في أعقاب لقاء السحاب ذاك الذي جمع بين الملك عبد الله الثاني والبابا بندكتوس السادس عشر في حاضرة الفاتيكان كانت شهوة قلب الأول تخفق بأمنية عزيزة ألا وهي لقاء جامع شامل يوحد بين أبناء إبراهيم تحت سقف واحد، وما أجمل أن يجتمع الأخوة معا بالروح والعقل، في حوار يجمع ولا يفرق ويشرح ولا يجرح وكان المولد والانطلاقة للقاء مدريد، ارض الأندلس، زينة الدنيا وبهجة النفوس في الأيام الخوالي.
لماذا يدعو الملك من جديد للحوار؟ وهل لخطاب الحوار والجوار تأصيل ديني إسلامي يستند إليه وينطلق منه؟ ولماذا أسبانيا بالتحديد والتخصيص؟ وماذا عن ردود الفعل لدعوة ملك الحوار؟
تساؤلات كثيرة واجبة يحسب المرء أن المجال يضيق عن شرحها لكن الثابت أن الرجل من تلك النوعية التي يقول فيها المفكر العربي الكبير عبد الرحمن الكواكبي quot; رجال ينبهون الناس ويرفعون الالتباس، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون quot; ومن هذا المنطلق كان ثباته على حتمية المضي قدما في طريق اللقاء عوضا عن الافتراق ودليله في ذلك أن الكتب السماوية عن بكرة أبيها دعوة حوار بين السماء والأرض بين الإله الخالق والإنسان المخلوق،ليس هذا فحسب بل يمتد الحوار حتى إلى الباري تعالى وإبليس الرجيم كما ورد في سورة الأعراف وسورة الحجرات في شكل يستغربه العقل البشري سيما وانه يبرز حقائق إيمانية كالثواب والعقاب والخير والشر، والإيمان والكفر، وما كان لهذا الحوار أن يقوم من دون الأخر مما يمكننا معه القول أن الحوار يحتم وجود الأخر مهما اختلفنا معه ذلك انه لن يرقى للهوة الشاسعة بين اله النعيم وساكن الجحيم وهو حوار تقر وتعترف به كافة الأديان الإبراهيمية في كتبها السماوية.
هنا إذن المبتدأ، الحوار دعوة إسلامية راسخة الجذور، لا تستبعد ولا تستأصل الأخر وهي لغة بات العالم شرقا وغربا- إلا من نفر من أصوليين هنا وهناك - موقنا بأنه الترياق الشافي لألام العنصرية البغيضة الماضية في دروب الإقصاء سيما في القرنين الأخيرين بدءا من دعوات quot; الجنس الآري quot; في زمن النازية وصولا إلى محاور الخير والشر في عهد quot;الأصولية الأمريكيةquot; التي تجعل الضربات الاستباقية وسيلتها لمعالجة الشقاق وأداتها لتسوية أي افتراق.
ولماذا أسبانيا اليوم أندلس الأمس؟ في تقديري أن الاختيار جاء رمزا موقفا إلى أقصى حد ومد فشبه الجزيرة الايبرية التي كانت موحشة ومقفرة ماديا وثقافيا تحولت في زمن عبد الرحمن الداخل إلى واحة للتسامح امتزج فيها العرب والبربر والأسبان والقوط الغربيون وغدت العربية لغة الثقافة والفكر والأدب والعلم للجميع، وأصبحت قرطبة العاصمة زينة الدنيا، غير أن هذا النموذج الإنساني الرقيق من الحوار والتعايش قد قضت عليه زمن التعصب والتشدد والرؤية الأحادية الذي بدا في عهد المرابطين الذين احرقوا كتب أبي حامد الغزالي باعتباره متسامحا وقد بدا أهل الذمة في مغادرة دار الإسلام في أسبانيا وجاء بعدهم الموحدون الأكثر تشددا ورافق ذلك اعتلاء البابا انوسنت الثالث 1198 -1216 عرش البابوية وكان الاتجاه المتشدد المضاد رغم انه في العام 1085 وعندما أخضعت المدنية الأسبانية توليدو للحكم المسيحي بعد أن كانت تحت الحكم الإسلامي، كانت نموذجا في التسامح والتعايش بين الديانات بعضها البعض، وقد جرت في أوقاتها حوارات بين الأديان كتبها بطرس ابيلار وكلف quot; بطرس فينيرابلس quot; العلماء الأسبان بترجمة القران الكريم.
هذا المشهد انزوي في دائرة النسيان عندما تمكنت الأفكار الأصولية التطهيرية والفقهية من القبض على زمام الأمور في الأندلس وسقط النموذج الحواري بعدما تلاشت ثقافة التسامح.
والمقطوع به أن ذلك المشهد لم يغب عن أعين القائمين على الدعوة لمؤتمر مدريد في ظل رعاية الملك عبد الله وهذا يدلل على أمر جلل وهو انه بالامكان أن تسود ثقافة التسامح في المجتمعات الحديثة إذا توافر لدى الشعوب وقادتها وعي بأهمية هذه الثقافة وضرورة استمرارها وألا فان البديل يبقى مرا لزمان وزمانين.
والشاهد أن ردود الفعل على دعوة ملك الحوار تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنها مرحب بها في أعلى عليين سيما على صعيد حاضرة الفاتيكان والتي كانت محركا رئيسا لفكرة الحوار وذلك عندما ناقش المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني quot; 1962-1965 quot; على مستوى مذهبي وعقائدي إشكالية العلاقة بين الكنيسة والديانات غير المسيحية وصدرت وقتها وثيقة NOSTRA AETATE quot;في أيامنا الحاضرةquot; والتي أولت الإسلام والمسلمين تقديرا بالغا ومكانة سامية وتحدثت لأول مرة منذ أربعة عشر قرنا عن الإسلام بوصفه دعوة للتوحيد.
ولاحقا شهدت العلاقات تطورات عديدة على مستوى العلاقة بين الإسلام والمسيحية كان من أبرزها الخطاب الذي ألقاه سعيد الذكر البابا بولس السادس في كل عمان والقدس في يناير سنة 1964 إذ توجه بتحية أخوية إلى المسلمين وداعيا لاحترام الكنيسة لأولئك الذين يعتنقون الأديان التوحيدية والذين يعبدون إلها واحدا حقيقيا.
وفي أغسطس من عام 1964 وجه بولس السادس رسالته ECCLESIA SUAM quot; الكنيسة الجامعة quot; والتي ركزت على ضرورة الحوار مع كل المؤمنين وذوي الإرادة الصالحة لإرساء علاقات جديدة بين الكنيسة والديانات الأخرى القائمة في العالم وعلى ضرورة التقارب والحوار مع المسلمين بصفة خاصة.
ومن زمن البابا بولس السادس وصولا إلى البابا بندكتوس السادس عشر جرت في النهر الحواري مياه كثيرة لم تكن كلها صفاءا زلالا وهذا شان أي عمل بشري،لكنها في كل الأحوال استنت قاعدة حوارية تكللت بلقاء الملك والبابا وامتدت إلى تصريح المتحدث باسم حاضرة الفاتيكان quot; فريد ريكوماير quot; بان لقاء مدريد مهم بالنسبة للفاتيكان وبان دعوة الملك عبد الله للمؤتمر العالمي للحوار خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح ولهذا كان طبيعيا أن يترأس الكاردينال quot; جان لويس توران quot; المسئول الأول عن الحوار في الفاتيكان وفد بلاده للمؤتمر.
وتبقى في الجعبة تساؤلات كثر، لماذا الانشغال بالحوار بين الأديان في زمن العلمانية المنفلتة والرأسمالية المتوحشة والعولمة الأخطبوطية التي تختصم من مساحة الروحي لصالح المادي؟
الإجابة نحيلها للدراسة التي أجرتها مؤسسة بيرتلسمان الألمانية على 21 ألف شاب في 21 دولة حول العالم تتراوح أعمارهم بين 18 و 29 عاما وذلك لقياس مدى تدينهم والدور الذي يلعبه الدين في حياتهم وقد بينت نتائج الدراسة أن معظم الشباب في دول العالم المختلفة قد أصبحوا أكثر تدينا، كما أكدت على خطا الاعتقاد السائد بان الشباب اقل تدينا من آبائهم وأجدادهم وبالأرقام فان 85% من الذين شملتهم الدراسة يلعب الدين دورا فاصلا في حياتهم.ومن هنا تتجلى في واقع الأمر أهمية لقاءات وحوارات أتباع الأديان.
ولعل عقد هذا المؤتمر في دولة أوربية يلفت على نحو خاص إلى إشكالية الوجود الإسلامي في الغرب وحتمية فتح النوافذ والأبواب للحوار معه لا تهميشه أو حصره وفي هذا السياق يسترجع المرء مقولة quot; مانفرد كوك quot; رئيس الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا في أواخر عام 2002 فقد قال في تقرير له quot; أن الحوار هو السبيل الوحيد إذا نظرنا لمسالة الوجود الإسلامي في أوربا ولا يصح إزاء هذا الحوار أن نرتكب خطا تهميش الأصول الدينية المختلفة.
هذا الاتجاه عضده الفيلسوف الألماني quot; يروغن هابرماس quot; احد واضعي نظرية التداخل الجديدة بقوله في مؤتمر عقد في شهر يونيو الماضي تحت عنوان quot; المسلمون واليهود في أوربا المسيحية quot; انه يجب على المرء أن يفهم أن أوربا تعقد الأمور على نفسها مع المسلمين وثقافة الأكثرية المسيحية العلمانية تعرف في ألمانيا بالذات ما مدى طول الطريق إلى القيم الأوروبية وكم حدث من انتكاسات وتراجعا- حسب قول يورغن- وكم اعتمد الأوروبيون مرارا وتكرارا على الضغط الخارجي من اجل التمكن من تعلم التسامح.. فهل ينزل لقاء مدريد على مسلمي أوربا بخاصة بردا وسلاما؟
ويبقى قبل الانصراف تساؤل فلسفي... ما هي الأديان؟ عند البعض أنها منجم الأساطير المحررة من عبودية الخوف ومن سلطة الطغيان وهذا ما تحتاج إليه البشرية اليوم وعن حق، تحتاج إلى جيل جديد من المسيحيين والمسلمين واليهود وحتى من غير الموحدين، جيل يكتشف نظرة شاملة تقود إلى أنسنة الحياة، والى الحرب من اجل العدالة، والى مجابهة تسليع الإنسان.
وحسنا فعل مؤتمر مدريد بدعوة أخوة في الإنسانية من الكونفوشيسيون والبوذيين والسيخ فالأديان التوحيدية والمذاهب الأخلاقية في quot;حاضرات أيامنا quot; مدعوة لتوحيد جهودها كي تحرك ما فيها من عناصر محررة ونتقاسم هذه العناصر في حوار لا يقوم على الحجج والمقارعات العقيدية الدوجماطيقية الدقيقة ولا على التجارب الروحية الباطنية بل على الإسهام الذي يمكن الديانات المختلفة تقديمه لتحرير البشر.
تحية لملك الحوار والذي لن يسلم وصحبة الذاهبين في طريق الأندلس النموذج والرمز من انتقادات الناقدين ولوم اللائمين ولهؤلاء نقول quot; طوبي لمن يرى الضوء الخافت في يد غيره ويسارع إلى إشعال مصباحه إذا كان لا يزال يحتفظ بقليل من الزيت وألا فليسارع وليبتع له زيتا قبل أن يأتي العريس ويدخل المدعوون إلى العرس ويغلق الباب دونه،هؤلاء الذين يدعون العصمة ويقولون بالصواب المطلق ويرفضون فتح باب الحوار يظنون أنفسهم الشمعة الوحيدة وهم جزء من الرياح التي تطفئ كل الشموع quot;.