حوار مع أحمد سعداوي

من مراسل إيلاف في بغداد صفاء ذياب: لم يظهر أحمد سعداوي إلى الساحة الثقافية العراقية إلا وفي حقيبته العديد من المشاريع الثقافية، ففي بداية معرفتنا به أهدانا مجموعته الشعرية (الوثن الغازي) ومن ثم لحقها بمجموعة (نجاة زائدة) وبعد مدة قصيرة نشرت له دار ألواح في إسبانيا مجموعته الثالثة (عيد الأغنيات السيئة)...
عرفناه فناناً مبدعاً في العديد من الفنون التشكيلية وخصوصاً الكاريكاتور، حيث أصدر كتاباً فنياً في هذا الفن أسماه (My head)، إلا أنه في الوقت نفسه يرفض أن يقيم معرضاً فنياً له... وأخيراً طل علينا بروايته quot;البلد الجميلquot; التي صدرت في بغداد، وفازت في الوقت نفسه بجائزة الصدى الإماراتية إضافة إلى أكثر من رواية ينوي تقديمها للنشر. عن منجزه الإبداعي في الشعر والرواية والنقد الأدبي كان لنا معه هذا الحوار:

* قرأنا لك نصاً في المكان عن مدينة الثورة بعنوان (مدينة الثورة تراب المكان في المهب) في العدد الخامس من مجلة مسارات العراقية، في الوقت نفسه قرأنا لك أكثر من مادة توحي بارتباطك العميق بهذه المدينة، لماذا هذه المدينة بالذات؟ وما الخلفية التي تبني عليها مشاهداتك ورؤاك حول شوارعها؟
- هناك بديهية تقول إن أي كاتب في العلم ينطلق مما يعرفه باتجاه ما لا يعرفه، خصوصاً الكاتب الروائي أو كاتب السرد بصورة عامة، لأن الشعر يحمل بعداً تجريبياً، وإن سعى لحمل ملامح مكان ما، أما في الرواية، فأنت معني بزمان ومكان معين، أنت معني بأبعاد ما... كما انطلق فوكنر من الجنوب الأميركي، وماركيز من الكاريبي، فأي كاتب في العالم ينطلق من المكان الذي يعرفه. وأنا ابن لمدينة الثورة، ولدي خزين من الصور أكثر من أي شخص من خارجها... وفي النهاية ليست قضية الرواية تعبير وثائقي عن مكان بعينه، وليست صوتاً لهذا المكان، إنما يبقى الروائي يبحث عن مادة ممكن أن يشكلها، ومن ثم هي المادة التي يتابعها يومياً..

* ما السر في مدينة الثورة التي نجدها عند أغلب الكتاب الذين نشأوا فيها؟ القضية لا تخصك لوحدك، إنما أتوقع أن هناك سراً في هذه المدينة يجعل كتابها لا يستطيعون مغادرتها..
- مدينة الثورة لها وضع خاص ضمن إطار المدن الكلاسيكية، وهي نموذج للمدن التي نشأت مع الدولة الوطنية العراقية، بخلاف مدينة بغداد التاريخية التي عبرت أزمان كثيرة حتى وصلت إلى مرحلتها الحالية. حيث أنشأتها الأنظمة التي تقاطعت مع الاستعمار وأنشأت نفسها ضمن علاقة الأنا- الآخر، أو الوطني- الأخواني، الذي أطلقه ادوارد سعيد بمقابل الاستعماري... هذه مدن نشأت بسياسة ارتجالية بدعوى تحقيق العدالة الاجتماعية... ولم يكن سكانها أكثر من مجموعة مهاجرين عشوائيين نُظموا بمكان واحد لا أكثر..
مدينة الثورة لا تشبه مدن الصفيح العشوائية، بل مدينة أنشئت لعلاج مشكلة المهاجرين من الجنوب- تحديداً- إلى بغداد.
وما يعزز تضامن سكان المدن الناشئة هذه، التي أنشئت على أطراف المدن الأصلية أو العريقة والتاريخية، أنها تضامنت مع الخطاب الوطني التحرري، وأكبر دليل على ذلك إن المد الأيديولوجي الهائل منذ فترة تأسيسها في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي وحتى نهاية السبعينيات هو المد الشيوعي، بغض عن طبيعة الفكر العميق والانتماء لهذا الحزب.

* ألا تتوقع أن هذا نابع من الفقر الذي كان يحيط بهذه المدن الجديدة، كالثورة والشاكرية والشعلة والشعب؟
- بالتأكيد، معظم الذين سكنوا في أطراف بغداد هم من الفلاحين الذين مارسوا بعد هجرتهم مهناً سهلة للغاية، كالحارس والشرطي والعامل، ومن ثم فإن مردودات هذه المهن قليلة جداً، وهذا ما دفعهم للانجرار لهذه الأفكار التي تحاول تعبئة الجماهير لأفكار المساواة والتحرر، لذلك عنى هذا الجيل بتعليم أنبائهم على الأفكار الجديدة والصرف عليهم حتى يساووا أبناء المدينة... الجيل الثاني، أي أبناؤهم، كانوا موظفين.

* إذاً هل تتوقع أن هناك تناقضات كانت تغلي داخل هذه المدينة؟
- نعم، إن هذا النموذج من المدن ظاهرياً مدن حديثة، لكنها في داخلها تغلي بتناقضات هائلة، تحتوي امتدادات لا مدينية... وهناك تنازع مفروض على هذه المدن، كطبيعة العلاقات، وجذورها الاجتماعية والثقافية التي تجمع أبناء المدن، فنموذج كهذا اعتقده نموذجاً غنياً، تستطيع أن تجد فيه صوراً بشرية غاية في الغرابة تشبع حاجاتك الكمية، وتكاد تجد في نماذج كهذه مقابل للمتخيل الفني، ولا أتوقع أن هذه حالات عامة في الأسلوب الروائي، كالنموذج المصري الذي غالباً ما ينتهل من المدن الفقيرة والأحياء الشعبية.

* ألا تتوقع أن التغيرات التي حصلت على مدينة الثورة، من الريف إلى المدينة، جرت على أحمد سعداوي نفسه... حيث انتقلت من كونك شاعراً مفرطاً في الكتابة الشعرية إلى روائي، أو لنقل علي سبيل الحصر باحثاً عن الرواية؟
- هناك قضية تناولتها كثيراً في مقالاتي النقدية، وتُطرح دائماً بيني وبين أصدقائي المشتغلين في حقل الرواية، وهي عبارة عن سؤال أساسي: ما جوهر الرواية؟ وما جوهر الشعر؟ إذا كانت القصيدة كبناء معماري خاص هي الشعر، فلا أعتقد ذلك، بل هناك بُعد عميق في الشعرية يمكن تسميته بالشعرية، وهذا ليس جديداً على الدراسات النقدية الحديثة، يقودك التفكر بالشعرية إلى التفكر بفلسفة الفن، أو بعبارة أخرى الثيمات الشعرية في العمل الإبداعي سواء الشعر أو القصة أو الرواية يجعلك تسند إلى أساس في فلسفة الفن بمعنى أن العلاقة النهاية التي تجعل رواية ما رواية مهمة أو ذات بعد تأثيري هي العلاقات الشعرية بين وحدات الرواية. فلا يوجد هناك افتراق في التأمل بين الحقل الشعري والروائي، حيث هناك مولد واحد... لكنني شخصياً أجد أن اهتمامي الآن منسحب إلى السرد أكثر من الشعر، وغايتي الأساسية هي إنجاز هذا البعد الفني، هناك كتابة للشعر ولكن ضمن فضاء تعبيري مختلف، وهذا خيار شخصي لا يمكن تعميمه ولا أريد أن أطلق أحكاماً ما. في الوقت نفسه أنا اكتب الشعر بين الحين والآخر، ولكنها لا تمثل محور تجربتي الإبداعية الآن.

* أرى أن الشعر التسعيني شعر منبت في الشعر العراقي، إذ حاول أغلب الشعراء التسعينيين أن ينفلتوا من جذورها الأولى ليشكلوا وجهة خاصة بهم، بغض النظر عن كونهم قد أجادوا بإمبراطوريتهم الجديدة أم لم يجيدوا؟
- عقد التسعينيات عموماً في الإطار العالمي، هو العقد الذي شهد نهاية تاريخ الأشكال الأدبية، أقيم في نهاية التسعينيات معرضاً تشكيلياً شاملاً للفنانين البريطانيين في لندن، سُئل أحد النقاد عن الاتجاه السائد في الفن التشكيلي أوروبياً، فقال: هناك نوع من إعادة قراءة للمدارس والتيارات التي أنتجت الفن التشكيلي، ولم تعد هناك فرصة لظهور مدارس فنية جديدة، وانتهى زمن ظهورها على مستوى الشكل الفني... هذه الملاحظة عامة، ولكنني رأيت أن عقد التسعينيات كان بداية لنهاية المدارس الفنية.
أما بخصوص الشعر، فقد بدأ الشعر الحديث إنجازاً على مستوى الشكل، خصوصاً في الشعر العراقي، انتهى هذا الهاجس في الثمانينيات إلى شكل قصيدة النثر في الشعر، وهناك طابع عراقي خاص بهذه القصيدة... وأصبحت قصيدة النثر هي المساهمة الأكبر في إرساء قصيدة النثر العربية، هذا بغض النظر عن القيمة! المآل النهائي للتجربة الثمانينية التي كانت فضاءً مفتوحاً لتحطيم كل القيود الشعرية التي ساعدت عليها خلفيات سياسية واجتماعية سببها الحرب التي أدت إلى تحطيم كل هذه الأطر، والمعايير التي يمكن أن يقاس عليها الشعر. لهذا تجد تجربة الشعر الثمانيني على مستوى الشكل، كانت فضاءً تجريبياً وصولاً إلى النص المفتوح الذي أدى باللا شعر أن يكون شعراً بالمفهوم الحديث... من الصعب أن يأتي شاعر ويقول إنني اكتشفت شكلاً جديداً في الشعر بعد الثمانينيات، حيث فُتحت كل الأبواب ولم يعد هناك تابو شعري. الجانب الايجابي في هذا الأمر، إنه مع مرحلة التسعينيات انتهى الهوس بالجانب الشكلي، والذي حدث هو ارتداد وموات، هناك انفلات وقاموس واسع من القصيدة، وهناك التجريب هو القصيدة... البعد الهذياني والعبثي الذي يذكرنا بالقصيدة الدادائية... ما حصل هو ارتداد معاكس، قصيدة متقشفة، لغة حسية جداً، غياب البعد الذهني إذا جاز التعبير بوجود لغة مباشرة. ويمكن إدراج الإطار العام لتجربة الشعر التسعيني ضمن مفهوم الأداء، هناك معنى أنت تؤديه، أي أننا عدنا إلى مفهوم كلاسيكي جداً حيث اللغة أصبحت مجرد وعاء لا أكثر. ونجد أن هذا الانشداد هو أيضاً انشداد شكلي، لكن سرعان ما تبعثرت... هناك من ظهر تحت يافطة الجيل التسعيني، وهناك من ظهر ضمن هذا الجيل، أنت وأنا وماجد موجد وماجد عدام وغيرهم الكثير، إذ ليس لنا علاقة بالجيل سوى أننا ظهرنا فيه. وباختصار، هذا الهوس بالشكل في التسعينيات هو إعادة لهوس الثمانينيين، ولكن كان هناك قاموس واسع من الأشكال، وأنت معني فقط كيف تشكل أو تنتج شكلاً مناسباً لتجربتك، ولكن الإبهار عاد إلى عمق القصيدة وليس إلى شكلها الخارجي... والآن الشعر هو الأكثر خفوتاً في الأشكال الإبداعية خصوصاً بعد تغير النظام والمناهج السياسية المتنوعة إذا كان على الجانب الاجتماعي أو الإعلامي. وأصبح الشعر مساراً شعرياً، وتقويم التجربة لا يتحمل الخضوع إلى معايير خارجية، أي أن القصيدة لم تعد تحاكم بالقصيدة الموجودة على الساحة، بل بمعيار شخصي فقط. وما اكتسبه الشعر العراقي الآن هو انهيار المعايير الخارجية استناداً إلى المدارس النقدية الجديدة كمنهج استجابة القارئ والتلقي الحديثة... وأتاحت الساحة الثقافية الآن إلى الشاعر العراقي لأن ينجز شعره من دون هيمنة معيار خارجي، واعتقد أن هذا شيئاً جيداً للغاية، هناك معيار داخلي، وهوس موجود بالشعر لا يمكن حصره أو تعريفه، الشعر يعطيك تعريفه، وليس الجماعة.. أنا أعطيك تعريفه، وليس نحن ، وليس النظرية، إنما (أنا).

* كان الشعراء أيام وجود النظام السابق يحاولون تدليس ما يكتبونه بالاستعارة أو الكناية، الآن انتفت جميع مخاوف التأويل، وأصبح الوضوح سمة أساسية في الشعر العراقي، كيف ترى ذلك؟
- هناك قصيدة غجرية تقول:
ياه...
لقد انتهت الألعاب النارية
يا لها من عزله
يا له من خراب.......
ليس فيها استعارة أو كناية، وكل شيء فيها واضح، لكن فيها الشعر فحسب. المفترض أن يعي الشاعر العراق الآن هذه القضية، كيف ينجز الشعر؟ وليس كيف اقترب من معيار خارجي للشعر؟ إذا كانت النظرية قد أنتجته، أو الجيل، أو أي شيء آخر... لم يعد هناك معيار خارجي، وهذا لا يقتصر على الشعر فقط، بل الرواية وكل الأشكال الأدبية الأخرى.

* وسط هذه الدعوة الصارخة بالحداثة، والتجريب الشعري، خصوصاً ونحن أول بلد أنتج الحداثة العربية الشعرية المعاصرة ابتداءً من السياب ونازك والبياتي، ومروراً بالشعر الستيني وحتى الآن، كيف تبرر عودة القصيدة العمودية منذ بداية التسعينيات وحتى الآن؟
- القصيدة العمودية لم تختفِ لتظهر، فهي موجودة مع ظهور الشعر الحديث، لكن ظهورها على السطح أو غيابها متعلق بالبعد الاجتماعي للثقافة وليس بالبعد الإبداعي. ففي الثمانينيات ظهرت الحاجة للقصيدة العمودية لأنها تمثل بعداً تعبوية للدولة، فظهرت وبرزت أسماء كثيرة على المستوى الإعلامي، ولا أقول على مستوى المنجز الإبداعي، وأصبحت هي الممثلة للشعر العراقي بسبب حاجة الآلة الإعلامية الدعائية التعبوية لها. وكانت السلطة في حينها تريد بعداً انفعالياً وتجييش الناس للحرب.
ومثلما القصيدة الحديثة على المستوى الاجتماعي تخلق أجيالاً لها، كنضوج الشعراء السبعينيين اجتماعياً على يد الشعراء الستينيين، وكذلك الثمانينيين مع السبعينيين وهكذا بالنسبة للتسعينيين، أيضاً الشعراء العموديين كان لهم بعدهم الاجتماعي الثقافي ويتواصلون إلى لحظتنا الحاضرة. تسيد القصيدة العمودية الآن موضوعة اجتماعية ثقافية وليست موضوعة إبداعية، وهذا لا يعني انحسار الشعر الحديث أو انهياره، ولا يعني هذا أن الدولة تريد الشعر العمودي، فالدولة الآن غير معنية بأي شيء على الإطلاق، إنما هناك توظيف اجتماعي ثقافي للشعراء العموديين يجعلهم يحضرون ككتلة وقريبين للمنابر الإعلامية، ولديهم حماسة للنشر وللظهور، وهذا يجعلهم في النهاية ظاهرين وموجودين للعناية... في حين نجد أن الذين يكتبون قصيدة النثر متفرقين على المستوى الاجتماعي، فأغلبهم خارج البلد، ومن بقي منهم لا يعنيهم أن يشكلوا كتلة اجتماعية ثقافية. وشاعر قصيدة النثر شبع نشراً ومنابر إعلامية ولم يعد لديه هوس الظهور كما لدى الشاعر العمودي الجديد. ولكن، هناك إطار عام، ليس في العراق فحسب، بل في أغلب البلدان العربية هو انحسار الاهتمام بالشعر بصورة عامة، هناك حلقة تضيق أكثر فأكثر من المهتمين بقراءة الشعر أياً كان جنسه، وهذا أيضاً يؤثر على حضور القصيدة الحديثة في العراق الآن. والأهم من ذلك نرى أن المتلقي العراقي تتنازعه الآن أجناس إبداعية ووسائل تعبير مختلفة، حتى أن الكتاب نفسه انحسر أمام الصحيفة اليومية، والكتابة في الصحف أيضاً أصبح بمرتبة ثانية أمام الفضائيات والإذاعات.

* قلت في مكان سابق أنك كتبت خمس روايات للوصول إلى روايتك quot;البلد الجميلquot;، هل هذا صحيح؟
- أنا لم أقل هذا، ولكنني قلت بأنني أنجزت روايات سابقة على quot;البلد الجميلquot; لكنني لم أنشرها لشعوري أنها لا تمثلني، وقد أنجزت رواية من خمسة أجزاء اسمها quot;المتلفتquot;، كل البذور النامية في البلد الجميل موجودة في المتلفت، وهي التي وضعت لي إطاراً لكتابة الرواية التي أريدها، ولم أر في حينها أنها صالحة للنشر لهذا لم أقدمها للقراء.

* ما المجال الفكري الذي دفعك للانتقال من الكتابة الشعرية إلى الكتابة السردية؟
- أنا لم انتقل، فلدي اشتغالات مبكرة في أكثر من مجال، فخيار الكتابة الروائية مطروح منذ زمن طويل لدي... ولدي نصوص قصصية كثيرة. وأعتقد أن ما أشِّر من إجادة في بلدي الجميل لم يأتِ من كتابة الرواية الأولى، بل جاء من تركم خبرات متعددة في المجال السردي، وهذا يعزز كلامي بأنني كنت أجرب الكتابة في مجال السرد في الوقت الذي كنت أكتب فيه الشعر، وفي الوقت نفسه كنت أرسم الكاريكاتور، وأصدرت كتاباً فنياً بهذا الشكل باسم (MY HEAD يدي)... فلم تكن هناك انتقاله، لكنك في لحظة ما تشعر بأن لديك تجربة تبحث عن غطائها التعبيري. في الوقت نفسه أجد لدي أن خيار الرواية متقدماً على خيار الشعر.

* ألا ترى أن هذا هو منهج أغلب الكتاب العراقيين الآن، أقصد الاتجاه إلى العالم السردي وخصوصاً الروائي منه؟
- أنا غير معني بتشكيل صورة عامة عن حركة الإبداع في العراق، أنا معني بالبحث عن مفردات لصوت تجربتي، وهذا قادني إلى الانتقال من بُعد اختزالي تبسيطي متمثل بالشعر، إلى بُعد أكثر كثافة وسعة، وهو الرواية... لم تعد القصيدة وحدها قادرة على تأدية كل منطقتي التعبيرية، نعم قد أكتب القصيدة، لكنها ليست المنفذ الوحيد للتعبير عن كل ما أريد قوله. لربما أجد في مرحلة لاحقة أن خيار اشتغالي في الرواية هو خياري الأساسي، لكنني أكره الأطر، والقواعد العامة التي ممكن أن أنطلق منها. أنا لا أعرف ما سيحدث غداً، لكني في هذه اللحظة أشتغل في الرواية، لكن بالضرورة الرواية التي أكتبها تمتاح من كل خبراتي الجمالية والمعرفية، وعلى رأسها الشعر.

* فوزك بجائزة الصدى للرواية، ماذا شكل لك، وهل كان حافزاً للاستمرار في هذه التجربة؟
- فوزي بجائزة الصدى مثل شيئاً مهماً بالنسبة لي، أولاً قيمتها المادية الكبيرة رفعت من مستواي المعيشي، وكان مساعداً رئيساً في وضعي الاقتصادي، الشيء الآخر كان نوعاً من التقييم الجيد لهذا العمل، لكن المفارقة أن وعي الصحافة الثقافية لم يدرك أهمية هذه الرواية إلا بعد فوزها بالجائزة، على الرغم من شهرتها قبل الفوز، لكن الفوز دفع الإعلام للاهتمام بعد، ودفع الكثير من القراء للبحث عنها وقراءتها، أصبح هناك إحساس عام بأهمية هذه الرواية.. واكتشفت أن الوعي النقدي العراقي لا يثق باكتشافاته، إذ إنه دائماً ما يبحث عن مؤثر خارجي لتوجيه قراءاته... وقد حدث الشيء نفسه مع كتابي الكاريكاتوري مع كتابي (MY HEAD) حيث أطلع عليه أغلب النقاد ومحرري الصحف اليومية، ورفضوا نشره بداعي التأويل والتورط مع السلطة، إلا أنه بعد نشره في جريدة أخبار الأدب المصرية ووصول نسخ منها إلى بغداد، سارع المهتمون في المجال الإعلامي إلى إجراء حوارات معي ونشر لوحات كثيرة منه في الصحف العراقية... الغريب إن الاعتراف الخارجي دائماً ما يساهم بتكريسي داخلياً.

* ما سبب ابتعادك عن إقامة معرض تشكيلي خاص بك؟
- هي نفس الأسباب الكاملة لعدم اهتمامي بنشر مجموعاتي الشعرية الجديدة، أشعر بأني سأهدر وقتاً في البحث عن النشر والطبع، أحتاجه في الكتابة والاستمرار بالبحث عن كل جديد يمكن أن يعبر بي إلى مرحلة متقدمة في الكتابة... ومن ثم أشعر بأن الإبداع- إذا كان موجوداً فعلاً في كتاباتي الآن- لن يموت إذا ظهر في أية فترة لاحقة.

* كيف تقرأ المشهد الروائي العراقي الآن، وما المديات التي تتوقع أن يصل إليها؟
- هناك انشداد غير مسبوق لكتابة الرواية في العراق الآن، وطرح أكثر من اسم روائي جديد في السنوات السابقة في الساحة الثقافية العراقية لم يكونوا موجودين سابقاً. وأرى أن الاشتغال الثقافي العراقي القادم سيكون محتواه أسئلة حول الرواية، أكثر من الأجناس الأخرى، وهذه قضية مرحلية وليست تحولاً جذرياً أتوقع لأن أكثر الأجناس الإبداعية التي ظلمت في العراق هي الرواية في أيام الديكتاتورية، كان لدى الشاعر حرية (افتراضية) يستطيع أن ينتج ما يريد من الشعر بخلاف الروائي الذي كانت لديه القضية عسيرة جداً لأنه لا بد أن يتحدث عن أمكنة وتاريخ وسنوات بعينها وشخصيات معينة... لذا كانت الدافعية لكتابة الرواية ضعيفة جداً، ومن كان يدخل في هذا المجال لا بد أن يدخل في مخانق وزوايا ضيقة وتجارب محدودة وصغيرة، لهذا لم نقرأ أعمالاً روائية تثير اهتماماً كبيراً. وبزوال الديكتاتورية أصبحت إغراءات كتابة الرواية أكبر من الكتابة في أي جنس إبداعي آخر، لكن سرعان ما سيستوعب المشتغل في الرواية الأطر الجديدة التي تحد من الحرية، وهي حرية ليست مطلقة قط، إذ إننا نشهد الآن نشوء تابوات جديدة... وأتصور أن هذا الجدل لا ينتهي، أقصد جدل الحرية المفترضة التي ينشد من خلال الروائي كتابة عمله، والحرية الموجودة على الأرض... وهذا هو مولد الإبداع.