب على هذا ومع حقيقة أن الإنسان لا يستخدم اللغة فقط بطريقة قصدية، وإنما أيضاً يفكر بها ويتشكل ثقافياً وفق طبيعتها، فإن تأثير اللغة في توحيد وجدان شعب كبير متعدد البيئات والأنشطة لا يكون بالحجم الذي قد نتصوره عبر الافتراضات النظرية، ذلك أننا إذا نحينا مفهوم اللغة المحفوظة كاملة افتراضاً في القواميس، وكنا بصدد الحديث عما يستخدمه الناس في المنطقة ما بين الخليج (عربي كان أم فارسي) والمحيط الأطلنطي، ولسنا معنيين بنخبة من المثقفين، فإننا نكون أمام تنوع لغوي كبير، مصدره اختلاف المساحات التي يستخدمها (ويكاد يجهل غيرها) كل شعب وكل مجتمع من المجتمعات الموزعة من البداوة إلى أعلى مراحل التحضر، هذا بالطبع على افتراض أنها مساحات من لغة واحدة، ونستطيع ببساطة أن نلحظ هذا الأمر بمراقبة ما يعانيه القروي الذي يذهب إلى أقرب مدينة له أثناء محاولاته التواصل، ومن هنا أيضاً كان ما نشخصه من حالات نطلق عليها 'تمدن الأرياف' أو 'تريف المدن'، فهذا التبادل في القيم لا يرجع فقط إلى التغير في مظاهر الحياة المادية وعلاقاتها، لكنه يرجع أيضاً إلى التغير في الوجدان والهوية الثقافية المحمولة على تعبيرات اللغة ومفاهيم مفرداتها.. لسنا بالقطع في معرض بحث إشكاليات التواصل، لكن ما يعنينا هو وضع تأثير اللغة المشتركة (المفترضة) على هوية الإنسان في حجمه الطبيعي، دون تضخيم أو تهوين، فمن يتكلم الإنجليزية حتى ولو بصفتها لسان أم ليس من المحتم أن يكون إنجليزي الهوية والوجدان، وإن لم يكن منقطع الصلة بها، بدليل بقاء منظمة الكومنولث التي تضم دول الإمبراطورية البريطانية السابقة، وذلك بعد أكثر من نصف قرن من نهاية العصر الإمبريالي.
العنصر الثالث للتزييف في خطاب العروبة المتعلق بوحدة اللغة وهو التجاهل، يتمثل في تجاهل لغات أخرى حية ومستخدمة رغم محاولات قمعها، تلك التي لشعوب متعددة وأصيلة في المنطقة مثل الأكراد والأمازيغ والشعوب من أصول إفريقية، والتجاهل هنا مرتبط بما يتميز به الخطاب العروبي من هيمنة وتسلط وتهميش لكل ما عداه.
نستكمل في حلقات أخرى رحلتنا مع لغز الهوية المصرية.
[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه