هناك مئات الكتب والدراسات والأعمال الفنية حول ظاهرة الاستعباد وتجارة العبيد في العالم، لكن غالبيتها الساحقة تشير إلى أن المشكلة تتعلق فقط quot;بالبيض السيئين الذين يقضمون أصابعهم اليوم ندما على فعلتهم النكراءquot;. هكذا يقول quot;مالك شبلquot; إذ يراجع تلك الأفكار المنافية للحقيقة في كتابه الذي نشر مؤخرا تحت عنوان quot;الاسترقاق في أرض الإسلامquot;(1).
ومالك شبل، لمن لا يعرفه، باحث مرموق في الإسلاميات، جزائري يعيش في فرنسا، وله أكثر من 25 مؤلفا (بالفرنسية) من بينها quot;قاموسُ محبٍ للإسلامquot; و

الجارية البيضاء ـ جيروم ـ ق 19
نقلا عن كتاب L'Esclavage en Terre d'Islam
quot;مانيفستو من أجل إسلام تنويريquot;، quot;الإسلام والعقل ـ صراع الأفكارquot; و quot;القرآن للأطفالquot;، كما كتب مقدمة ترجمة لمعاني القرآن صدرت في 2001.
هذا الكتاب، الذي نعتبره بحق من أهم الكتب التي ألفها كاتب عربي في السنوات الأخيرة، لا نكاد نعرف مثيلا له ليس فقط في تعرضه وتوثيقه لهذا الموضوع الشائك، بل لكونه قام بالمهمة بتعمق وشمولية وموضوعية. وهدفنا من عرضه ليس البحث في quot;مزبلة التاريخquot; أو توجيه الاتهامات لأحد، لكن محاولة تفهم انتشار هذه الظاهرة المشينة التي لا يوجد أدنى إدراك لعمقها واتساعها، وكيف أن القضاء عليها لم يتم إلا بضغوط خارجية هائلة؛ وأيضا مشاركة المؤلف في مساعدة عالم عربي وإسلامي، لا يعرف سوى البطولات والانتصارات والأمجاد، على quot;فحص الذاتquot; وربما quot;الاعتراف بالأخطاءquot;، خصوصا وأن الظاهرة ـ كما يقول المؤلف ـ لم تختف تماما، وأن العقلية التي كانت وراءها مازالت حية وقوية!
قبل أن نسترسل في عرض الكتاب ننوه إلا أن المؤلف نادرا ما يحاول المقارنة (سلبا أو إيجابا) ببلاد وثقافات ونصوص دينية أخرى لأن (كما يقول ص 290) quot;القاعدة الوحيدة التي اتبعها كبوصلة هي الدفاع عن الحقوق غير القابلة للنقاش للفرد الإنساني؛ بل أكثر من قاعدة: فهي التزام أخلاقي صارمquot;.

***
الرق موجود بالطبع منذ القدم وكان اعتياديا في المجتمع البدوي، وخاصة في ديار أغنياء الحجاز، وأيضا في بلاد فارس وبين النهرين ومصر الفرعونية والصين. لكن المؤلف لا يستخدم عبارات منمقة عندما يسأل مباشرة (ص11): هل يداري الإسلام على quot;الاسترقاقيينquot; (أي المشاركين في السلسلة من الخطف والتجارة إلى الاستخدام)؟ هل يشجعهم؟ هل رغب الإسلام حقا في منع الاسترقاق، أم سعى فقط للحد من الأشكال الأكثر إيلاما والمعاملات الأشد إذلالا؟ ولماذا رُفعت الضريبة عن ملكية العبيد في صدر الإسلام إن كانت هناك نية في منعه؟
يتعرض القرآن لموضوع الرقيق في 25 آية موزعة على 15 سورة حيث النغمة العامة هي في مصلحة العبد، وظهرت قواعد جديدة مثل أن العبد المؤمن أفضل من الحر الكافر. ويُنظر للرق في القرآن والسنة على أنه كارثة طبيعية وجب أن يحمي المرء منها عائلته المباشرة والعائلة الكبيرة (المؤمنين) ـ وذلك باستثناء العدو والأسير ومن يمكن الحصول عليهم بطريق الشراء أو الحرب أو الغزو أو المقايضة. ولا يشكل العتق أمرا، بل مجرد نصيحة أو شيئا مستحبا.
شجع تعقُّد القواعد الفقهية وغموضها وتخبطها على انتشار الرق، وحتى فكرة أن quot;تحرير رقبة هي حسنة ذات مردود أخرويquot; تراجعت تماما مع الوقت ووجب الانتظار حتى القرن 19 عندما بدأت جهود إلغاء الرق. وحتى بعد عتقه، فالعبد لا يغادر أبدا محيط سيده بل يبقى quot;موالياquot; له، يجب عليه التغني بمديحه واحترامه.
فقه أهل الذمة كان يعني حمايتهم من حالة استرقاق جماعي، لكن الاستثناءات كانت تؤكد القاعدة، وخاصة في الأقاليم التي على حدود الإمبراطورية الإسلامية (خاصة العثمانية) حيث كان الفتيان المسيحيون يُقتنصون لإشباع احتياجات الإمبراطورية الواسعة إلى العبيد وخاصة في أيام توسعها، وهكذا تشكل جزء من الإنكشارية من أبناء القوقاز وجورجيا ومن اليونانيين والسلاف المنتمين إلى طوائف مسيحية، وخصوصا الأرثوذكس.
في المستوى التاريخي والأنثروبولجي، يشكل تعدد الزوجات، حتى لو كان محددا بصورة صارمة، تجسيدا للاسترقاق الذي يتجذر في العقلية العربية القديمة. وقد اتخذ الأمر في الإسلام غطاء قانونيا أكثر ملاءمة، إذ عوضا عن إلغائه تماما جرى التلطيف منه بطريقة براجماتية تتواءم مع العصر. ولكن النتيجة مثيرة للاعتراض بنفس الدرجة: فإن تعدد الزوجات هو استرقاق مخفف، ومحاولات تبريره اليوم فاشلة تماما، فهو لا يقل عن كونه استرقاقا داخل نطاق العائلة نفسها (ص 23).
ومن ناحية أخرى، تم تحديد عدد الزوجات بأربعة (بشرط العدل بينهن) لكن للرجل أن يأخذ ما شاء من الإماء بدون حد أقصى (الذين أُعطوا الاسم الغريب: quot;ما ملكت أيمانكمquot;!). وهناك حديث ذكره مسلم يقول أن الجارية التي لا تطيع سيدها، لا تقبل صلاتهاquot; (جنة الصالحين ص 836). فكرة أن أسيرات الحرب يمكن أن يستعاض بهن عن المؤمنات الحريرات (المحصنات) شكلت فجوة بين quot;الزوجة الشرعيةquot; و quot;السَرِية أو المحظيةquot;. كانت الثقافة الإغريقية الرومانية، أو الشرقية بصفة عامة، قد حلت المشكلة عن طريق معادلة: النظام والأسرة من ناحية، والمتعة من ناحية أخرى. لكن العقلية البدوية المعادية للمرأة وجدت هنا ثلاثة أمور ملائمة لها: 1) أسيرة الحرب يعترف بها دينيا كبديل مجاني عن الجارية (التي يجب شراؤها)؛ 2) المسلم المنتصر في الحرب يمكن أن يستخدمها كغنيمة حرب؛ 3) يمكن للرجل أن يتزوج قدر ما يشاء من المحظيات، بما أن الأسيرة أصبحت بديلا شرعيا عند من لا يملكون من الموارد ما يكفي لحماية حقوق المرأة الحرة.
يشبه الفقه الإسلامي القديمُ الجبنَ السويسري quot;جرييرquot; (الملئ بالثقوب)، حيث يمكن أن نجد فيه الشيء ونقيضه، ففي ذات النصوص عند النواوي نجد قواعد للعتق تشجع في نفس الوقت على زيادة الرق! ويدور الفقه في حلقة مفرغة، ويبدو معقدا ـ لكن بدون مشروع محدد أو عم حديث ذكره مسلم: quot;الأَمَة السمراء التي لا تطيع سيدها، لا تقبل صلاتهاquot; (جنة الصالحين ص 836)ود فقري.
وهكذا، قرنا بعد قرن، أصبح الرق حقيقة إسلامية، ولا نجد في أي مكان معارضة أو اعتراضا عليه. بل إن مؤرخين ورحالة عبر تاريخ الإسلام، مثل اليعقوبي، البيروني، ابن حوقل، الإستخري، المقدسي، البكري، ابن خلدون، المقريزي، العمري: لم يذكر أحد منهم شيئا عن إمكانية إلغاء الرق في الإسلام، بل كان كل كلامهم عن قواعده.
وبينما كان علماء الدين يعتبرون بعض المهن وضيعة (مثل الحلاق والصباغ والإسكافي وتاجر الأكفان الخ)، لكن النخاسة ليست من بينها. وكان أحد أكثر الهدايا تقديرا في أي بلاط في العالم الإسلامي هو الجارية المُغنّية أو الراقصة أو أي امرأة جميلة صالحة للمتعة.
توسعت تجارة الرقيق جدا بعد سقوط سوريا ومصر وأفريقيا الشمالية وأسبانيا في أيدي العرب الذين كانوا دائما يعتبرون العمل الشاق، وخاصة العمل الرتيب والزراعة، شيئا يجب أن يوكل لغير الأحرار. وكانت حملة أسلمة المغرب في القرنين السابع والثامن قاسية على الخاسرين. وبعد الانتصارات الأولى بدأ استرقاق أهل الجبال وتجنيدهم في جيوش المسلمين وأرسل البعض منهم إلى مراكز الفرز في مصر وسوريا والعراق والعربية.
كانت أفريقيا الشرقية أكبر حوض للإنتاج حيث اجتمع عاملا فقر الشعوب ووثنيتها مما شجع على استعبادها. وبالتدريج أصبح السود يُجلبون أكثر فأكثر لإشباع احتياجات مدن وثكنات الإسلام. وإضافة لسهولة عملية نسبية، كان العبيد خانعين غير ميالين لإثارة المشاكل أو الاحتجاجات. وكان النخاسة العرب يتولون السلسلة بأكملها: الجلب والشراء من زنجبار (الزنج) والسودان (السود) ثم النقل والبيع في مراكز موزعة عبر الشرق الأوسط،
وتبين قصص ألف ليلة وليلة (القرن العاشر) التي تربط الديني بالدنيوي، تفاصيل المعمار الاجتماعي في أيام العباسيين العظماء، وكم هي مليئة بالعبيد والزنوج. وكان العبد يساهم في زيادة عظمة سيده، وظهر تعبير quot;الله يرزقك مثله كثيراquot; في مصر. وكان العبيد يُحصَون ضمن إرث العائلة.
بيض وسود:
توجد في الإسلام فجوة هامة لا يجرؤ أحد على شجبها خوفا من رفع الغطاء عن موضوع حساس: وهو لون العبيد. بالطبع لا يفرق الإسلام بين عربي وأعجمي في الإيمان؛ كما أن النظرة السلبية ضد السود تعود لعصور قديمة، لكن المجتمع الإسلامي يرى فرقا كبيرا بين المؤمن الأبيض والأسود لأن الأسود هو غالبا عبد. بل لم تكن هناك حاجة لقول quot;عبدquot; إذ يكفي قول quot;أسودquot;
وإذ يسخر الجاحظ من العرب يقول (في الرسائل): [يقول الزنج للعرب: quot;هذا هو مظهر جهلكم: في الجاهلية كنتم تقدروننا لدرجة السماح لنا بتزوج نسائكم، ولكن بعد استتباب حكم الإسلام منعتم هذا اشمئزازا منكم لنا، بينما الصحراء كانت مليئة بنا والشيوخ الذين تزوجوا نساءنا دافعوا عن شرفكم ونصروكم على أعدائكمquot;].
أطهار وأنجاس:
العبد المؤمن خير من الحر الكافر. طارق بن زياد (من البربر) نموذج للعبد quot;الطاهرquot; إذ كان عبدا لموسى بن نصير (640ـ717) ثم quot;موالياquot; له بعد عتقه حمل أعلام الدين الجديد إلى أسبانيا.
وعلى مدى أربعة عشر قرنا كان هناك الكثير مثله، مثل السلاطين العبيد في الهند ومماليك مصر وإنكشارية تركيا العثمانية، وعدد كبير من علماء الدين والوعاظ والجنود والعازفين، بل أسس البعض منهم أسرا حاكمة. وبالعكس، فالعبد غير المتحول يبقى طول عمره quot;نجساquot; ـ وحتى لو أعتق فلا قيمة لهذا.
العبد المتحول غير ملزم بالحج، وعندما يموت فإن جنازته تختلف عن الحر: يقول الشاذلي (1058ـ1111) أن هناك صلاة قصيرة خاصة له (دقيقة واحدة)، ويقوم بها صاحبه وليس الإمام، ولا توضع علامة على قبره.
يُذكّر المؤلف (ص 53) أن الذين يتحدثون عن quot;ميثاق حقوق الإنسان الإسلاميquot; عليهم التأكد من الشروط الأساسية التي بدونها لا يقوم؛ مثل حرية الإنسان ـ بمعنى حرية الضمير التي لا تخضع مسبقا لدين معين (هو في هذه الحالة الإسلام)، وإلا لزم تحديد الحرية لتصبح فقط حرية الإنسان في نطاق الإيمان بالإسلام، مع التوقف عن الزعم في هذه الحالة بعمومية أو عالمية هذا الميثاق. فالميثاق الذي قد يعترف بالمساواة بين الناس، بشرط أن يكونوا مؤمنين، يناقض ذاته.
إضافة للإيمان، هناك مشكلة الأصل العرقي. فقد أدخل العربي في منظومته العقلية بشأن العالم أنه ُولِد كفارس وأرستقراطي صحراوي. وتُبيِِّن المقابلات المتعارضة quot;سيد غير سيدquot; و quot;شريف غير شريفquot; أن التفاخر القبلي لم يغير فيه الإسلام شيئا.
أحد خصائص العبد أنه غالبا بلا اسم: فهو مجرد عبد أو رق أو مملوك، والسيد مالكٌ أو مولى (بالنسبة للعبد المعتوق). ويمكن إعطاء نفس الاسم لعدد منهم في نفس الوقت، أو إعطاء أسماء وظيفية، مثل وصيفة، دادة، خادمة. لكن مع الوقت أصبحت بعض الأسماء مخصصة لهم، مثل مبروك ومبروكة، منصور، سعيد؛ أو أسماء أحجار شبه كريمة أو زهور: مرجانة وياقوت وياسمين وريحان وعنبر. أو أسماء طبقا للأصل الجغرافي: حبشي أو زنجي (من زنجبار).

رق الجنس
كتاب المصرية نجوى كمال كيره حول quot;الغلمان والجواري أيام الدولتين الفاطمية والأيوبيةquot; يبين البعد الدرامي للرق والاستعباد الجنسي. كانت النساء تباع وتشترى بالمئات والآلاف كل مرة، لاستعمالهن كجَوارٍ ومحظيات. بل قبل ذلك، أيام العباسيين وأمويي الأندلس، صارت المحظية جزءا لا يتجزأ من الثقافة كمرافقة لكل رجل غني أو ذي حيثية. ويقال أن أبي بكر الكبير (1542ـ1605) كان لديه خمسة آلاف جارية في حريمه، كما أن غيث الدين (1469ـ1500) كان لديه 15 ألف محظية وكان الحرملك عبارة عن إدارة كاملة لها الحرس والنساء المشرفات اللائي كن يستخدمن مئات الجواري السود أو الأتراك.
وطبقا للفقه فإن المرأة المسلمة الحرة هي حرة إلا فيما يتعلق بالجنس لأن واجبها الأساسي، إن لم يكن الوحيد، نحو زوجها هو أن تكون جاهزة لإمتاع زوجها (راجع كتاب مسائل الزواج للغزالي). وقد انتشرت في إيران والعربية والمغرب وغيرها ممارسات لا تختلف كثيرا عن الاسترقاق مثل زواج المتعة وغير ذلك.
وهناك أيضا ممارسات الغلمان، التي كانت من أهم خصائص العصر العباسي والتي أبرزتها بوضوح قصص ألف ليلة وليلة، حيث انتشرت أيضا المثلية الجنسية بين الخلفاء.
ولم يختلف الأمر في الأندلس، وفيما بعد في الدولة العثمانية، حيث احتلت الجواري مكانا هامة في الحياة العامة.
تبدأ الجارية رحلتها مع العبودية منذ الميلاد، ومع سن البلوغ تصبح محظية. ويتضاعف ثمن البيع إذا كانت عذراء. وعندما تخرج الجارية، مع السن، من مجال المتعة المباشرة، توكل إليها مهام تربية الأطفال (أحيانا هم أيضا رقيق) أو الخدمة المنزلية.
يقول المصري منصور فهمي في بحث له (1913) إن الحجاب لم يفرض على الجواري، لأنه كان يلزم معاينتهن بواسطة المشترين المحتملين أو عند توزيع المسبيات بين المحاربين. بل إن الجارية لم تكن ملتزمة بستر عورتها عند الوضوء.
وإذا كان المؤمن لا يستطيع الزواج من جارية سبق أن واقعها إلا إذا أعتقها، إلا أنه من حق السيد الذي يتزوج جاريته أن يحتفظ، رغما عنها، بمهرها فيما زاد عن ربع دينار..

***
وإلى مقال آخر لاستكمال عرض هذا الموضوع المؤلم!

Lrsquo;Esclavage en Terre drsquo;Islam, Malek Chebel, Fayard, 496 pp, Nov. 2007 (