حوار مع فرقة سومر الفنية



اجرى اللقاء توفيق آلتونجي:
طلال عبد الرحمن أكاديمي وشاعر وموسيقار عراقي تراه يدور من مسرح الى اخر ومن جامعة إلى أخرى في السويد وعموم الدول الإسكندنافية ناشراً الثقافة العربية من أوسع قنواتها، ألا وهي الموسيقى. وقد تلتقيه صدفه في احد شوارع مدينة غوتنبرغ السويدية وتعرفه حالاً من حمله الذي يكاد ان يتراءى للمرء كسناك لاحدب مقوس الظهر ولكنك تكتشف بسرعة تلك الالة السحرية القادمة من اغوار التاريخ الرافديني ومن حضاراته القديمة. إنه quot;العودquot; الذي لا يزال يفتخر العراقيون ويتفننون في صنعه. ويعتبر العود البغدادي الاجود والاجمل لحنا، فهو مصنوع من نشيج عذارى لارسا وبابل واور واشور يخرج الحانا بدايتها عند صفاف دجلة والفرات ونهايتها تدور حول العالم لا نهائيا فتلتقي بارواح هائمة لتعيد فيها محبة الانسان والوطن وامل الاستمرارية والبقاء. التقيته وانا استمع الى الحان كبار ملحني الشرق الذين لحنوا لسيدة الغناء العربي ام كلثوم في حفل اقامتها الفنانة الموهوبة رهام، وجلسنا لندردش في احدى مقاهي المدينة عن محبوبتنا وملهمتنا في المنافي quot; العراقquot;، وعن هموم المهاجر في المنفى والموسيقى والطرب. واليوم التقيه كي يتحدث لنا عن مشاريعه وكيف تمكن من جمع كل تلك التناقضات في فرقة فنية يؤلفها اعضاء من دول اسكندنافية يغنون بالبغدادي وبلهجات العراق العذبة ناشرين الفرح والسعادة في افئدة المشاهدين والمستمعين.


-اللهجة العراقية تحتوي على العديد من الاصوات الغريبة علىالإنسان الاوربي. كيف وفقتم في تعليم المطربات تلك الاصوات؟

_ تماماً كما لاحظتم أنتم فإن المستمعين يلاحظون دائماً الإتقان الشديد للهجة العراقية واللهجات العربية الأخرى من قبل المغنيات السويديات في الفرقة. إلا أن أحداً لم يلاحظ ماهو أصعب من موضوع اللغة، ألا وهو الغناء نفسه، أي الأداء. فتعلم مخارج الحروف العربية أمر صعب بالتأكيد إلا أن تعلم الأداء بتفاصيل الحنجرة العربية وبروحية الغناء العربي أصعب بكثير جداً بل هو ضرب من المستحيل. وما يميز المغنيات ويجعلهن مثاراً للدهشة من قبل الجمهور العربي هو قدرتهن على أداء الغناء العربي بتقنياته الأدائية المعقدة وبخصائصه المتفردة التي يصعب على الإنسان الغربي إتقانها أو حتى الإقتراب منها لأنها تقتضي فيما تقتضي أن يكون الإنسان مولوداً في بيئة عربية بل مفطوراً على الغناء العربي منذ مرحلة ما قبل الوعي لكي يكون أداؤه عربياً خالصاً لا يمكن تمييزه عن غيره من العرب. أما أن يأتي إنسان مفطور على أساليب مختلفة تماماً عن أساليب وتقنيات الغناء العربي فيتعلم الأداء العربي في مرحلة لاحقة من العمر فذاك هو المستحيل بعينه. وهذا الأمر بالذات هو الذي يجعل المستمع العربي مندهشاً غير مصدق لعينيه وأذنيه وهو يستمع أو يرى فتيات من قلب المجتمع الإسكندنافي يؤدين الغناء العربي بكل لهجاته وألوانه تمامأ كالمغنيات العربيات بل أفضل أحياناً كما لاحظ الكثيرون. أحياناً عندما نقدم عرضاً أمام جمهور فيه عناصر عربية من مختلف البلاد العربية، نلاحظ أن بعضهم يأتي بعد انتهاء العرض ويكلم الفتيات باللغة العربية ليكتشف أنهن لا يتكلمنها. في مدينة إسكلستونا قدمنا عرضاً لمدة ثلاث ساعات. ولم يعرف الجمهور أن المغنيات سويديات إلا في نهاية العرض عندما قدمت أعضاء الفرقة بأسمائهم. وبقي الجمهور مذهولاً غير مصدق وظل جالساً في مكانه يصفق حتى بعد أن غادرنا القاعة. وفي عرض في مدينة هيلسنبوري سجلت جانباً منه قناة إم بي سي المعروفة ظهرت في البرنامج سيدة لبنانية من الجمهور وهي تعلق على الفرقة قائلة quot; لقد حسبنا طوال الوقت أنهن عربيات مصبوغات الشعر.quot;

وعوداً على موضوع الإتقان المحكم للهجات العربية من قبل هؤلاء الفتيات أقول إن وراء ذلك سراً بل أسراراً. والسر الأول أن اللغة بكل علومها هي في صلب اختصاصي. فقبل أن أصبح موسيقياً كنت أكاديمياً أدرس علوم اللغة في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة الموصل، حيث عملت هناك لمدة خمسة عشر عاماً. وقد تخرج على يدي خمسة عشر جيلاً. وللعلم فإن علم اللغة، أو اللسانيات (وهو علم حديث نسبياً) ينقسم إلى فرعين رئيسين: علم اللغة العام وعلم اللغة التطبيقي. ورغم أن اختصاصي يشمل الفرعين إلا أنني مارست الفرع الثاني أكثر في حياتي المهنية. وما فعلته مع هؤلاء الفتيات الإسكندنافيات هو أنني طبقت عليهن مبادئ وأسرار علم اللغة التطبيقي ففعلت معهن فعل السحر. هذا سر. أما السر الثاني فهو الصبر وطول البال. وكما يقال quot;طول البال يهز الجبال.quot; وأساس الصبر هو الرغبة الشديدة جداً لدى الطرفين في التعلم ( أقصد الفتيات وأنا). فكلا الطرفين كان وما يزال راغباً في التعليم والتعلم إلى درجة لا يمكن تصورها. فلو حضرت معنا في التمرين فإنني متأكد بأنك لن تقاوم أكثر من نصف ساعة. أي ستصاب بالملل والضجر وتغادرنا إلى غير رجعة. وهذا ما حصل مع آخرين فعلاً! تدريبنا يشبه تدريب المغاوير والقوات الخاصة ولكنه تدريب جميل متحضر راق يعرف كلا الطرفين منا ماذا يفعل ولماذا. وكلا الطرفين يدرك جيداً أهمية ما يقوم به من عمل إبداعي متفرد تاريخي لا يشبهه أي عمل إبداعي آخر في تاريخ الإنسانية كلها. صحيح أن هناك الكثير من الأجانب الذين قد يتقنون العزف على آلة عربية، لكن أحداً منهم لا يجرؤ ولن يجرؤ على غناء الموال والعتابة والبوذية والبستة والنايل والميجنا والموشح والدور وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش والغناء الصعيدي والغناء الجبلي اللبناني أو المقام العراقي أو الغناء الخليجي والحضرموتي والسوداني والمغربي والتونسي والليبي والجزائري وكل ألوان الغناء العربي المعروفة. أجل فهؤلاء الفتيات الإسكندنافيات يتقن كل هذه الألوان مرة واحدة! والسر الآخر في عملنا هو ما يعرف في مبادئ علم اللغة بالتشخيص والحل. فإذا شخصت الخطأ وعرفت أسبابه اهتديت بسهولة إلى الحل. وهذه خبرة اكتسبتها عبر حياتي المهنية سواء في الجامعة أو مع الفرقة. فالإنسان العادي عندما يستمع إلى شخص يتكلم لغته يعرف مباشرة أن هذا الشخص ذو لكنة غريبة. ولكن الإنسان العادي لا يعرف أسباب اللكنة ولا يفكر في تفاصيلها وفي مواطن الخلل. وأعطيك مثالاً يعتبر سراً من أسرار اللغة أيضاً. ألأصوات الغريبة في اللغة العربية التي ذكرتها لي في البداية ليست بمشكلة حقيقية أمام المتعلم الأجنبي. فالإنسان دائماً يتعلم ماهو جديد وعلى مدى العمر كله. ألمشكلة الحقيقية هي في الأصوات المتشابهة ما بين اللغتين، أي اللغة المراد تعلمها واللغة الأم. ولا أقصد هنا الأصوات المتطابقة كلياً بين اللغتين وإنما المتشابهة جزئياً كصوت (ر) أو (ل) أو (أ). فهذه الأصوات موجودة في اللغتين العربية والسويدية، ولكنها تختلف جزئياً عن بعضها في المخارج. ولا زلت بعد أكثر من عشر سنوات من التدريب أعاني من هذه الأصوات وأتوقف عندها طويلاً لدى أية أغنية جديدة أعلمها للفتيات. بل إن الزمن الذي أقضيه في تدريب الفتيات على نطق النسخة العربية من هذه الأصوات هو تسعون في المائة من الزمن الذي أقضيه معهن في التدريب على أغنية بأكملها. والسبب هو تدخل اللغة الأم وفرض نسختها من هذا الصوت أو ذاك من الخزين المتجذر في مكان ما من اللاوعي. أما ألأصوات المحسوبة على أنها خاصة باللغة العربية كأصوات (ض) و(ظ) و (ح) و (خ) و (ع) فقد اتقنتها الفتيات من أول وهلة ولم تعد تشكل أية عقبة. والسر الآخر في هذا الإقبال على التعلم والتعليم هو طبيعة العلاقة المتفردة والعميقة التي تربطني بهؤلاء الفتيات منذ أكثر من عشر سنوات. فعلاقتنا ليست مجرد علاقة فنية مهنية تقتصر على التمرينات والعروض، وإنما علاقة صداقة طيبة إنسانية عميقة الجذور. وما عدا العلاقة المهنية فنحن أصدقاء نسأل عن بعضنا ونتقاسم همومنا وأفراحنا وأحزاننا ونزور بعضنا البعض في كل المناسبات السارة والحزينة معاً. وهناك تداخل إجتماعي بين عوائلنا وأطفالنا. كل ذلك يرتفع بمستوى عملنا إلى أرقى درجات الوعي والتحضر. أما السر الآخر فيتعلق بمستوى ذكاء هؤلاء الفتيات وكذلك حرفيتهن العالية. ف(ماريانا) و (آنا) و(سارة) خريجات معاهد موسيقية عالية. والواحدة منهن تجيد العزف ببراعة على أكثر من آلة غربية. كما أن الواحدة منهن لها فرقها الموسيقية والغنائية الأخرى، بل تقود الواحدة منهن أكثر من فرقة موسيقية ولديهن أغانيهن الخاصة بهن سواء باللغة السويدية أو النرويجية أو الدانماركية أو الإنكليزية أو غيرها من اللغات. كذلك لهن إسطوانات ليزرية خاصة بهن. كل ذلك خارج فرقة (سومر). بمعنى أنهن لسن طارئات على عالم الغناء والموسيقى، بل إن مواهبهن المصقولة بالخبرة والعلم قد أسهمت في نجاحهن في أداء الغناء العربي الصعب جداً على الإنسان الغربي نظراً لما يكتنفه من أرباع التون التي تعتبر نشازاً في الإذن الغربية، ناهيك عن تقنيات الغناء العربي الغريبة عليهن تماماً والمتعارضة مع التقنيات الغنائية الغربية المخزونة لديهن في أعماق اللاوعي!

*كيف ترون تجاوب المتلقي وهل يستسيغ المستمع الاوربي الاصوات الغير مالوفة؟

- بالنسبة للجمهور العربي فإن مشاعره تتعدى مشاعر الفرح والطرب إلى مشاعر الدهشة والفخر والإعتزاز بالجهود المبذولة في العمل. هي نوع من مشاعر رد الإعتبار! فأنت تعلم أن العرب والمهاجرين بصفة عامة يعانون من عزلة عن المجتمع السويدي لأسباب لها علاقة بالإختلاف الثقافي. وفي وسط هذا الجو تأتي فتيات إسكندنافيات فيؤدين الغناء العربي الشعبي والتقليدي والكلاسيكي وبهذا الإتقان المتفرد. لا شك أن الإنسان العربي يشعر برد الإعتبار وبالفخر بهذه الفرقة. وهذه المشاعر الجياشة الحارة التي يغمرنا بها العرب من كل البلاد العربية بعد كل عرض مشاعر تعودنا عليها وسمعنا منها الكثير. وللفرقة جمهور ممتاز في مدينة مالمو. هناك يعشقون الفرقة ويستقبلونها بالأحضان صغارهم والكبار. يدعوننا إلى بيوتهم ويدللوننا فخراً منهم واعتزازاً بالفتيات الإسكندنافيات اللواتي يقدمن لهم أغانيهم الأثيرة لديهم في زمن صار المغنون العرب يقلدون الغرب في غنائهم وموسيقاهم. هناك أيضاً جمهور عراقي عظيم في هولندا. وأذكر أن العرض الذي قدمناه في لاهاي كان عرضاً تاريخياً بالنسبة للفرقة والجمهور على حد سواء. كان جمهوراً تاريخياً بحق. وقد غمرنا بأرقى وأنبل وأعظم المشاعر التي يتمناها كل من يقف على مسرح. وأذكر أن من بين الناس الذين قفزوا إلىالمسرح ليقدموا لنا التهاني فنانين كباراً لهم حضور عظيم في تاريخ الفن العراقي المعاصر. منهم على سبيل المثال الفنان الكبير حمودي الحارثي والأستاذ الفنان حميد البصري والفنانة المعروفة شوقية، وغيرهم. لقد سمعنا منهم مشاعر لا يمكن تقديرها بثمن. كلمات كبيرة وعبارات رائعة ودموع في أعين بعضهم من شدة الفرح والفخار.

أما المستمع الأوربي فإن ما يشده إلى فرقتنا هو شئ آخر. المستمع الأوربي لا يدهش لفكرة فتيات أوربيات يغنين عربيا لأنه ببساطة لا يدرك مدى الإتقان المدهش للغة والنغم العربيين من قبل هؤلاء الفتيات. ما يدهش الجمهور الأوربي هو أصالة النغم العربي وتنوعه واختلافه عن غنائهم وكذلك الإيقاع العربي الذي ينبض بطريقة مختلفة عن إيقاعاتهم. و الجمهور الغربي بصورة عامة لديه فكرة مسبقة رديئة عن الغناء العربي بسبب ما يسمعه من غناء تجاري في المطاعم العربية التي يرتادها، حيث يستمع وهو يأكل إلى موسيقى وغناء عربيين على أردأ ما يكون بسبب قلة ذوق أصحاب المطاعم. لذلك فعندما تتهيأ له فرصة الإستماع إلى غناء عربي أصيل وبألات عربية خالصة فإنه يدهش بالأصالة والثراء النغمي والإيقاعي. أما المشاعر، فرغم أن الإنسان الأوربي عامة والسويدي خاصة، يعبر عن مشاعرة بالقطارة أو بالمسطرة، إلا أنني لاحظت أن جمهورنا الغربي لا تقل مشاعره عن جمهورنا العربي، وغالباً ما أتفاجأ بمشاعر دافقة كشلال دافئ بعد هذا العرض أو ذاك. وقد سمعت عبارات لم أتوقع أن أسمعها من إنسان أوربي أو سويدي بشكل خاص. ومن تلك العبارات مثالاً لا حصراً quot; شكراً لأنكم أخذتمونا معكم إلى القمر!quot; أو quot; لأول مرة في حياتي أسكر من دون خمرة!quot; أو quot;غناء هذا أم حشيشة!quot; أو quot; لماذا أعمتنا الظروف عن هذا النوع من الغناء؟quot; أوquot; من زمان لم أسمع غناءاً له طعم!quot; أو quot;إن مجرد التفكير بوجود فرقة مثل هذه الفرقة في السويد أمر لا يصدق!quot; ومشاعر كثيرة من هذا النوع، بعضها موثق في صحف ومجلات سويدية وأوربية حيث جاءت مثل هذا المشاعر على لسان صحفيين كبار متخصصين في الموسيقى. وأحتفظ بنسخ من أكثر من ثلاثين صحيفة ومجلة أوربية بعضها متخصص بالموسيقى. وإن شئت أطلعتك عليها، لأن الحديث عنها طويل جداً. وأذكر مرة أنه في مدينة فالون السويدية تقدم إلي بعد العرض رجل سويدي في التسعين من عمره ( ومثله يكون عادة قد تقولب على تراث معين من الغناء ويصعب عليه تقبل أي نوع آخر حتى لو كان من بلده). فسألني الرجل عن هوية الغناء الذي كنا نؤديه، فقلت إنه غناء العرب. فقال لي quot; تمنيت لو أنني عربي!quot; واستغربت من كلامه، فقال إنه قد أوشك أن يموت من شدة خفقان قلبه انفعالاً بذلك الغناء وأنه أحس بأنه يغرق!quot; وأنت تعلم ماذا يعني أن تصدر مثل هذه المشاعر من رجل سويدي لاسيما في مثل هذا العمر! وفي المكان ذاته والوقت ذاته كان هناك طفل سويدي في الرابعة أو الخامسة من عمره صار يبكي ويصرخ بعد انتهاء العرض. وعندما سألت إحدى فتيات الفرقة أم ذلك الطفل عن سبب صراخه، عادت لتقول لي quot;لن تصدقني لو قلت لك إن ذلك الطفل يصرخ لأنه يريدنا أن نعيد العرض من البداية!quot;
والحق أقول أن أكثر ما يطرب السويديين هو ألحان رياض السنباطي والغناء العراقي والبدوي! وقد ذكر لي مرة صاحب شركة التسجيل، وهو ألماني، إنه لا يحب إلا غناء الروك، وأنه لا فرق عنده بين غناء عربي أو هندي أو تركي أو ماليزي أو غيره. كل هذا الغناء في أذنه شئ واحد، إلا الغناء العراقي. وعندما سألته كيف يميز الغناء العراقي عن غيره فقال إن مقياسه في ذلك شعر جسمه. إذا وقف شعر جسمه فالغناء عراقي أما إذا لم يقف فإنه أي غناء آخر. وطلب مني أن أجربه. وفعلاً جربته مرتين فصدق شعر جسمه.


*الايقاع في الرقص الشرقي يعتمد على امكانية الراقص في اداء الرقصة في مكان محدود والرقص الحديث يرى في الحركات وحتى البهلوانية منها اداة تعبيرية فهل ترون ان هناك جمعا بين الشرق والغرب في اداء الرقصات عند اعضاء الفرقة؟

- الحقيقة أنه ثمة سوء فهم في هذا الأمر بالذات. ففرقة سومر هي فرقة غنائية صرفة وليست فرقة راقصة. أحياناً يحدث أن يطلب منا أحد المنظمين السويديين أن نطعم الغناء بالرقص. عندها نستعين بالسيدة ماريا رودبو، وهي أستاذة وخبيرة في الرقص الشرقي والرقص السويدي أيضاً. وهي كذلك عضوة في المجلس الثقافي الأعلى. وماريا تجيد كل أساليب الرقص الشرقي الكلاسيكي والحديث بما في ذلك الرقص الأندلسي!

- ان ما يسمى بعملية التكامل في المجتمعات الغربية ياخذ منحنى اخر في تركيبة فرقة سومر فهي اندماج الغرب في الشرق فكيف وفقتم في ذلك وما مدى استجابة المجتمع السويدي لمثل هذه التجارب؟

- شكراً على هذا السؤال الذكي والعميق! لقد لا حظت إذاً أن فرقة سومر هي أعمق من مجرد فكرة فرقة موسيقية غنائية! إنما هي فرقة ورسالة ومدرسة. فهي فرقة لمن يريدها مجرد ذلك. ولكنها أيضاً رسالة حضارية فحواها أن الشرق لم يمت وأنه لا زال قادراً على العطاء وإغناء الحضارة الغربية بروافد حضارية أصيلة. فالحضارة الغربية التي انطلقت في القرن العشرين لم تأت عن خواء. وهي ليست غربية صرفة وإنما هي نتاج متراكم لما سبقها من حضارات قديمة إنطلقت من الشرق. وحدها حضارة سومر في بلاد ما بين النهرين لم تتكئ على غيرها فكان السومريون أصحاب أولى براءات الإختراع في التاريخ في مجال العلوم والعمران والتعليم والزراعة والصناعة والتجارة والترجمة والتوثيق والمكتبات والطرق الداخلية والخارجية والفنون والأداب وحتى النوتة الموسيقية. حدث هذا في عصر ما قبل الذاكرة الأنسانية حين كان الغرب يعيش في الكهوف. وتبعت ذلك حضارات أخرى نشأت في وادي النهرين ووادي النيل وكذلك في بلاد فارس والهند والصين والعالم الشرقي القديم. فإذا كانت الطفولة هي العقل الباطن للإنسان فإن الشرق هو العقل الباطن للحضارة الغربية. عشرات الشبان والشابات السويديين والسويديات يقبلون على تعلم الغناء العربي لدي! وعندما أسألهم عن سبب إقبالهم على الموسيقى العربية في مثل هذا العمر(عشرون إلى ثلاثين) يقولون إن هاجساً دفعهم لذلك. إنهم إذاً يجدون في موسيقى العرب والشرق عموماً بديلاً لصخب موسيقاهم المعدنية والكهربائية والنحاسية التي شبعوا منها في المراهقة حتى صارت صداعاً في رؤوسهم من كثرة تكرارها. إنه نداء العقل الباطن الذي يحركهم بهذا الإتجاه. فينشدون الراحة النفسية والتجلي الروحاني في موسيقى الشرق الهادئة الدافئة الشفيفة. وبهذا تصبح فرقة سومر مدرسة للموسيقى العربية في السويد! ومثلما ذكرت في مقدمتك فإنك تراني أحمل عودي من مدرسة إلى مدرسة ومن جامعة إلى جامعة في طول البلاد وعرضها أدرس الموسيقى والغناء العربيين بناء على طلب من تلك المؤسسات التعليمية، وآخرها كان جامعة أوبسالا التي يناهز عمرها الثلاثمائة عام. بل إن بعض الأغاني العربية التي تغنيها فرقة سومر قد دخلت في المناهج الموسيقية المدرسية السويدية. والسؤال إن كان هذا يكفي لأن يحتل الغناء العربي المنزلة التي يستحقها. والجواب طبعاً كلا. نحن بحاجة إلى ألفي فرقة مثل فرقة سومر لكي يحصل ذلك. والسبب هو أن الفكرة الراسخة عن العرب والشرقيين بصورة عامة يصعب تغييرها بمجرد ظاهرة صغيرة كظاهرة سومر. فعلى سبيل المثال إحتاج الأمر إلى أكثر من عشرات الألاف من فرق الجاز في السويد منذ الخمسينات لكي يصبح الجاز أمراً واقعاً بعد أن كان مبتذلاً في رأي السويديين حتى في الستينات. بل إن بعض العوائل المحافظة وبعض الكنائس في تلك الحقبة حرمت على السويديين موسيقى الجاز. وقد اطلعت من خلال بعض المناهج الدراسية على نص قديم في الدستور السويدي يحرم الجاز في البلد ويعتبره تحطيماً للذوق العام في البلد. والأن هناك في المدينة التي أسكنها لوحدها خمسة آلاف فرقة جاز. أما مجموع فرق الروك والبوب والديسكو فسبعة آلاف فرقة. ورغم كل ذلك فإن فرقة سومر قد شقت طريقها في هذه الزحمة ووجدت لها إسماً ومكاناً في البلد. لكنها بالتأكيد لا تكفي لوحدها في بلد عدد المغنين المسجلين رسمياً في نقابة الموسيقيين السويديين فيه ( وأنا عضو فيها وأطلع على نشرياتها وإحصاءاتها) مليون مغن محترف في بلد عدد نفوسه أقل من تسعة ملايين نسمة. بينما عدد عازفي الكيتار ثلاثة ملايين. أما عدد الفرق السمفونية فأكثر من ثلاثمائة فرقة. ويعتبر السويد ثالث أكبر مصدر للموسيقى في العالم بعد الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث ترفد الموسيقى الدخل القومي السويدي بملياري دولار سنوياً.
في هذا الخضم الهائل يجد الإنسان الشرقي الأكاديمي والمبدع والمفكر والفنان نفسه أمام تحد كبير، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار أو كالهارب من نار إلى جليد. فلا النظام السياسي والإجتماعي في وطنه بقادرين على استيعابه ولا هو بقادر على مواكبة الحياة الثقافية والإبداعية في المهجر لأنه أمام مجتمع غريب لا يفهمه ولا يفهم ثقافته وأساليب حياته وأولوياته الحياتية والثقافية. وعدد كبير من أولئك المبدعين يجد نفسه في نهاية المطاف متقوقعاُ على نفسه وعائلته وبضعة أصدقاء من أبناء الوطن. بل إن عدداً من أولئك يفقد الرغبة حتى في تعلم لغة البلد الجديد وتجده بعد عشرين عاماً يأخذ معه مترجماً لدى مراجعته لدائرة رسمية. وكل ما يتبقى له أمل في العودة إلى الوطن الأم بعد إنصلاح الحال في ذلك الوطن. أما أولئك الذين يخترقون المجتمع الجديد ويتفاعلون معه مؤثرين ومتأثرين فهم الإستثناء وليس القاعدة. وانا شخصياُ أعتبر نفسي رجلاً محظوظاً لأنني وجدت الوسيلة التي ساعدتني على االولوج إلى قلب المجتمع السويدي. وهذه الوسيلة هي الموسيقى. والحقيقة أنني وجدت نفسي في قلب المجتمع السويدي منذ الأسابيع الأولى لوصولي إلى هذا البلد، والفضل في ذلك للموسيقى العربية.

لفنانة ماريانا هولمبو


وعوداً على موضوع الإندماج الثقافي الذي أثرته في سؤالك أقول إن المفهوم السائد هنا في الغرب هو أن المهاجرين عليهم أن يندمجوا في ثقافة البلد الذي يهاجرون إليه وأن يذوبوا في تلك الثقافة. وهؤلاء وحدهم هم الذين يحصلون على فرص أفضل للعمل وللعيش الكريم. وهذا الأمر نصف صحيح في رأيي. فنصفه الصحيح هو أن المهاجر لا بد أن يتعلم جوانب مهمة من ثقافة بلاد المهجر وأن يجيد لغة البلد الذي يعيش فيه لكي يكون عنصراً فاعلاً في المجتمع الجديد. والنصف غير الصحيح هو أن يكون الإندماج من طرف واحد فقط. فالأمم الشرقية لا زال لديها الكثير من العناصر الحضارية الطيبة التي يمكن أن تغني الثقافة الغربية دون أن تمسها بسوء. ونحن في فرقة سومر نحاول جاهدين أن نقدم نموذجاً طيباً لما يمكن أن يضيفه الشرق للغرب. نحن تقريباً الفرقة أو المجموعة الوحيدة في الغرب التي عكست مفهوم الإندماج كما لاحظت أنت. وبذلك منحنا مفهوم الإندماج بعداً ثانياً أو إتجاهاً ثانياً يكمل الإتجاه الأول ولا يلغيه. وهذا هو المفهمو الشامل للإندماج الثقافي الفاعل ما بين الأمم المختلفة. وهذا هو المفهوم السليم والعادل والمؤثر. أما الإندماج الأحادي الحاصل فعلاً فهو اندماج تفاضلي لا تكاملي يؤدي فيما يؤدي إلى زيادة المسافات بين الثقافات على مستوى الأمم وليس إلى تقليصها.
والحقيقة أنني أنطلق من أساس فكري حضاري وفلسفي بدايته أفكار إبن خلدون من القرن الرابع عشر ونهايته آرنولد توينبي من القرن العشرين (وهما أفضل مثال للتكامل الثقافي بين الشرق والغرب). وأحسب أن المجال لا يتسع هنا لخوض هذا الغمار!

*استمعت الى القرص الذي اهديتموه لي واسمعته للعديدين من اصدقائي فتعجبوا كثيرا لذلك الصفاء في نطق الكلمات في الاغاني بعد ان عرفوا المطربين وهذا بالطبع نجاح كبير لكم كيف ترون العلاقات بين اعضاء المجموعة خاصة وانتم تمارسون عملا جماعيا؟

- أعتقد أنني أجبت على هذا السؤال ضمناً في معرض جوابي على سؤال سابق. لكن لا بأس أن أضيف! إن قيادة مجموعة من الناس مختلفين في ثقافاتهم ونفسياتهم وأولوياتهم تنطوي بلا شك على متاعب كثيرة تلقى برمتها على عاتق القائد. وليس هناك مجموعة من الناس تعمل معاً دون مصاعب. وحسبنا أننا موجودون منذ عشر سنوات ونعمل معاً بنفس الهمة والمعنوية. وهذا شئ نادر جداً في عالم الفرق الموسيقية. فأغلب الفرق الموسيقية لا تقاوم كل هذه السنين وتنتهي بعد بضع سنوات بما في ذلك الفرق العالمية الشهيرة. نحن مستمرون منذ عشر سنوات! وخلال هذه المدة تأسست الكثير من الفرق ثم اختفت! والسبب هو أن نمط العلاقة بيننا هو من النوع المتحضر جداً سواء خلال التدريب أو خلال العرض أو ما قبل وبعد العرض وما يصاحبهما من ضغوط نفسية على الجميع، والجميع يتفهمها.

*هل ستشاهد مسارح العراق شيئا من فعالياتكم والمهرجات الفنية المقامة على مسارح الشرق بصورة عامة ام ستبقى الفرقة محلية رغم انكم شاركتم في برامج تلفزيزنية على القنوات الفضائية العربية؟

- هذا طموح شخصي وحلم يراود أعضاء الفرقة. نتوق إلى ذلك المساء الذي تقف فيه ماريانا أو آنا على مسرح في بغداد أو البصرة أو الموصل أو أية مدينة عراقية فتشدوان (غريبة من بعد عينج يا يمه) أو (ألله لو تسمع هلي) أو (حركت الروح لمن فاركتهم) أو (ماني صحت بويه احا) أو ( ماريده الغلوبي) أو (ماندل دلوني) أو (مكتوب مكتوبين أوديلك) أو (جوز منهم لا تعاتبهم بعد جوز) وغيرها الكثير من الأغاني العراقية الجميلة التي تتقنانها. عندها سنرى ما ذا سيقول الحمهور العراقي هناك وماذا سيفعل.

أما بالنسبة للقنوات الفضائية فليس لنل أمل في أي منها. الفضائيات تريد فتيات نصف عاريات ونهوداً نصف مكشوفة ومؤخرات بارزة وما شابه. وفرقة سومر ليس فيها مثل هذه الأمور. لدينا فتيات غربيات جميلات محترمات يرتدين زي الهاشمي العربي العراقي الخليجي الجميل ويصدحن بغناء عربي أصيل يشمل أغلب الألوان الغنائية الصعبة التي صار الناس يفتقدونها في مثل هذا الزمان الردئ.

وحدها قناة المستقلة كانت الفضائية العربية الوحيدة التي استضافتني لمدة ساعة ونصف الساعة. وذلك كله بفضل الأستاذ الفنان المحترم أحمد المختار الذي وضع برنامجه (حديث العود ) كاملاً تحت تصرفي. والآن هناك فكرة من قبل الأستاذ أحمد لأعداد حلقة كاملة من البرنامج خاصة بفرقة سومر وفي بث حي على الهواء. ونحن نعد العدة لذلك في الوقت الحاضر.

ويجب ألا أنسى فضل القنوات التلفزيونية السويدية والنرويجية التي أعدت برامج عديدة وطويلة عن الفرقة فساعدتنا بذلك على الإنتشار. هذا طبعاً بالإضافة إلى كل الإذاعات السويدية بلا استثناء، وكذلك إذاعة البي بي سي التي بثت برنامجاً كاملاً عن الفرقة ونشاطاتها.

الفنانة آنا اوترتون


- العام القادم هو عام تعددية الثقافات في السويد فهل اعددتم برامج خاصة بهذه المناسبة؟

- هذا صحيح! وفرقتنا جاهزة دائماً للمشاركة في مثل هذه المناسبات. ولدينا برنامج عريض ومنوع. فبالإضافة إلى الغناء العربي الخالص هناك أعمال خاصة من مؤلفاتنا. هناك أيضاً أعمال غنائية يمتزج فيها الغناء الشعبي السويدي بالغناء العربي وبأسلوبين. ألأسلوب الأول هو أن تغني المغنيات السويديات بلغتهن فأجاوبهن بلغتي، وبالعكس. أي هناك أعمال أعددتها بصورة مغايرة بحيث تسمعني أغني بالسويدية بينما تجاوبني المغنية السويدية بالعربية! فهل ثمة ما هو أجمل من هذا التكامل؟

دعني اقدم شكري الجزيل لكم ولجيع اعضاء الفرقة متمنيا لكم جميعا الابداع الدائم وشكرا على اجابتكم على الاسئلة الخاصة بالقسم الثقافي لموقع ايلاف الالكتروني.