انتظرت أياماً قبل التعليق على الواقعة المخجلة التي شهدتها نقابة الصحافيين المصرية أخيراً، لاستوعب الأمر من ناحية، وأتمكن من رصد ردود الفعل على الأمر من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن الكثيرين أدانوا واقعة منع انعقاد مؤتمر quot;مصريون ضد التمييزquot; بمقر النقابة، بعد اعتراض وصل إلى حد التلويح بالقوة من قبل نفر قليل من الصحافيين ـ لا يتجاوز عددهم سبعة أشخاص ـ لكن المصيبة أن يقودهم عضو منتخب في مجلس النقابة، بزعم أنها لن أن تسمح للبهائيين أو لأقباط المهجر بدخول النقابة، وعرض مظالمهم من خلال منبرها، لكن تبقى ثمة تساؤلات لا تخلو من الوجاهة في هذه الواقعة غير المسبوقة.
السؤال الأول هو: ماذا يعني أن يترك الصحافي قلمه، ويشهر بدلاً منه الشومة والنبوت ؟
وكيف يتبنى قادة الرأي العام الصراخ والتكفير منهجاً للاختلاف بدلاً من المناقشة الرصينة الهادئة، وهل تحولت نقابة الرأي وقلعة الحريات إلى نقابة للمتشنجين، يفرضون عليها أجنداتهم التنظيمية أو العقائدية، لتصبح شعبة من شعب الجماعة المحظورة quot;سابقاًquot; ؟
ثم ماذا يعني أن تصمت أجهزة الدولة حيال واقعة تشكل جريمة تمييز عنصري، وتصطدم بأبسط معايير المواطنة التي نص عليها الدستور، ويخرس القطاع العريض من الصحافيين المصريين عن واقعة اختطاف مقر نقابتهم بالقوة بواسطة عضو مجلسها الذي انتخبوه الأخ جمال عبدالرحيم ورفاقه السبعة الذين اتهمهم منظمو المؤتمر بحمل الشوم والنبابيب في وجوههم، فضلاً عن التطاول على نقيب الصحافيين الأستاذ مكرم محمد أحمد، وأهانته بألفاظ قبيحة وهتافات بذيئة، وهو رجل في عمر آبائهم، ناهيك عن مكانته الأدبية الرفيعة، وتاريخه المهني الحافل.
وماذا يعني تعرض المطالبين quot;بعدم التمييزquot; للتمييز الفج المصحوب بالقوة أو التلويح بها، وفي قلب القاهرة، وعلى رؤوس الأشهاد بينما دعاة التمييز يحتلون مقر النقابة عنوة، ومع ذلك يمر الحدث كأن شيئاً لم يكن اللهم إلا بعض مقالات تشجب وتستنكر من دون إجراء حاسم لمنع تكرار هذه الواقعة الخطيرة ؟
.....
تعرفون ماذا كان يمكن أن يحدث لو جرت في بلد تحكمه قوانين يقظة واقعة احتلال نقابة الصحفيين بالعصي ومنع المشاركين بمؤتمر عدم التمييز بالقوة، رغم حصولهم على موافقة مسبقة، وليس بينهم عضو تنظيم محظور كالإخوان، ولايرفعون شعارات عنصرية كالتي ترفعها الجماعة المحظورة quot;سابقاًquot;، أو غيرها من المنظمات والجماعات.
ولهؤلاء الذين يحاجون بأن جماعة quot;مصريون ضد التمييزquot; ليست مشهرة في الشؤون الاجتماعية، يحق لنا أن نتساءل: أليست جماعة الإخوان المسلمين محظورة ومع ذلك يعقد قادتها المؤتمرات وشاركوا مراراً في عدة فعاليات بمقر نقابة الصحافيين.
وهل حركة quot;كفايةquot; مشهرة بالشؤون الاجتماعية، ورغم الإجابة بالنفي فقد كادت النقابة أن تتحول إلى مقر للحركة وأنشطتها، وشخصياً ـ كعضو بالنقابة ـ لست ضد أن تستقبل نقابتنا الشيطان الرجيم، شريطة أن تكون بضاعته هي quot;الرأيquot; فقط، وليست النبابيت، فغاية ما نسعى إليه هو عدم الكيل بمكالين، وألا تفرض علينا قلة رؤيتها، فتمنع هذا وترحب بذاك، لاجتهادات تخصها وقناعات تعنيها ولا تلزم غيرها بالضرورة.
تخيلوا مثلاً واقعة كهذه حدثت في تركيا، ولن أذهب بعيداً واقول سويسرا أو ألمانيا أو حتى الهند، وأكاد أجزم بأنه كان سيحال أعضاء quot;فرقة الشوم والنبابيتquot; على المحاكمة الجنائية ليحاسبوا على انتهاكات صريحة للقوانين، في صدارتها السيطرة بالقوة على مرفق عام، والممارسات العنصرية التي تصطدم بالمواطنة، التي صدعنا جهابذة الحزب الوطني (الحاكم) باحترامها، لاسيما بعد أن أضيفت لأول مرة إلى النصوص الدستورية في التعديلات الأخيرة.
.....
مازلت أتساءل: ماذا يحدث لو انتشر سلوك الاختطاف في كافة مرافق الدولة، فيسطو مثلاً بعض المدرسين على مدرستهم لطرد تلاميذ بهائيين، ويحتل نفر من المحامين مقر محكمة لأن أحد أقباط المهجر رفع قضية أمام تلك المحكمة، ويختطف بعض الموظفين مقر شركتهم لأنها وظفت بهائية مثلاً، أو قبطية لها خال مهاجر لأميركا، وتخيل كل الاحتمالات الممكنة.
وهكذا تسود quot;ثقافة الاختطافquot; في البلاد، لنجد أن ذلك سوف يؤدي حتماً إلى اختطاف مصر برمتها، وأخشى أن تكون هذه السلوكيات بمثابة إرهاصات مبكرة لسيناريو مرعب يجري خلاله اختطاف البلاد والعباد، في لحظة عبثية كالتي شهدتها نقابة الصحافيين، حين منع الأخ quot;كبير الرحيميةquot; وإخوانه من المجاهدين الأشاوس مؤتمراً سلمياً ـ مجرد مكلمة ـ يشارك فيها نفر من الكهول المتعبين، الذين لا طاقة بالتصدي لمعارك الشوم والنبابيت.
وبعد أن تقع مصر في لحظة اختطاف من هذا النوع، سيخرج علينا الاستراتيجيون (إياهم) ليتساءلوا مستنكرين: وماذا في الأمر لو حكمنا الإخوان؟ وايه يعني لما نجربهم بعد أن جربنا غيرهم طويلاً ؟
أكذب لو قلت إنني صدمت فيما حدث، لأني أتوقعه، وأحذر منه دائماً، فالإخوان قادمون والأمر لا يعدو أن يكون مسألة وقت لأن ممارسات الحكم تصب في اتجاه تسليم مقاليد الأمور للإخوان quot;تسليم أهاليquot;، هل تعرفون معنى quot;تسليم الأهاليquot; ؟، إسألوا عنها السادة المجاهدين الذين اختطفوا مقر النقابة بزعم التصدي للبهائيين وأقباط المهجر.
وليت الأمر توقف عند حد اختطاف النقابة بل تجاوزه لاختلاق وقائع كاذبة كالحديث عن تلفزيون إسرائيلي جاء لتغطية المؤتمر، وهذا كذب بواح، فقد كنت حاضراً ولم أشاهد سوى مصريين يضطهدون مصريين، فدعونا من فزاعة إسرائيل هذه التي يلجأ إليها باعة التشنج كلما ضاقت بهم الحيل، ثم إن أي كاميرا تلفزيونية تصور في أرض مصر لابد أن تحصل على موافقة أجهزة الأمن، فهل هبط هذا التلفزيون الإسرائيلي المزعوم من الفضاء ؟، لكن الذي حصل بشهادة عشرات الشهود، أن التلفزيون الوحيد الذي حضر لتصوير المؤتمر كانت محطة (O. TV) التي يمتلكها رجل الأعمال نجيب ساويرس.
وبعدما حدث أقترح على الجمعية العمومية للصحافيين المصريين أن تستبدل اسمها إلى quot;نقابة الشوم والنبابيتquot;، وشخصياً ربما أبدأ بالتفكير في الاتصال بالمعلم quot;عبدو عفريتهquot;، قائمقام جمهورية العشوائيات، حتى يزودني بفريق مسلح بالجنازير والسيوف والصواعق الكهربائية، لاحتلال قاعتين بمقر النقابة أو حتى غرفتين، بغرض تأجيرها مفروشة، لتحسين الدخل والشهرة الإعلامية، فضلاً عن رضا الجماعة والحكومة معاً، وأي مكسب هائل هذا .
[email protected]