إن هذا موضوع قد يثير الجدل، والسجال، ولكننا نجد أن الواجب يقتضي العودة له بمناسبة لقاء كارترndash; مشعل، وتنوع الآراء حوله، ما بين النقد، وبين الترحيب. إن هناك من يصفون اتصالات كارتر بمشعل بالموقف 'المعتدل'، وهناك من يرونه خروجا على قرار إدراج حماس ضمن التنظيمات الإرهابية، ومن جانبنا، نرى أن الزيارة على الأرجح لن تخرج بنتائج هامة.
لا يجهل كارتر أن حماس قائمة على رفض الحلول السلمية، وتخريب كل فرصة مناسبة لحل سلمي، ناهيكم عن أن الإرادة الإيرانية هي التي تسيرها. أما موضوع تبادل السجناء، فقد جرت حوله اتصالات غير رسمية سابقة بالواسطة، واليوم تستمر الوساطة المصرية بهذا الشأن في حين أن كارتر لا يمثل غير نفسه.
في رأينا، أن كارتر بادر للزيارة من منطلق مثاليته السياسية، وحسه الأخلاقي، لا من تحليل دقيق لمضاعفات الصراع الفلسطيني ndash; الإسرائيلي، وتفاصيل الوضع الراهن في المنطقة، والعالم.
إن المثالية السياسية غير كافية لوحدها في العمل السياسي رغم أنها تضمن حدا مناسبا من الأخلاقية في السياسة، القائمة أصلا على المصالح. إنها لا تغني عن قدرة التحليل العميق، والخبرة العالية. والواقعية السياسية، وهذا ما لم يبرهن عليه كارتر حين كان رئيس الدولة الكبرى حتى في سياسته الداخلية، إذ كان الاقتصاد الأمريكي متدهورا، ولم ينقذه غير ريغان، الذي كنا نصدق ساخرين الروايات الكثيرة التي تشكك في قدراته.
إن الدليل الأكبر على تخبط السياسة الخارجية لعهد كارتر موقفه من الحركة الخمينية، ودوره في انتصارها، الذي دشن عهد طغيان الإسلام السياسي، والتطرف الديني في المنطقة، وما ولد عنهما من تنظيمات إرهابية.
لا شك في أن كارتر كان رئيسا مخلصا للإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وكان يريد الخير والسلام. لقد كان، كما قلنا، يتميز بالمثالية السياسية، التي كانت منفصلة عن واقع الأمور، وتضاريس القضايا الخارجية الساخنة، والمعقدة، وعندما تصل هذه المثالية حدها الأقصى فإنها تولد السذاجة السياسية.
إن كارتر قد عمل مخلصا لحلحلة مشكلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وكان لنشاطه أثر إيجابي لا ينكر؛ إلا أن الرئيس الأمريكي الأسبق، برغم هذا، لم يكن مستوعبا لمنعرجات، وتضاريس، الأوضاع الشرق ndash; أوسطية، وخصوصا الوضع الإيراني، علما بأن المعلومات المخابراتية الأمريكية عن إيران كانت حينئذ قاصرة، وغير كافية، [نقطة ضوء: إن الرئيس الواقعي كلينتون نجح أكثر بكثير في قضية الشرق الأوسط بمعالجة محورها، أي الصراع الفلسطيني ndash; الإسرائيلي، وذلك في الاتفاق الثلاثي الشهير مع الراحل عرفات، وباراك، لولا أن عرفات تراجع حال عودته في مزايدة منه مع التنظيمات الفلسطينية الإسلامية.]
كان كارتر يشارك بحماس شديد الرأي العام الغربي، واليساري خاصة، ومنظمات حقوق الإنسان، في إدانة جرائم السافاك: من اعتقالات بالجملة، وتعذيب وحشي للمعارضين، وإعدامات اعتباطية، وقهر للأقليات القومية. كان يرى في الشاه رجل الشر الأكبر الذي تجب إزاحته بأي ثمن، وإحلال الديمقراطية [ديمقراطية متوهمة!] محله.
لقد كان الشاه حاكما مستبدا، أوتوقراطيا، ولكنه لم يكن ديكتاتورا دمويا بدرجة صدام. كان مغرورا، ومصابا بجنون العظمة، معتبرا كل معارضة تحديا لشخصه، ومن هنا سماحه للسافاك بالاقتصاص غير الإنساني من المعارضين. كان الشاه يعتقد بأنه حقا ملك الملوك، ووريث الإمبراطوريات الإيرانية، طامعا في الخليج، ومعتبرا أن الخليج فارسي محض، وكلما حدثت حركة وطنية صاعدة في بلد مجاور كان يهب لتهديده بحشد الجيوش على الحدود، وهو ما وقع طوال العهود العراقية، ومنها زمن ثورة 14 تموز، بل، وحتى زمن صدام إلى أن تنازل لهم عن أراض، ومياه عراقية في اتفاقية شط العرب العتيدة.
إن مما زاد في غرور الشاه، وجنون العظمة، تدفق أموال البترول بكثافة على إيران منذ1973، فراح يعقد صفقات أسلحة كبيرة، وينفق ببذخ على التسلح
لقد كانت تتجمع مقدمات، وعوامل، انهيار النظام من الداخل، بسبب جرائم السافاك، وانتشار الفساد، ونفاق الحاشية وإخفاء المعلومات الدقيقة عن الشاه، وبسبب نفقاته العسكرية بينما الفقر منتشر؛ يضاف لكل ذلك نمط حياته الغربية، ونزعته لتحديث إيران، إذ كانا من الأسباب الهامة لعداء الملالي الحاد لشخصه، وكذلك بسبب 'ثورته البيضاء' لعام 1963، التي انتزعت ملكيات الأرض الكبيرة، ومنها ملكيات عائدة لآيات الله، وخميني كان منهم، ثم توزيع تلك الأراضي على الفلاحين.
إن هذه العوامل أدت لقدرة الملالي على إشعال حركة الاحتجاج، وتوسعيها ضد الشاه، وعندما نتفق مع الرأي بأن الشاه كان أوتوقراطيا، لا ديكتاتوريا دمويا كصدام، فإننا نشير مثلا لحديث ينقله رئيس المخابرات الفرنسية الأسبق، 'ديمارانش'، في حوار طويل أجرته معه الإعلامية التلفزيونية المعروفة، 'كريستين أوكرنت'، وقد صدر الحوار الطويل في كتاب عام 1986.
يقول ديمارانش إنه سأل الشاه في أوج المظاهرات الصاخبة: هل سيأمر باستخدام القوة العسكرية فأجابه 'لن أضرب شعبي'، فقال له المخابراتي الفرنسي ' إذن فسوف تخسر'، في حين لو وقع مجرد تجمع معارض صغير زمن صدام، لأغرقه بالدم. إن الأتوتقراطي يترك الملالي يبثون دعايتهم الدينية ذات الهدف السياسي، أما الدكتاتور الدموي، كصدام، فما أن ينبري أي رجل دين للتهيج في الجامع حتى يخرسه بالقمع.
لم يدرس كارتر الوضع الإيراني بعمق ودقة، وكان يريد إزاحة الشاه ومهما كان. إنه لم يفكر في البديل الممكن، ولم يلجأ مثلا لمجلس الأمن، أو لحلف الأطلسي، لتحذير الشاه من استمرار جرائم السافاك، والفساد، والتحرش بالجيران. كان يمكن للولايات المتحدة وحدها توجيه إنذار صارم له بوجوب حل السافاك، وتقديم المسئولين عن الانتهاكات الكبرى للمحاكم، وتشكيل حكومة معتدلة، ولم تكن إيران تخلو من ساسة معتدلين، وذوي خبرة عالية. كان يجب إنذاره بأن عرشه نفسه سيكون في مهب الريح لو استمر الوضع الإيراني على ما كان عليه؛ ولكن كارتر ضغط على قادة الجيش الإيراني بترك المظاهرات تستمر وتتصاعد، وأرسل جنرالا أمريكيا للاتصال بزعماء الجيش الإيراني لهذا الغرض.
لقد ذكرنا بعض الخطوات التي ربما كان يمكن تجربتها، مع خطوات أخرى، قبل أن يحل محل الاستبداد الشهنشاهي استبداد الملالي، الذين أراقوا أنهارا من الدم في مدة قصيرة، ونكلوا حتى بمن دعموهم من قوى اليسار، والحركة الكردية، وكما أشار عبد الرحمن الراشد، فإن كارتر كان أول الخاسرين إذ كوفئ على موقفه بأخذ موظفي السفارة الأمريكية رهائن، واعتبار أمريكا 'الشيطان الأكبر.'
مهما يكن، فإن كارتر رجل سلام، ووئام، ويستحق كل تقدير، مع التذكير بأن المثالية السياسية المنفلتة لرئيس يقود الدولة العظمى قد تؤدي لمخاطر كبرى، شأنها شأن التهور السياسي، والارتجال في اتخاذ القرار.
نسأل أخيرا: استوعب المرشح للرئاسة 'أوباما' تلك التجربة المرة، أم يعتبر كارتر النموذج المحتذى في التعامل مع مشكلات المنطقة، متوهما أن مجرد اتصاله بإيران، وسوريا، سيحل أزمة العراق، فيعود الجنود الأمريكان بسرعة متناهية كما يبشر؟!