د.مزاحم مبارك مال الله: إن دراسة موضوع الواقع الصحي في الريف العراقي يحتاج الى جملة من المعطيات الهامة،والتي في أي حال من الأحوال لايمكن أن تكون بمعزل عن معطيات الواقع الإقتصادي والإجتماعي والبيئي والتربوي والتعليمي والثقافي للريف نفسه بشكل خاص وللبلاد بشكل عام،هذا إضافة الى أن المناخ العشائري والذي يعيشه الريف تحكمه عادات وتقاليد خاصة تدعونا الى أن ننظر إليها بأنها أحد أسباب سمات الصورة التي نراها اليوم في الريف.
فالمواطن الريفي (وأقصد الذي يعيش وينشأ ويعمل ويحيا بالريف) العراقي يعاني الأمرَين من واقع متخلف وفي بعض الأحيان مأساوي حيث تكون حياته مرتبطة بواقع تقوده ظروف تئن تحت وطأة التخلف الحضاري والصحي.وفي حقيقة الأمر فإن الريف يعاني من صعوبات حياتية أملتها وسببتها السياسات الخاطئة التي إنتهجتها الحكومات المتعاقبة،هذه الصعوبات أفضت الى واقع صحي متخلف بل في الكثير من الأحيان يكون هو بؤرة لتفشي العديد من الأمراض وخصوصاً تلك التي تنتقل بالعدوى المباشرة أو غير المباشرة.ولكن لأجل أن نكون منصفين يجب أن لا نغفل بعض الإجراءات التي تتخذها الجهات الصحية هنا أو هناك رغم محدودية هذه الإجراءات لأن المشاكل المنعكسة عن الواقع أكبر من حدود إمكانيات تلك الجهات.
فبالإضافة الى الأمراض المنتشرة بين أبناء الريف نجد الجهل وعدم الدراية والمعرفة بالإرشادات الصحية حول مختلف النواحي الصحية هو العامل المشترك بين غالبية سكان الأرياف هذا إضافة الى سيادة الأعراف المتخلفة وسيطرة الشعوذة وأساليب الدجل التي تتخذ منها بعض الوجوه مهنة يسترزقوا بها على حساب صحة المساكين والمتاجرة بأمراضهم.

أن قلّة بل ندرة المراكز الصحية المتخصصة في الأرياف وفقدان الكادر الطبي والصحي المتخصص ـ الكفء فيها قد ساعد على ظهور أو تواجد القابلات غير المأذونات،الختانين و..الخ من العناوين،وكذلك ساعد على سيادة المضمدين والممرضات في تلك المناطق،ورغم إحترامنا وتقديرنا لهؤلاء الممتهنين لايجوز تعدادهم ضمن الكادر الطبي المتخصص وإنما ضمن الكادر المساعد أو المعاون للطبيب أو الطبيبية،ولايجوز النظر إليهم وكأنهم المرجع الطبي والصحي في هذه المنطقة الريفية أو تلك، ثم ومرة أخرى وبسبب قلة هذه المراكز وكادرها وكذلك بسبب هبوط مستوى الوعي الصحي وتفشي الجهل والأمية بين سكان الأرياف قد ساعد الى حدٍ ما على سيطرة الأساليب المتخلفة بالتعامل مع الأمراض وسيادة مفاهيم بعيدة تماماً عن العلم وعن واقع الحال الصحي والمرضي للناس،لقد خضع أبناء وطننا في القرى والأماكن النائية والزراعية منها وكذلك ذات الطابع البدوي الى العديد من الأوهام الجاهلية والتي أصبحت الى حدٍ ما قناعات لاتتزعزع،بل وصلت الى حد الإيمان الراسخ وبالتالي مناصِبة العلم والمعرفة العداء والإستهزاء بهما.

لقد راح ضحية هذه الأعراف والتقاليد والأوهام والأفكار المشوّهة العديد من المرضى وخصوصاً الأطفال منهم والنساء.ولايسعنا هنا إلاّ أن نسوق بعض الأمثلة والتي نوردها ليس لحصر وإحصاء الأمراض :
(حالة الصرع ـ يقولون إن جنيّاً دخل رأس المريض،حالة الحمى السوداء ـ يعالجونها بإرضاع الصغير المصاب من حليب أنثى الحمار أو الماعز،إلتهاب العين وإنسداد الأنف لدى الرضّع يعالجونها بوضع قطرات من حليب الأم في عين أو أنف الرضيع،حالة الإسقاطات المتكررة لدى بعض المتزوجات يعدوّنها عمل سِحر للمصابة فيبدأون بأخذ الوصفات من بعض المشعوذين والذين قسماً منهم يتخذون من الدين ستاراً يوارون به أفعالهم الشنيعة،حالة إلتهاب عرق النَسا يعمدون مباشرةً الى طريقة الكي في العلاج،في حين وكما هو معروف وشائع إن آخر الدواء هو الكي،وحالة المغص المعوي الشديد ولأي سبب تجدهم يطلقون عليه مصطلح عجيب غريب ألا وهو ـ صرته مشلوعة ـ فما المقصود؟ لانعرف ! وحالات إسهال الأطفال المنتشرة بالأرياف يسمونه ـ الطفل كارف ـ وهذا مصطلح أخر عجيب غريب،أما حالات تعسر الولادة والتي أسبابها عديدة جداً ـ سنتناولها بالتفصيل ـ فهي الأخرى عديدة وسببت الكثير من المآسي، هذا عدا حالات الطوارئ التي يتعرض لها أهالي الأرياف كالسقوط من علو،عضة كلب،شدّة خارجية من إحدى الدواب، لسعات الحشرات..الخ).
هذا غيض من فيض فالأمثلة عديدة جداً والمواضيع منوعة.والسؤال الذي يطرح نفسه هو متى يتسنى للمواطن الريفي أن ينعم ويستفيد من التقدم العلمي والتطور الطبي والثورة التكنولوجية خصوصاً ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين؟

يبدو أن السؤال مهم جداً والإجابة عليه عملياً في غاية التعقيد،إذ إنه ولأجل قلب الواقع المر فالموضوع برمته لاينفصل عن القيام بثورة صحية وبيئية في كل المجتمع،وهذه الثورة مقوماتها القضاء على الأمية،تغيير وتطوير وتحديث المناهج الدراسية،مد شبكة الكهرباء والماء والصرف الصحي،تعبيد الشوارع وإنشاء المراكز الصحية والمستوصفات،تركيز ونشر التوعية الصحية والثقافة الطبية،القيام بالحملات الخاصة بالأمراض المشتركة،...الخ
ونظراً لصعوبة ومأساوية الواقع الصحي في الريف العراقي فإن ذلك يدفعنا أن نكيف مقالنا وفق هذا الواقع،وبالتالي سنناقش الموضوع بكل مفرداته وفق منهجية مختارة قابلة للتطوير والإستزادة.

كنّا قد أشرنا الى أن الواقع الصحي في الريف يئن من قيود التخلف وهو جزء من صورة الحالة العامة السائدة في الريف ذاته،وإن المرأة ضمن هذه الخطوط تعاني بشكل مزدوج من مضاعفات هذا الواقع،حيث إنها تكون هدفاً للأمراض وضحية لها،وبنفس الوقت تكون مقيّدة بالواقع المتخلف الذي يحدد إمكانيات التعامل مع هذا الواقع. فرغم قساوة الواقع والظروف التي أشرنا إيها تجد إن المرأة الريفية قد واجهت هذا الواقع على حساب صحتها وعلى حساب عمرها وتعلمها وتربيتها ثقافياً وصحياً.وقدر تعلق الأمر بعنوان الموضوع الذي نتناوله سنسلط الضوء على الواقع الصحي الذي يسود الريف العراقي وبالتالي تأثيرذلك الواقع على وضع المرأة الصحي الفعلي.
يمكن إجمال المعطيات العامة لما تواجهه المرأة في الريف من أمور تهم صحتها بما يلي :ـ

أولاً ـ الجهل والأمية :ـ
من وجهة نظرنا فإن تحت هذا العنوان تقبع علّة العلل،فبسبب الجهل والأمية المتفشية والتي تفشت بشكل ملفت
للنظر(وخصوصاً) خلال العقدين الأخيرين إنتعشت المفاهيم المتخلفة رغم إنها موجودة أصلاً،إضافة الى الشعوذة والدجل وأصبحت هذه المفاهيم (الرجعية والغيبية) هي السائدة على كل القرارات التي يتخذها أهل المريضة أو تلك التي يتخذها ممتهنو الطبابة (وخصوصاً الطبابة الفطرية ـ إن صح التعبير )،وبالتالي وكنتيجة حتمية ستكون المريضة ضحية هذا الجهل.وكمثال نذكر أن الكثير جداً من الحوامل لم يسجلّن في قسم رعاية الحوامل بل يجهلن وجوده رغم إنه ركن أساس من عمل كل مركز صحي وبالتالي سيخسرن رعاية طبية في غاية الأهمية حيث إن هذه الرعاية توفر اللقاحات الخاصة بالحوامل وأهمها لقاح ضد مرض الكُزّاز وهو من الأمراض المتوطنة في العراق وبالريف بالذات ،وكذلك فإن الرعاية تراقب صحة الحامل بشكل عام وتحدد المخاطر التي من الممكن أن تتعرض لها كالضغط الدموي (والذي إرتفاعه يسبب حالة تُعرف بـ/ تسمم الحمل / حيث يؤدي في حالة عدم خضوعه للسيطرة الطبية المباشرة الى تعرض الأم التي تلد لحالة الصرع وربما الى وفاة الوليد أو حتى وفاته في رحمها وفي حالات عديدة تم تسجيل وفاة الأم نفسها )،وكذلك السكري وفقر الدم إضافة الى مراقبة نمو الجنين،وبشكل عام تجد أهلنا في الريف يجهلون حقيقة هذه الخدمات بل ولايعترفون بها أحياناً،مستندين في ذلك الى إن كل نسائهم أيام زمان لم يراجعن طبيب ولم يأخذن لقاح.
ومثال آخرـ حالة حمى النفاس،وهي حالة في غاية الخطورة وتودي بحياة المصابة فيما لو لم تُعالج لأنها متسببة عن نوع من أنواع البكتيرياـ،حيث يفسر أهل الريف حصولها الى إنّ النفساء قد زارتها إحدى العاقرات أو إحدى الحسودات،خصوصاً إذا كانت تلك النفساء قد ولدت وليداً ذكراً !

ويسبق كل هذا مثال آخر يتعلق بالمعرفة والوعي الصحيين وهو الفحوصات التي من الواجب أن يجريها أي خطيبين قبل الإقدام على الزواج لأن في ذلك أهمية بالغة في تحديد صنف دم كل منهما وتحديد الإجراءات التي أحياناً يجب إتخاذها في حالة وجود إختلافات تؤدي (مستقبلاً) الى إسقاطات أو مشاكل بالحمل.
ومن الأمور الشائعة أيضاً هو الأعتقاد السائد إن المرأة هي المسؤولة عن جنس الجنين،أي يعتقدون أن هناك نساءً يلدن ذكوراً وأخريات يلدن إناثاً،وحقيقة الأمر إن الرجل هو المسؤول عن جنس المولود لأن خلية الرجل الجنسية فيها نوعان من الكروموسومات (إكس،واي) بينما في خلية المرأة الجنسية نوع واحد من الكروموسومات وهو (إكس)،فإذا أعطى الرجل لزوجته أثناء الإقتران إكس كان الحمل أنثى،أما إذا أعطاها واي فإن الحمل يكون ذكراً،هذه حقيقة علمية لاجدال فيها وبذلك فإن هذه الحقيقة ستسقط الحجة من يد الرجل الذي يسعى الى الزواج من إمرأة أخرى لتلد له ذكوراً !!

ومن الأمثلة المؤلمة والتي تتعرض لها بعض المتزوجات بسبب جهل أزواجهن وخصوصاً في يوم الزفاف والإقتران الجنسي هو عدم إفتضاض البكارة وظهور قطرات الدم التي تنتظرها العشيرة(بفارغ الصبر!)،مع العلم فقد ثبت علمياً/ طبياً وتشريحياً إن غشاء البكارة أنواع ويتفاوت سمكه ومطاطيته بين فتاة وأخرى وتعيسات الحظ تلكم النسوة اللاتي غشاء بكارتهن من النوع السميك والذي لايُفض بسهولة أو هو من النوع المطاطي ومقترنات برجال هم لايفقهون بالعلم والحياة شيئا.
أضف الى ذلك خصوصية المجتمع المنغلق في الريف إذ إنه يعمل على غلق كل منافذ المعرفة والدراية من حول البنات فتراهن يعانين من الكبت ويواجهن مصائرهن بكل حَيرة وجهل تام بحيثيات الحياة وتبقى الأم أو العمّة هي الموجّه الأوحد لهن الى أن يتم إذابة ما بقي لهن من معالم شخصيتهن الممسوخة.

(يتبع)