حوار مع الكاتب العراقي جاسم عاصي

صفاء ذياب- بغداد: منذ أن بدأ النشر في منتصف ستينيات القرن الماضي، وهو في تغير مستمر، فعرفناه قاصاً أصدر العديد من المجموعات القصصية، منها (خطوط بيانية)، و(الحفيد)، و(صلاة الظهيرة)... ومن ثم أصدر روايته الأولى (الخروج من الدائرة) في العام 1974، ورواية (مستعمرة المياه) وغيرها من الروايات، وكتب في النقد الأدبي، وأصدر العديد من الكتب، خصوصاً على مستوى النقد التطبيقي، منها (المعنى الضامر) عن الروائي مؤنس الرزاز، و(جواب الآفاق) عن خليل السواحلي، و(دلالة النهر في النص)... إلا ما لفت الانتباه إليه بالدرجة الأساس مؤخراً دخوله في عالم جديد من الإبداع، وهو دراسة الأسطورة والتراث العراقي القديم من خلال الأسطورة السومرية والبابلية...
عن صراع الأجيال، والقصة والرواية العراقية، وحقل الأساطير الذي أسهم فيه بشكل فعال، في الوقت الذي ينزع أغلب الباحثين للنزوح بعيداً عن هذا الحقل لتجنب الكثير من المشاكل الذي تنجم عنه، كان لإيلاف هذا الحوار مع الكاتب العراقي جاسم عاصي:

* بدأت الكتابة القصصية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي, هـــــــل تستطيع أن تعطينا مقارنة بين أسلوبك الكتابي فــــي تلك الفترة والتطورات التي طرأت عـليه؟
- الكتابة
فن وحرفة وإبداع، وأداة وظيفية. كل هذا مرهون بالوعي ومستواه المتعلق بتجديد النظرة إلى الكون وحركته، وإلى الظواهر وتبدلها. وأنا هنا لا أريد أن أُُضعف بنية الكتابة كإبداع في الأساس، وإنما أُُشير إلى أنها إبداع ذا وظيفة. والمنتج له دور في الواقعـة بشكلها العام والخاص. وعـندي كذلك أن الشكل ينتج المعنى، أو يشكل معه حالة جدلية ذات تماس بأدق علاقاتهما مع بعـض. فتصعـيد الوعي يعني بلوغ مرتبة في وجهة النظر إلى الواقع وحركته، ومن ثم يلزم المنتج عـلى أن يختار الأساليب والأشكال التي من شأنها تأصيل واقع النص المـُنتج. من هذه المنطلقات، كان ويكون وسوف يكون تعاملي مع الواقعة التي أروم عكسها في النص من جهة، وفي انسياقي إلى الشكل الذي تخلقه طبيعة الكشف والدالات في زمن سير النص وتشكله. فقصصي عـبر سبع مجموعات كان لها ممارسات وتعامل متغير مع الشكل واللغة، وكان يداخلها استخدامات وتوظيفات نمـّت عن وعي كتابة النص السردي، ووعي المتغير. لكني بطبيعة الحال لا أنسحب إلى التجريب المفرط على حساب المعنى. فأنت كمنتج أمامك وظيفة في نص ورسالة عبره، تحاول جاهداًً أن توصل ما تريد توصيله، لذا يتوجب المحافظة على التوازن الداخلي للنص، وليس إرباك أجوائه. فالنص يعتمد على فكرة، والفكرة تتحقق على وفق نسق ومحتوى. هنا ينبغي السعي لإحداث التوازن والتعادل. لقد حاولت أن أستخدم أساليب كثيرة؛ منها تفعيل الأسطورة والحكاية داخل النص، واختيار أطر حكائية كإطار كتاب الليالي، وإحداث تناصات مع دالات تؤشر ما وراء النص. كذلك اسخدمت الهامش بعدِّهِ أداة للتعبير واستكمالاً المعنى. وكان أكثر اشتغالي على التجريب في الرواية، لأن النص القصصي ذو حيز متماسك ومحدود، في حين أن الرواية لها متسع من الفضاء يتيح للمنتج فرصة الاشتغال. فمثلاً في رواية (مستعمرة المياه) كانت الفصول لا تربطها سببية التوالي، بقدر ما يشدها المعنى العام. فالحدث الرئيس يتجمع من أحداث في فصول مستقلة يمكن قراءتها منفردة، إذ تحقق لك متعة قراءة قصة قصيرة. ناهيك عن استخدام الأساليب المختلفة وضمائر السرد المتعددة. أما في رواية (ابتكار المدن) فقد استخدمت أسلوب تداخل روايات في رواية، عبر مخطوطات لمرويات مدونة، تكون بمثابة الدالة الواصلة للحدث العام. ثم استخدمت نمط الرواية المدورة- إن جاز التعبير-، وهو أسلوب يستخدم في كتابة الشعر. غير أني أعطي معناً لظاهرة قاهرة. في حين تجد في رواية (المكعبات الحجرية) فقد استثمرت أسلوب الملفات أو المجرات في الكشف عن سيرة الشخصية وفعاليتها، وبعض هذه الشخصيات يضيق أمامها المجال في النص الروائي فترجئ عملها إلى رواية أخرى ينوه عنها داخل النص. كذلك فعلت مع رواية (انزياح الحجاب ما بعد الغياب)، فالتدوير فيها واضح وله دلالة، حيث شكل الفصل الأول خاتمة في الفصل الأخير، وتوالي اسم النموذج نفسه على طول العمل الروائي على الرغم من اختلاف طبيعة الشخصية. إذ لا يوجد نموذج مركزي تدور حوله الأحداث والمتغيرات، وهي شخصية (سعيد الناصري)، الأمر الذي دفعني إلى مقتربات جعلت الشخصية هذه تتناص مع شخصيات تأريخية وأخرى معاصرة. كما وأني أرخت، كما في أعمالي الأخرى، للمكان؛ وكان مغتسل المخيم في كربلاء هو المكان الأثير الذي تدور فيه أحداث الرواية.

* كيف تنظر لصراع الأجيال، وتأسيس الحداثة التي بدأها الستينيون، في ظل المتغيرات الأسلوبية التي حاول جيلكم المناداة بها، وفي ظل البيانات التي كان الخلاف عليــها بأوجِّهِ في تلك الفترة...؟
- أرى أن السؤال يتجزأ إلى أسئلة موصولة لبعضها، بسبب تناولك أكثر من ظاهرة في مرحلة ستينيات القرن الماضي، وأولها صراع الأجيال، أو بالأحرى صراع جيل الستينيات- إن صح التعبير- مع الواقع المتغير والسلبي. إذ تعددت مصادر الاستلاب وضياع الهوية بسبب صعود البرجوازية ذات المسعى التسلطي والميكيافيلي. وأزاء متغيرات الوضع، وبالأخص نكسة ثورة 14 تموز في العام 1958 وتذبذب توجهاتها، بسبب تداخل الصراعات السياسية، ثم واقع القضية الفلسطينية وتوالي وقائعها التي كانت في معظمها سلبية وذات تأثير في البنية السياسية في الواقع العربي، سيما صعود البرجوازية إلى السلطة وغياب دور الشعب ونخبه المثقفة. كل هذا لم يكن الستينيون بمعزل عنه، سواء في الساحة العراقية أو العربية. ففعل المنتج الستيني كان بمثابة رد فعل للظواهر السلبية التي غلفت الواقع السياسي العربي. وأرى في هذا؛ أن الستينيين وضمن نظرتهم إلى اتخاذ الموقف المغاير الذي يعكس احتجاجهم، بأن عمدوا إلى تفكيك الشكل أو المعمار للنص على صعيد كل الأجناس، بديلاً عن تفكيك بنية الواقع، فأنت ترى تفكيكاً لمرتكزات بناء للنص، مقابل تغييب لوضوح المعنى، أو الارتباك في طرحه، بما يشبه التشويش. كذلك عملوا على اللعب باللغة وإتباع الأساليب المختلفة ومنها السريالية على سبيل المثال، بسبب تسارع عملية الترجمة التي تبنتها مجلة الآداب البيروتية. وفي ذلك لا بد من النظر إلى نتاج (أنور الغساني وجمعة اللامي) كأبرز من اشتغل على التجريب، والدخول إلى المعاني ذات المناخ الوجودي والعدمي، وإلى ما هنالك من استخدامات لدى الستينيين. كل هذا بدا يدور في فلك التحدي والتمرد على بنية الواقع السياسي حصراً. أما في شأن ما كان ينادي به الستينيون، فقد كان على مستوى الحداثة قد حقق شيئاً من مواكبة المتغير على وفق أساليب لم تكن تجتمع في إطار موحد، وإنما كان كل الذي جرى في تحديث النص هو محض فعاليات فردية لها مبرراتها وخصائصها الذاتية ومرجعيتها المعرفية التي رشحت هذا الاتجاه أو ذاك. وما البيانات سوى ناتج لمثل هذه الإرهاصات والصراعات مع الواقع آنذاك. وقد حاول معــدو البيانات سواء أكان في الشعر أو التشكيل. سيما ما كان يكتبه الراحل الفنان (شاكر حسن آل سعيد) والفنان (شاكر رزيج فرج) على صفحات ملحق جريدة الجمهورية إبان الستينيات من القرن الماضي، تحت باب (التأملات). وهي بمثابة توحد للأصوات، ووعي الضرورة التي قادت الفن إلى مستقرات مهامه ووظائفه. أما على صعيد الجهد الفردي، فإنها حققت رؤى متقدمة للفن والحياة.

* تنقلت في الكتابة بين العديد من أنواع الكتابة السردية. إذ بدأت بالقصة القصيرة ومن ثم النقد الأدبي والرواية ونصوص المكان. هل كان هــذا تطوراً أسلوبياً، أو هو البحث عن جديد تصب فيــه أفكارك المقـترحة بوصفك ناقـداً أصدر أكثر مـن كتاب في النقـد التطبيقي. وكيف يختار الناقد فضاءه التطبيقي في بحثه النظري ..؟
- بخصوص تنقلي بين ضروب الكتابة السردية، والنقد الأدبي والرواية ونصوص المكان؛ أعتقد أن هذا أمر طبيعي، لأنه يرتكن إلى دوافع شعورية ومعرفية. فما زالت هناك طاقة في التعبير، فلا ضير من اختيار الضرب الذي يمكن تنفيذ وعكس الأفكار من خلاله. فالمقياس لذلك لا يخص التطور في الأساليب أو عدمه، بقدر ما ينصـّب على المعرفة بالوظائف والقدرة على تنفيذها. فالسرد وملحقاته الأخرى هو خاصية ذاتية عندي، أما النقد فهو عمل يخص الرؤيا والفحص ويرتبط بالآلية والثقافة، فهو مواكب لفعل السرد عندي منذ الستينيات، إذ ابتدئ بعروض الكتب التي لم تخل من وجهة نظر نقدية، وتكرر هذا بفعل المراس والمعرفة والبحث في كتب التراث فيما يخص كتّاب مثل (طه حسين والعقاد وأحمد أبو سعيد وسارتر وكولن ولسون) وغيرهم. فما تسميه بالنقد التطبيقي أسميه أنا بنقد يجمع العديد من مناهج النقد الأخرى على وفق ما يعطيه النص الإبداعي.

* عــشت مدة طويلة في مدينة الناصرية، والآن أنت مقيم في كربلاء، في هذا الوقت قرأنا لك كتابات في المكان تحدثت فيها عــن البصرة. كيف تنظر إلى تجذرك في هذه الأماكن كلها؟ وما الشعـور الذي تحمله لـ(المكان) بوصفك قاصاً وروائياً؟
- أولا، أود أن أذكر لك أني بحكم الظروف توزعـت بين المدن. وطبيعـي أن أكون وفياً للمكان فيها. لكن الذي يتحكم في كل هذا هو الحس الصوفي الذي يربطني أساساً بالمكان، أنا أنظر إلى الزوايا والمنعـطفات والجروف، فتبدو لي الأماكن بمثابة قصائد أقرأها دائماً، أو أسمعـها تتردد على أفواه الشعراء، سواء من خلال الذاكرة أو المرئي. غــير أن ما هو خزين في الذاكرة يثير إحساسه بالفقدان، وأزاء هذا ليس أمامي سوى اللجوء إلى ما أتمكن من استعادته في النص... وسبب لي ذلك حالة الغربة الروحية التي تداهمني دائماً، فما أن أحل في مكان، حتى أحـنّ إلى الآخر البعيد أو القريب، أو المندثر... فالحنين نشيد دائم لي أكتبه كتعويض عـن المكان في النص. ولدي العـديد من الروايات والقصص، ذاكرة المكان ودراسة الشخصيات الهامشية والشعبية في مدينة الناصرية ورموزها السياسية أنوي نشرها. فالناصرية هي الرحم الذي خرجت منه صارخاً، حيث أغفلت القابلة قطع حبل المشيمة . ولها فضل عليّ حين سهت عن ذلك. في هذا كنت أنظر إلى الأمكنة بعمق وفحص دائم، سيما الشرسة منها، والمشكلة أن أمامي أنفاقاً تنفتح وتواجهني بإغراء دائم. وقد جسدت هذا في رواية (المكعبات الحجرية). أما بشأن مدينة البصرة، والإحساس الذي تجسد في كتابي (نهوض الذاكرة) الصادر عـام 2002 في بغـداد؛ فإنه محاولة مني لرصد المكان الذي احتضن طفولتي، ومحاولة لتفقده في أصعـب ظروف الحرب. لقد أحسست أن طفولتي مهددة، فسارعت إلى مكان الطفولة. أما بشأن الجذر، فأعـتقد أن جذري نابت في أرض وطني وموزع بين أرض سومر وآشور وكربلاء وبابل. أنا نبات يتحول من مكان إلى آخر ليجري تخصيباً وإثراءً للنوع. بمعنى أُدير حواراً مع الأمكنة لأردم الهوة بينها، والأخذ من حكمتها المتأتية من فيوض المعـرفة الأزلية.

* نرى أنك في أغــلب كتاباتك السردية تنزع نحو الأساطير. ما الذي يجذبك في الأسطورة لكي تؤسس عـليها نصك الإبداعـي؟
- هذا السؤال له عـلاقة بالذي قبله، وحصراً في كوني من أرض الجنوب، حيث الأساطير. أي أني أعـيش بعـلاقة جدلية مع الأسطورة، التي تحقق وجودي الجمالي عـبر النص. فالكتابة عـندي دائماً تنحرف بهذا الاتجاه. وهذا بطبيعـة الحال لا يظهر من خلال وجه معـرفي، إنما تقود السليقة في أحسن أحوالها إلى ذلك. فمسار النص يتجه نحو الأسطورة حين أوجد في وسط اشتباك فكري أخلاقي، إذ أرى من منطق ما أفهم، أن الأسطورة هنا تحقق وظيفتي، ومن ثم وجودي كمعبر عن واقع. وأحياناً أنحرف بالأسطورة ولا أأسس إلاّ على بعـض مثاباتها، انطلاقاً من مبدأ- تقشير الأسطورة-، إذ أُخلّقها من جديد. وهذا ما حدث عـندي في رواية (ما قيل وما سوف) أو في رواية (ابتكار المدن). أما في رواية (انزياح الحجاب ما قبل الغياب)؛ فكان لدي محاولة لأسطرة النماذج والأمكنة، وسير الأحداث، وذلك في إبعـاد التسلسل المنطقي لها، والتعويض عنه من منطلق الرؤيا. فالأسطورة هنا قناع للتعـبير ليس بالضرورة يكون محكوماً بالظرف الموضوعي الصعـب والقاسي، وإنما هو أداة تعـبير وبلاغة وتورية. فالذي يجذبني في الأسطورة سحرها وقدرتها على الدلالة التي لا تنضب فيها المعاني، فهي دالات لدلالات تصلح لكل زمان ومكان.

* قلت في حديث خاص؛ إن الأسطورة هي حياتنا. لماذا الأسطورة...؟ وهل ترى أن الوجود الإنساني يتجلى في الأسطورة؟
- وما زلت أقول هذا، لأنها أداة توصيف وتعـبير، فالأسطورة ليست حكاية تتلى فحسب، بل هي مرشحة للفكر والبنى الأخلاقية، لذا أرى فيها غـنى وإثراء للنص. وهذه خاصية ذاتية. فمثلاً لو نظرت إلى قصص (مملكة الانعـكاسات الضوئية) لجليل القيسي فماذا ترى غـير استثمار للأسطورة والتناص والمخيال السردي المتطرف الذي قاد إلى ما وراء الواقع، إذ اقتربت بعض مفردات النص من نص الخيال العـلمي. لكن النصوص عـبرت ببلاغة كبيرة، أغنت النص ووضعته في مرتبة كونه شاهـد عـصر. وأكيد أن (القيسي) كان وما زال يرى أهمية هذا المنحى لإحياء النص وإثرائه. وكذلك فعـل (محمود جنداري وناجح المعـموري ولطفية الدليمي وحازم الصافي) وغيرهم. إن الوجود الإنساني لا يمكن حصره في الأسطورة فقط، وإنما الأسطورة واحدة من تلك التجليات، فهنالك التأريخ والميثولوجيا والوقائع والسيّر والوثائق. فهي داعـمة للنص ومفجرة لطاقاته، إذا ما أحسن استخدامها، وإذا ما حصلت في التوصلات إلى كونها ضرورة وحتمية و ليست صنعة.

* يقول رولو ماي؛ بأن العـنف الشديد في المجتمع الأمريكي مرده إلى عـدم وجود أساطير كبرى. ما الذي تثيره الأساطير من توازن اجتماعـي يمكن أن ينظم حياتنا بشكل عـام ومجتمعـنا بشكل خاص...؟
- من الطبيعي القول إن الأسطورة إرث وجذر ومتشكل أول. بمعـنى أن هناك امتداداً عـميقاً وغـائراً في لحمة الوجود. وهذا ينعكس على الواقع ويعـطي له عنواناً واضحاً يسهم في صناعة مسيرة المجتمع. فالمجتمع الأمريكي بكل تشكلاته يمتلك أساطيره، غـير أنه لا يمتلك أسطورة كبيرة، لأنه شعـب غير متجانس، فالأقوام التي شكلته ككيان، جلبت معـها أساطيرها ومارست فعلها داخل المجتمع، ولكن على صعيد ما ذكرت لم تستطع أن تطرح نفسها بالشكل الذي يمنحها هوية واضحة. وأعـني بها هوية الأسطورة الوطنية. وعلى عكس ذلك عند شعوب الشرق، فإن لها أساطيرها المناطقية، تضاف إلى أسطورتها المركزية المتجسدة في الملاحم والمأثورات الكبيرة: كأسطورة الخلق البابلية (اينوما إليش) أو مسلة حمورابي، وفلسفة وحكمة (أحيقار) على سبيل المثال. وطبيعي أيضاً أن يكون هناك توازن اجتماعي إذا ما أُشبعـت الذاكرة المعرفية بمعرفة تلك الرموز من الأساطير والحكايات، وغدت بمتناول المعرفة الذاتية والجمعية، وإذا ما نظمت المناهج الدراسية على أساس إنضاج العقل البشري وليس تحديده بالجامد من الأيقونات التي تتحكم بالعقل وتعطله، بحيث لا يستطيع الحوار والمطاولة والعطاء، نحن بحاجة إلى مناهج محفزة للعقل لكي يتحد النشئ ويتربى على احترام نفسه وامتلاك إرادته. وهذا ما فعلته الشعوب الأخرى التي نطلق عليها كونها تخلو من أساطير كبيرة، في أنها لم تستسلم لمثل هذا القدر في التشكل. فالنظرة الشعبية صائبة، فهي تنظر من منظار كوننا نمتلك كل شيئاً ولكننا لا نمتلك أدوات استثمار هذه الثروات، والثروات المعرفية والأساطير واحدة منها، فهي ثروة كالنفط والأرض والقوى البشرية. فلو نظرت إلى المناهج الدراسية فأنك لا تحصد من ورائها سوى البلبلة وخلق العـجز، ناهيك عن كادر التعليم. أنا أسوق مثل هذا لأني أرى أن الحياة متلازمة الأطراف وذات عقد هارموني، فلو فُرط في إحدى هذه العقد فالخراب آت، وهذا ما حصل مع السلفيين، وما سيحصل معنا إذا ما ضعنا وسط النموذج والأداء والانقياد وراء الكارزما التأريخية الجاهزة، واتبعنا حالة الخوف والقدرية. نحن بحاجة إلى أيديولوجية انقلابية، كما قال في الستينيات المفكر (نديم البيطار)، بمعنى الانقلاب على الذات وخلق نسقها الجديد. كيف..؟ هذا هو السؤال المركزي الذي نعمل على تلبية جوابه أنت وأنا والآخرون، على صعيد الذات وليس المؤسسة أو الدولة. وأني اشك في إمكانية صنع الحياة التي نريد لهذا الشعب. والأمر مرتبط بالكثير من الأمور يعرفها الجميع، ولا يستطيع الفرد أن يغيره لأنه لا ينتمي إلا إلى نفسه، والمثقف يعمل على مشروع مجزّأ.
ما أريد التوصل إليه هو أن الأسطورة احد دعائم تشكيل المجتمع والحياة، لأنها تنبني على أسس علمية ومعـرفة خاصة.

* الطقوس الأسطورية فقدت قوتها الآن، ولكننا نرى أن بعض ملامح حياتنا لا تتجاوز أن تكون نوعـاً من هذه الطقوس، إذ أصبح الكثير من الناس يبني حياته الداخلية بناء على بعضها. هـــــل يمكن أن نعيد توازننا النفسي والاجتماعي من خلال العودة لممارسة الطقوس الأسطورية..؟
- الطقوس غير الأساطير، وهي المثابات الأولى والمهاد التطبيقي لها ولمنشأ الأسطورة. لكن بتقادم الزمن أصبح الطقس أسطورة، بمعنى أنه اتخذ له متناً معرفياً وسياقياً، فهو في ما مضى عبارة عن نسق للحياة، ومن ثم ترشحت منه بنى فكرية. لذا أرى أن مداولة الأسطورة عبر مدخلها الفكري تعطي أهميتها وفعلها من أهميتها في بناء التوازن، ذلك لأنها تقدم قناعات للفرد والمجموعة في مجال الانتماء إلى المنظومة الاجتماعية، أي الانتماء إلى الجذور. ويتوجب هذا السير مطلقاً منها، أي من المعرفة وليس من التقليد والإعادة غير الواعية. نحن ملزمون بصياغة أساطيرنا الجديدة وبمنطق العصر، والذي ليس له أساطير سابقة لا يحقق هذا. إن عودتنا لممارسة خلق الأساطير طقسياً يعني عودتنا- كما ذكر مرسيا إلياد- في (العود الأبدي)، إلى البدائية، وما تعنيه في حضور الأسطورة كفكر وليس كأداء معـطلة للفاعلية الإنسانية. لا بد أن تكون الأسطورة معينة لنا داخل النص الذي هو مرآة للآخر. أما على صعيد المسرح مثلاً، فيمكن أن تكون الطقوس الأسطورية بمثابة متشكلات فنية رافدة للنص أو العرض المسرحي، كما فعل المسرحي الراحل (عوني كرومي). وما ممارسة طقوس عاشوراء في كربلاء إلا نوع من مسرحة الواقعة والعبور بها إلى مصاف العبرة في التكرار، وهنا يتطلب من الفن والعقل الفني التدخل لعقلنة هذه الطقوس لكي لا تتحول إلى بكائيات فقط، تزول العبرة بانتهاء الطقس.

* العراق وطن الأساطير الأولى، كيف تقوّم النتاج المعرفي والنقدي للباحثين العراقيين في الأسطورة؟ وهل تتوقع أن نقادنا يمكن أن ينجزوا شيئاً مهماً في هذا المجال من خلال إطلاعك على منجز أغلب المهتمين بالأسطورة في العراق؟
- هنا لا بد من التفريق بين الباحث في الأسطورة والناقد للنصوص التي توظف الأسطورة. فالباحثون ينقسمون إلى باحث يتابع مواطنها آثارياً، بمعنى البحث والتنقيب وتقديم المعلومة كخامة يرتكز عليها قسم من الباحثين. ذلك لأن الفريق الأول لا يتجاوز في قراءتها إلا في استثناءات قليلة، في حين ان الباحث الثاني يمتلك الجرأة بما يمتلكه من أداة بحثية جديدة (حفرية معرفية)، وهؤلاء أنت تعرفهم على الصعيد العالمي والعربي والعراقي. لكني أرى منجزاً لدى الباحث العراقي اتخذ وسيتخذ له مكانة بين مجموع الدارسين والباحثين الآخرين، لأنه يمتلك الجرأة في تناول المقدس وتفكيكه. أما في مجال النقد الأدبي بهذا الخصوص، فأمر لم يتحقق بعد بشكل يؤشر حالة التداول، فالنقاد حين يتناولون نصوصاً من هذا النوع تأخذهم الريبة وتعطلهم نظرة التشاؤم في نجاح مثل هذا المسعى، لذا فهم لا يطرحون الرأي المستند إلى حقائق معرفية بالأسطورة، بل هي مجموعة اعتراضات وشكوك تنم عن فراغ معرفي في هذا المجال وضروراته. الناقد في هذا المجال لا بد أن يكون متسلحاً بالمعرفة الأسطورية، ذلك لأن بعض النصوص لا تعلن عن متونها وأخرى تحاول أسطرة الواقع بالاستناد إلى أساطير مخفية. كيف يمكن اكتشافها لمحاورتها إذا لم تكن هناك معرفة بهذا الشأن؟ لا بد للناقد هنا أن يميز بين ما هو أصيل أو مبتكر لكي يحاجج النص. ثمة أطروحات في هذا المجال، اخص بالذكر منها رسالة الماجستير للقاص (فرج ياسين) المعنونة (توظيف الموروث في النص القصصي) وقد صدرت في كتاب عن دار الشؤون الثقافية في بغداد.

.