هو ذات السيناريو الشرير الذي جرت وقائعه في غزة ـ وإن اختلفت بعض التفاصيل والملابسات ـ يتكرر الآن في بيروت، ويتمثل باختصار في قيام تنظيم عقائدي مسلح، بإشهار quot;سلاح المقاومة الإسلاميةquot;، في وجوه أبناء وطنه من المخالفين له في الرأي، ويمنح نفسه حق إقامة دولة داخل الدولة، دولة مكتملة الأركان تضم مؤسسات موازية وجيشاً وقوات أمن وعلماً ومحطات إذاعة وتلفزيون وصحفاً، وصولاً إلى شبكة اتصالات لا صلة للدولة المركزية بها، بل لا تعرف عنها شيئاً، وقد كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير، فما يفعله quot;حزب اللهquot; في لبنان أنه خلق دولة موازية لا تنافس الدولة المركزية فحسب، بل وتستأسد عليها أيضاً، ولعل السؤال لمن ابتلع الطعم الدعائي لآلة التعبئة الجبارة في quot;حزب اللهquot; هو: هل تقبل دولة ـ أي دولة ـ أن يكون هناك كيان quot;سياسي ـ عسكري ـ عقائديquot; يتجاوز الدولة المركزية مهما كانت المبررات التي تساق في هذا الصدد من طراز quot;سلاح المقاومةquot; وغيره من الشعارات الخبيثة، التي يراد بها الباطل والفوضى وتضع الدول على حافة الحروب الأهلية والتقسيم والتدويل ؟.
ليس في الأمر ثمة ألغاز، فالأمر واضح، ولعله من فرط وضوحه يكاد لا يراه المخدرون بسحر الخطب الحماسية للملا نصر الله، فحزب الله بعد أن فصلت قوة quot;يونفيلquot; بينه وبين إسرائيل، وأبعدت قواته ـ قسراً ـ عن الشريط الحدودي، لم يكن ليتحول إلى حزب سياسي ويتخلى عن آلته العسكرية التي ضخت فيها طهران ودمشق قدرات تتجاوز الخيال، لهذا لم يكن أمامه من عدو جديد سوى الشعب اللبناني من غير أبناء الحزب، أو المخالفين له في الرأي، وبالتالي تبلورت ملامح الأزمة اللبنانية بعد افتعال خصومة مع الأغلبية النيابية والحكومة، بدأت بخيام الشوارع، ووصلت إلى حد حرب الشوارع بالمدفعية الثقيلة والكلاشيكوف، فهذه القوة العسكرية العقائدية، التي طبلت وزمرت لها فلول القوميين والمتأسلمين وبقايا quot;تحالف الحثالاتquot; من الراديكاليين والمغيبين وهواة المزايدات، وجدت نفسها في وضع أقوى من الدولة وليس من الحكومة فحسب، وبالتالي ليس أمام الملا نصر الله سوى خطوة واحدة أن يعلن استقلال الجنوب ويجعل من quot;الضاحيةquot; عاصمة لدويلته، وبعد ذلك فلن يكلفه الأمر أن يفكر بشئ إضافي، فمؤسسات هذه الدولة من تعليم وصحة ودفاع وأمن وإعلام واتصالات وباختصار كل شئ قائمة بالفعل ولا صلة لها بالدولة اللبنانية، لكنه يرجئ هذه الخطوة لاكتساب المزيد من الأرض، لعله يستطيع ابتلاع الدولة اللبنانية برمتها، على أن يدع quot;محمية مسيحيةquot; وأخرى quot;درزيةquot;، وعلى السنة أن يختاروا العيش في إحدى هاتين المحميتين، أو أن يرضخوا لحكم ملالي حزب الله، ليعيشوا باعتبارهم quot;أهل ذمةquot;، ربما يطالبون بدفع الجزية، لكن المؤكد أنهم سوف يعاملون كمواطنين من الدرجة الثالثة .
هذا الوضع الشاذ الذي يستميت quot;ملالي حزب اللهquot; في فرضه على الواقع اللبناني ليس حديثاً، بل بدأ منذ عقود، وتراكمت أخطاء اللبنانيين وقوى إقليمية أخرى في تكريسه، من خلال ابتلاع أكذوبة انتصار الحزب على إسرائيل، وتحمل فاتورة حرب بثية لم يجن منها لبنان أرضاً ولم يحم عرضاً، بل دمرت بنيته التحتية وأبعدت قوات الحزب عن مواقعها في الجنوب، ناهيك عمن قتلوا وأصيبوا وتشردوا نتيجة الحرب.
وبالطبع لا يمكن أن تستمر الدولة المركزية في ظل هذا الوضع الشاذ الذي أصبح فيه كيان quot;حزب اللهquot; أقوى من كل مؤسسات الدولة مع اختطاف الدولة برمتها لصالح أجندات إقليمية، وعسكرة المجتمع في بلد له تجربة مريرة مع الحرب الأهلية ومن هنا لا يمكن للمسكنات أن تفيد في الحالة اللبنانية خاصة بعد أن وصل الأمر إلى حد الاحتكام للسلاح، بل يكمن الحل في قوة ردع الجيش اللبناني، باعتباره المؤسسة الوحيدة التي تحرص على وحدة التراب الوطني اللبناني، لهذا فلو كنت قريباً من قائد الجيش اللبناني، العماد ميشيل سليمان لنصحته فوراً بأن يتوجه إلى القصر الرئاسي، ويعلن الأحكام العرفية في البلاد، ويصدر قرارات بحل الحكومة والمجلس النيابي، ويستبعد كافة أطراف اللعبة من المسرح ـ على الأقل حالياً ـ لحين ضبط الأوضاع في البلاد بقبضة حديدية، فالوقت أصبح الآن ـ للأسف ـ للقوة والرصاص، ولم يدع المتصارعون موضعاً للتفاوض أو التفاهم أو التوافق، ومن ثم فإن فرض النظام وإبعاد أشباح الحرب الأهلية والتقسيم، يأتي في صدارة أجندة الأمن الوطني للبنان في الوقت الراهن، وليس هناك من مؤسسة يمكنها أن تفرض النظام ووحدة البلاد سوى الجيش .
لا أعرف على نحو اليقين حجم القوة العسكرية اللبنانية، أو مدى قدرتها على التصدي لمسلحي quot;حزب اللهquot;، لكن هذه المسألة يمكن تجاوزها بدعم عربي جاد، فبدلاً من اجتماع يتبادل فيه وزراء الخارجية العرب نخب اغتصاب لبنان على يد جماعة مرجعيتها في طهران، والاكتفاء ببيانات الشجب البلهاء ومناشدة الأطراف ضبط النفس وغيرها من الأدبيات السخيفة التي اعتدناها من النظام العربي الرسمي لن تحل أزمة ولن تجلب الاستقرار في لبنان ولا أي مكان، وبالتالي ينبغي على العرب أن يقدموا دعماً غير محدود للجيش اللبناني ليضطلع بمهمته التاريخية المنشودة .
يمكن للدول العربية أن تقدم المال والسلاح والتدريب والطائرات وغيرها للجيش اللبناني، بل وإذا اقتضى الأمر تشكيل quot;قوة ردعquot; عربية على غرار تلك التي شكلت قبيل اندلاع الحرب الأهلية، فما المانع من ذلك، لأن سقوط لبنان في مستنقع الحرب الأهلية أو التقسيم لن يدفع ثمنه اللبنانيون وحدهم، فهذه مجرد quot;بروفةquot; للتمدد الأصولي السني في غزة، والشيعي في لبنان، وهو ما سيحرض جيوب الأصولية في كافة بلدان المنطقة، ناهيك عن الاستخدام الإيراني للدويلة المحتملة في جنوب لبنان في الابتزاز السياسي إقليمياً ودولياً، بالقدر الذي يمنح وقتاً كافياً لطهران حتى تنجز مهمة التوصل للسلاح النووي، وبعد ذلك ستتبلور قواعد جديدة ومغايرة تماماً للعبة في المنطقة .
.....
وعلى الرغم من أنني اعتبر نفسي ليبراليا حتى النخاع، يبشر ليل نهار بدولة القانون والتعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة، إلا أن الحاصل في لبنان لم يدع مجالاً لمثل هذه الأحلام النبيلة بعد أن وضع quot;حزب اللهquot; جميع الأطراف اللبنانية والإقليمية وحتى الدولية أمام quot;الخيار صفرquot;، فلم يعد هناك من خيارات سوى الرهان على الجيش اللبناني، لينفذ انقلاباً دستورياً مضاداً للانقلاب الذي قاده quot;حزب اللهquot; بالفعل، بعد أن أغرته أوهام النصر والقوة التي ترتبت على الدعم غير المحدود من قبل طهران ودمشق، وفي ظل هشاشة الدولة اللبنانية ومؤسساتها، واكتفاء النظام العربي بالبيانات الإنشائية الفارغة، وبالتالي فلعلني لا أتجاوز الحقيقة كثيراً، ولا أبالغ حين أزعم أن مستقبل لبنان الوطن والناس، أصبح الآن في عهدة العماد ميشيل سليمان قائد الجيش, ومدى شجاعته في الإقدام على خطوة سوف تضعه في مصاف أبطال لبنان التاريخيين، لأن quot;حزب اللهquot; لن يتراجع عما حصده من مكاسب سياسية وعسكرية على الأرض، ولن يتوقف المدد القادم من طهران ودمشق له، بل سيتضاعف وليس بوسع الأغلبية النيابية أن تتصدى لميليشيات quot;حزب اللهquot;، المندفعة صوب القتال حتى الموت تحت مخدر عقائدي لا سبيل للإفاقة منه في المدى المنظور على الأقل .
والله المستعان
[email protected]